«فقدان الذاكرة» التاريخي... يفسر عدائية السياسة الخارجية للصين

نشر في 21-02-2014
آخر تحديث 21-02-2014 | 00:01
يملك الحزب الشيوعي الصيني الكثير من الأسباب التي تدفعه إلى حماية صورة الدكتاتور الراحل ماو تسي تونغ، فبصفته أحد مؤسسي هذا الحزب، وترتبط مكانته التاريخية ارتباطاً وثيقاً بإرث الحزب، وتشويه صورته بالكامل سيلحق ضرراً كبيراً بالحزب الشيوعي.
 إنديان إكسبرس ذكر جورج أورويل في روايته الشهيرة "1984" أن مَن يتحكمون في الحاضر يتحكمون في الماضي، ومَن يتحكمون في الماضي يتحكمون في المستقبل. عنى أورويل بكلامه هذا أن على الحكام في الأنظمة التوتاليتارية فبركة التاريخ كي يضمنوا استمرارهم، ولا شك أن المطلعين جيداً على شؤون الاتحاد السوفياتي السابق والصين المعاصرة يدركون مدى دقة كلمات أورويل هذه.

صحيح أننا لا نستطيع وصف صين اليوم بدولة توتاليتارية، لكنها لا تزال تحتفظ ببعض الخصائص السياسية الخاصة بالتوتاليتارية، مثل السيطرة المطلقة للحزب الواحد ذي التوجه الشيوعي اللينيني المطلقة على الدولة، ومن الخصائص التوتاليتارية الأخرى للنظام السياسي الصيني الحالي قمع الذاكرة التاريخية وتشويهها، خصوصاً سنوات حكم ماو تسي تونغ العنيفة.

خلال عهد الدكتاتور الراحل ماو تسي تونغ، قُتل أكثر من 40 مليون صيني بريء في حملات سياسية عنيفة أو ماتوا جوعاً بعد سياسة ماو الاقتصادية الكارثية، وإذا أخذنا في الاعتبار حجم المعاناة البشرية التي تسبب بها حاكم مستبد واحد، ندرك أن ماو ينافس بالتأكيد هتلر وستالين.

رغم ذلك، لن تعرف الكثير عن الجرائم التي ارتكبها ماو ضد الإنسانية، إن كنت تعيش في الصين اليوم، فلا تزال لوحة كبيرة لهذا الحاكم معلقة عالياً في ساحة تيانانمين (السلام السماوي). وتظهر صورته على ورقة المئة يوان (فئة العملة الأكبر في الصين). كذلك يُعرَض جثمانه المحفوظ كيماوياً في ضريحه وسط ساحة تيانانمين (معلم بارز يجذب الكثير من الزوار الصينيين).

من بين الإشارات الأخيرة إلى أن مكانة ماو قد رُفِّعت في الصين يأتي ذلك الاحتفال الضخم الذي نظمته نخبة قيادة الحزب الشيوعي الصيني في 26 ديسمبر عام 2013 إحياءً لذكرى مولد هذا الزعيم المئة والعشرين. وخلال هذه المناسبة، ألقى القائد الصيني الجديد، تشي جينبينغ، الذي عانى والده تطهير ماو وأُرسل هو نفسه إلى الريف عندما كان مراهقاً خلال الثورة الثقافية، خطاباً ركز على مساهمات ماو وجَمَّل "أخطاءه". كذلك تحدثت بعض التقارير عن أن شاوشان، بلدة في ريف مقاطعة هونان حيث وُلد ماو، أنفقت مئات ملايين الدولارات على احتفالات ذكرى مولده.

مقارنة بهتلر وستالين، حقق ماو نجاحاً سياسياً أكبر بعد انتهاء حكمه، فقد دان التاريخ هتلر، معتبراً إياه أحد أسوأ المجرمين في التاريخ، كذلك كشفت عملية التخلص من إرث ستالين في الاتحاد السوفياتي السابق جرائم هذا الحاكم الكثيرة (مع أن إرثه هذا قُدر خلال عهد بوتين). أما ماو، الذي علق أهمية كبيرة على حكم التاريخ عليه، فقد اقترف جرائم جماعية ونجا من العقاب. على سبيل المثال، عملت كتب التاريخ الرسمية في الصين بدقة على تجميل الفظائع التي ارتُكبت ضد الشعب الصيني خلال عهد ماو. كذلك تُعتبر الوثائق التاريخية التي تحتوي على أدلة عن مسؤولية ماو المباشرة عن جرائم مماثلة سرية، ويُمنع على الباحثين الاطلاع عليها. وتُحظَر أيضاً أي منشورات عن الأحداث المأساوية خلال حكم ماو (مثل الحملة المناهضة لليمينيين، ومجاعة القفزة الكبرى إلى الأمام، والثورة الثقافية).

يملك الحزب الشيوعي الصيني الكثير من الأسباب التي تدفعه إلى حماية صورة الدكتاتور الراحل ماو تسي تونغ، فبصفته أحد مؤسسي هذا الحزب، ترتبط مكانته التاريخية ارتباطا وثيقا بإرث الحزب السياسي، ولا شك أن تشويه صورته بالكامل سيلحق ضرراً كبيراً بالحزب الشيوعي. فبما أن الحزب نفسه أدى دوراً كبيراً في تطبيق سياسات ماو، تجعل أي رواية شاملة ودقيقة عن جرائم ماو الحزب شريكاً مؤسساتياً متعاوناً، والأهم من ذلك أن ماو وضع مبادئ الحزب وبناه التنظيمية التي لا تزال سارية المفعول حتى اليوم؛ لذلك يبدو تطهير إرث ماو أشبه بتدمير الشفرة الجينية للحزب الصيني الحاكم.

كما هي الحال مع الكثير من سياسات الحزب، تخدم حماية إرث ماو مصالحه، إلا أنها تفرض كلفة سياسية خفية كبيرة على البلد ككل. على المستوى الشعبي، لا يملك الصينيون الذين وُلدوا بعد موت ماو عام 1976 معلومات واسعة عن تاريخ الصين عموما، ومرحلة ماو خصوصاً. والأسوأ أن ما يعرفونه عن تاريخ الصين المعاصر يعكس النجاح الكبير الذي حققته جهود الحزب المنظمة لتشويه التاريخ وفبركته. على سبيل المثال، تعتقد غالبية الصينيين اليوم أن الشيوعيين هم مَن هزموا اليابان خلال الحرب العالمية الثانية (كذبة واضحة). في الوقت عينه، يجهل معظمهم وقائع المجاعة الكبيرة والفظائع الوحشية والجنون السياسي التي شهدتها سنوات حكم ماو.

أما على مستوى القيادة، فيمكننا القول إن الصين خسرت ذاكرتها الجماعية؛ لذلك لا تستطيع هذه الأمة أن تعيش بسلام مع نفسها أو مع جيرانها. وبدأنا نرى أخيراً إشارات إلى بعض العواقب المدمرة لفقدان الذاكرة التاريخي الصيني، فنلاحظ في الداخل استقطاباً سياسياً متنامياً. فقد ازداد المعتدلون تشدداً لأنهم يعتقدون أن من المستحيل إصلاح نظام قمعي بعد التوتاليتارية يرفض مواجهة ماضيه، كذلك بات المحافظون أكثر تشدداً، بما أنهم يشعرون أن عليهم توحيد الصفوف للدفاع عن الماوية. أما معظم المواطنين العاديين المستائين، فقد اتخذوا من ماو (لأنهم لا يعرفون الكثير عن شر الماوية) أيقونة مناهضة للسلطة بغية التعبير عن استيائهم من عدم المساواة الكبير والفساد المتفشي في ظل النظام الراهن، ولكن من الصعب الحفاظ على الاستقرار السياسي والتماسك الاجتماعي في ظل ظروف مماثلة.

على الصعيد الخارجي، تجلى فقدان الذاكرة التاريخي هذا من خلال تنامي المشاعر القومية وسياسة خارجية عدائية، والمثال الأبرز على ذلك الصراع الصيني-الياباني المتواصل، فبعد أن اعتبرت الصين اليابان المسؤول الأول عن معاناتها التاريخية، صورت الصين نفسها على أنها واقعة في مأزق ولا خيار أمامها غير المضي قدماً في سياسة قد تؤدي إلى مواجهة عسكرية خطيرة مع اليابان (وخليفتها الولايات المتحدة).

بالاستناد إلى ما نعرفه عن طبيعة الأنظمة ما بعد التوتاليتارية، من السذاجة الاعتقاد أن نخَبَه الحاكمة والمهيمنة قد تتخلى عن إحدى استراتيجيات بقائها السياسي الأهم: تغيير التاريخ وتدمير الذاكرة الجماعية. لكن من الجيد أن المجتمع الصيني يحاول إصلاح الذاكرة الجماعية وتعزيزها. وتشمل التطورات الأخيرة اللافتة للنظر في هذا المجال الاعتذارات العلنية التي قدمها أعضاء سابقون في الحرس الأحمر خلال الثورة الثقافية، لأنهم شعروا أنهم مسؤولون عن ضرب عدد من أساتذتهم وموتهم. من الصعب معرفة ما إذا كانت هذه الخطوة البسيطة، إنما الشجاعة، ستؤدي إلى صحوة سياسية في المجتمع الصيني. ولكن قد يتضح في النهاية أن جورج أورويل يغالي في تشاؤمه. فيواجه الحزب الشيوعي الصيني صعوبة أكبر في غسل عقول الناس في مجتمع أكثر استقلالا، تنوعا، واطلاعا.

مينشين باي - Minxin Pei

* أستاذ الإدارة الحكومية في كلية كليرمونت ماكينا، وكبير زملاء غير مقيم لدى صندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة.

back to top