سوريو جسر الكولا
1
في الساعة الرابعة صباحاً، تسلّل كل من عصام وجميل إلى تحت جسر الكولا في بيروت. وفي يد كل منهما سيكارة حشيشة راحا يمجان دخانها وهما في حالة من الانتشاء، يرددان مترنمين أغنية لوديع الصافي، إلى أن انتبه جميل لرجل يقعد في الزاوية، ورأسه بين يديه، وكأنه نائم.قال جميل: انظر.التفت عصام قائلاً: لعله شحّاذ. قال جميل: لا يبدو شحّاذًا، ربما واحد من هؤلاء السوريين. أجاب زميله: هكذا يبدو.استغرب عصام. ففي هذا البرد القارس كيف استطاع هذا الرجل أن ينام؟ أجابه جميل: هودي متعودين. اقترب عصام: إنه نائم فعلاً.اقترب جميل من الرجل الذي بدا نائمًا بعمق. قال: يبدو شيخًا، لعله في الستين، شعره كله أبيض. قال عصام: هودي السوريين. بيبعتولنا، دائمًا، قذارتهم، بيشتغلوا بأقل ما بيشتغل فيه العامل اللبناني، يعني باختصار، بياخدوا لقمة الخبز من فم العامل اللبناني. أجاب جميل: الله يلعنن ويلعن دولتهم. وجع راسنا كله دائمًا من تحت راسهم.كان قد مضى على اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، بضعة شهور، وصارت الشكوك متجهة نحو البلد الشقيق سوريا، أنه وراء تدبير هذه الجريمة.لم ينتبه عصام لجميل الذي اقترب من الرجل النائم. ثم فك سحّاب بنطاله وأخذ يبول عليه. لكن الرجل النائم لم يتحرك. قال عصام: العمى.. شو نومه عميق.. أجابه جميل: فعلاً: ربما ميّت، ثم دفعه بقدمه فانقلب النائم على جنبه، منحنيًا كما كان ورأسه بين راحتيه.فوجئ الرجلان، صاح عصام: إنه ميت، فدفعه جميل بقدمه مرة ثانية، ثم قال: حقًا.. إنه ميت.كانا يدخنان سيكارتيهما بشراهة، فقال جميل: تعال لنرى ماذا معه؛ إلا أن عصامًا خشي ذلك، وقال: دعنا منه... ولنترك هذا المكان. فلم يأبه جميل، أقعى إلى جانب الجثة وراح يفتش ملابسها، فعثر على مبلغ ثلاثمائة دولار، وخمسة آلاف ليرة سورية، وعشرين ألف ليرة لبنانية. ثم بطاقة هوية وقسيمة دخول إلى لبنان، قال لرفيقه: تعال ساعدني. فسأله: ماذا تريد أن أفعل؟ أجاب: لنرمه في حاوية القمامة، ونتخلص منه.تعاونا معًا ورميا بالجثة في حاوية قريبة للقمامة. كان الفجر قد بدأ يبدد ظلام المدينة عندما جاءت سيارة البلدية، فرفع عمال التنظيفات الحاوية إلى طرف الشاحنة، التي سرعان ما ابتلعت القمامة وفي جوفها جثة الرجل الستيني.قال جميل: أوف! تخلصنا منه. ثم اقتسما المال الذي عثرا عليه في جيوب الرجل الميت. قال عصام: صيد من دون جهد. لنذهب إلى أبي رامي نشتري حشيشة، قال جميل: قد يكون نائمًا.. أجاب: نوقظه.. إذا شمّ رائحة الدولار فسيركض نحونا مثل الكلب.أسرعا إلى بيت أبي رامي القريب من الجامعة العربية، وفعلاً كانت رائحة الدولار قد وصلت إلى الطبقة الثانية من بناية قديمة، فأطل أبو رامي وصاح: نازل. 2ظلت أم خالد على قلق شديد، خوفًا من أن يكون أبو خالد قد سافر إلى حلب بحثًا عن عروس، كما كان يهددها باستمرار. هتفت لابنها من عند أبي حسين البقّال تسأله عن أبيه، فقال لها إنه تركه تحت جسر الكولا منتظرًا الباص الذي سيسافر إلى حلب باكرًا ومنها إلى عفرين. وأنه قد أعطاه ثلاثمائة دولار عدًّا ونقدًا. وأنه قبّل جبينه ويديه ليحمل هذه الأمانة لك، من أجل أخيه الصغير الطالب في الصف الثامن ثانوي لمتابعة دراسته. فقد كان خالد وأخوه حسن وأبوه وأمه يتوسمون الخير في هذا الفتى، لأنه يحب المدرسة والدراسة.كان لخالد وأخيه حسن رفقة من العمال السوريين الذين يتوزعون في مناطق لبنان، يعملون من شروق الشمس حتى مغيبها. وينامون معه في غرفته في قبو البناية التي يعمل فيها ناطورًا. وهي بناية فخمة حديثة تقع قرب عين التينة في بيروت. وقد أحبه سكان البناية جميعًا. ووثقوا به، لدماثة أخلاقه وجهده في جعل البناية أنظف عشر مرات من البنايات المجاورة. من طبقتها الثالثة عشرة حتى القبو، يعمل من دون توقف، ويتحرك على دراجته النارية إلى أي مكان يرسلونه إليه، مثل الطيارة، كما كانوا يصفونه، هو نفسه أحب هؤلاء السكان الذين اعتبرهم مثل أهله، فأخلص لهم بيتًا بيتًا، ولعله شعر الآن أنه بات مستقرًا إلى أمد طويل، فيستطيع ذات يوم أن يتزوج وينجب عشرة أولاد. كان خالد يحب سكان البناية كلهم. حتى أن صاحبها رجل الأعمال، الذي يقيم في الطبقة الثالثة عشرة، والذي جعل من شققه الثلاث، شقة واحدة أشبه بالقصر مفتوحة صالوناتها بعضها على بعض، طلب إلى خالد أن يتعلم قيادة السيارة كي يضع بتصرفه فانًا خاصًا لنقل أولاد العائلات المقيمة في هذه البناية، إلى مدارسهم بنفسه، لأن ذلك أكثر أمانًا من باص المدارس في هذه الأيام، التي كثرت فيها العصابات التي يخطف أفرادها أولاد الأثرياء من أجل الحصول على فدية. إذ يتذكر خالد فعلاً، تلك الحادثة التي اختطف فيها بسام أحد أبناء عائلة من عائلات البناية، وهو يصعد إلى باص المدرسة. في صباح ذات يوم، شاهد الحادث بأم عينه، عندما كان بسام يلوّح لأنه الواقفة على شرفة الطبقة الثانية مودعًا. وفي لحظات خاطفة، وهو يهم بصعود الباص، انقض عليه رجلان وحملاه عنوةً إلى سيارتهما المتوقفة قرب المدخل. حدث ذلك كله بسرعة مذهلة لم تسمح لخالد باللحاق بالخاطفين.لكنه استطاع أن يلتقط رقم السيارة. وبين صراخ الأم ودهشة الناس من سرعة خطف بسام، اختلط الحابل بالنابل. وشاع خوف بين السكان وسكان الأبنية المجاورة على مصير أبنائهم.لكن الناس كانوا في واد، وأم خالد في واد آخر.. أين ذهب زوجها بالمال. وكيف اختفى؟ ومن هي المرأة العاهرة التي سيصرف عليها هذا المبلغ الكبير الذي جمعه ولداه من أجل أمهما وولدها شقيقهما الصغير؟! هذا الذي له نباهة شاب في العشرين، فهو يردد على مسامع أمه أنه سيكون في المستقبل طبيبًا، حتى يعالج أمه وأباه من أمراضهما، بل ليعالج أهل الضيعة من دون أن يتقاضى منهم أجرًا.. كانت الأم خصوصًا، تتوسم فيه كل الخير، فهي تقول لصغيرها: أيمتى يا حبيبي أيمتى؟ قلبي تعبان من الشغل. تذهب كل يوم من الضيعة إلى حلب فتعمل خادمة في أحد المطاعم المشهورة، تغسل الصحون على مدى عشر ساعات وهي واقفة على قدميها.3هم السوريون من مناطق مختلفة في سوريا. يظنون أنهم يجدون فرص عمل في لبنان أفضل بكثير من بلدهم. يحاولون في بلدهم حيث يسمّيهم تجار البناء «الفعالة»، أي الذين يعملون كل يوم بيومه، يجيئون من مختلف القرى البعيدة والقريبة بحثًا عن عمل ولو لقوت يوم واحد، فشح المياه جعل البساتين يبابًا، ولم يعد التراب يثمر حتى ولو بدمع العيون. أكثر المدن التي كانت تستوعبهم هي دمشق التي توسعت عمرانيًا عشرة أضعاف مساحتها الأساسية، فتداخلت فيها كل القرى المحيطة، بل إن قرى بذاتها اختفت عن الأرض لتصبح شوارع وحدائق وأسواقًا حديثة تشبه أسواق لندن وباريس. مثال على ذلك بلدة كفرسوسة التي كانت تبعد عن دمشق حوالى خمسة عشر كيلو مترًا أو أكثر أصبحت الآن داخلة في نطاق العاصمة، وفيها شقة شوارع حديثة ذات أبنية عملاقة وتنظيم مذهل لمتفرعاتها حتى باتت وجه دمشق العاصمة، فأُنشئت فيها مبانٍ حكومية ذات هندسة بارعة وجميلة مثل مبنى مجلس الوزراء، ووزارتي الداخلية والخارجية. ويبدو أن كل دوائر الدولة ستنتقل إلى هذه المنطقة. وأدرك شباب القرى القريبة والبعيدة أن فرص العمل أصبحت متوافرة لهم في دمشق الحديثة وفي مشاريع دمّر، والشام الجديدة. ولم يكن يتجاوز أجر يوم العمل أكثر من ثلاثمائة ليرة سورية. ولكن من فاض من هؤلاء وُجدوا في لبنان الأقرب إلى سوريا، بل بعضهم من الذين تعلموا في المدارس، كانوا يتصورون أن البلدين بلد واحد. ولكن الأجر هنا فى لبنان، وفي بيروت بالذات، لا يقل عن عشرة دولارات في اليوم، فإذا استاجر عشرة منهم غرفة في مبنى يشاد حديثًا وافترشوا الأرض وناموا متلاصقين، فستكون الغلة أوفر مما في بلدهم. فيتعاونون فيما بينهم حتى على اقتسام لقمة الخبز، وبما يتاح لهم من توفير قرشهم الأبيض لليوم الأسود، والأيام السوداء كما قال أحدهم عشرة أضعاف الأيام البيضاء. وكان خالد قد سخر ذات يوم من شيء اسمه «عيد العمال» وقال لماذا لا يقولون الحقيقة ويسمونه «عيد الجوعانين!» لكن ماهرًا المثقف يقول لرفاقه: «نحن طبقة البروليتاريا» فيسخر منه عبد العظيم: ماذا تقول؟.. شو؟.. بروليتاريا.. يا حمار يعني الطبقة العاملة. فيسأله: طبقة عاملة.. شو يعني؟ فيجيبه أنك جاهل.. بروليتاريا نظرية لكارل ماركس في البيان الشيوعي.. يعنى يا حمار نحنا شريحة من المجتمع تبيع نفسها جسدًا وروحًا لرب العمل. يعني نبيع عملنا له بالأجرة اليومية، وتتوقف حياتنا ووجودنا حسب حاجة رب العمل لنا. من هنا، يجب أن نربي عضلاتنا ونقويها حتى نتحمل العمل، لأن، هؤلاء، أصحاب هذه البنايات، هنا في بيروت وهناك في الشام بحاجة إلى جهودنا وقوة عضلاتنا سواء في أعمال البناء أو في البنى التحتية مثل مجارير الصرف، يعني يا أبله أن نعيش على ريحة خراهم! سمعت، خراهم!هناك في الساحات، وعلى أطراف المجمعات السكنية ينتظر هؤلاء إشارة من إصبع أحد التجار.. يتهافتون عليه. وينادونه: الله يخليك خدني أنا.. ويتباهى ناصر بنفخ عضلات ساعديه: شوف يا سيدي بحمل أكبر صخرة وأكبر كيس شمينتو.. لكن هذا التاجر لا يأخذ إلا اثنين أو ثلاثة لينتظر الباقون حظهم مع تاجر آخر.ويتجمع الفائض منهم من دون أن يعرف بعضهم بعضًا، ثم ينساقون كالغنم إلى أحد الباصات إلى بيروت، كما كان يسميها ناصر: باريس الشرق، وبين هؤلاء متخرجو جامعات لم يجدوا أي فرصة في بلدهم، حيث البطالة خمسة وعشرون بالمئة من عدد السكان، عدا المياومين الذين يشتغلون بالساعة وليس باليوم. والجوع يأكل أكبادهم.يتذكر ماهر الذي كان الناجح الثالث من ببن الطلاب في البكالوريا السورية، كيف تسلل إلى بيروت ليعمل في مهن عديدة من أجل أن يوفر مالاً لمتابعة دراسته في الجامعة العربية في بيروت. فقد كسّر صخورًا، وحمل على ظهره أكياس الشمينتو وهو يصعد أدراج البنايات منهكًا على شاطئ البحر. وماهر يحب البحر، والبحر وسيلة للتأمل خصوصًا في الصباح الباكر أو في ساعات الغروب، وسيلة قادته إلى غايته التي كان يحلم بها وهي أن يصبح كاتبًا وشاعرًا. هكذا أخذ يكتب. لم يكتب من خيال.. كتب آلامه وتعبه ومعاناته. وكم كان سعيدًا عندما فوجئ بالصحف تنشر له ما يكتب في أمكنة بارزة. ما قاده بعد ذلك إلى العمل مصحح بروفات في إحدى المجلات النسائية. بل أصبح بعد أشهر مدير تحرير مطبخها، فتحسن دخله. إذ ذاك استأجر غرفة فى الأوزاعي جعلها بداية مشواره إلى الاستقرار.