مديحة يسري... سمراء النيل: لهيب الحب يعود مع {رجل المستقبل} (11)

نشر في 09-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 09-07-2014 | 00:02
تواصل الفنانة القديرة، مديحة يسري، رواية ذكرياتها عن حياة الفن والأضواء، التي عاشتها منتصف الأربعينيات من القرن العشرين، حينما كانت أحد أبرز الوجوه السينمائية المصرية، وكانت السينما المصدر الثاني للدخل القومي المصري، بعد القطن.
مديحة يسري التي يعرف الجميع أنها النجمة المحبوبة، تروي تفاصيل مؤلمة في هذه الحلقة، عن علاقتها بزوجها الأول المطرب والممثل محمد أمين، الذي حصلت منه على الطلاق، بعدما تشاركا في شركة إنتاج سينمائي، سرعان ما توسعت وصارت تدر دخلاً جيداً عليهما.
ثمة دوماً أسباب تشعل الحرائق وترفع درجة التوتر، بعدها ولفترة تحل «السكينة»، تطول أو تقصر، لكنها كانت دوما تتلمسها، ثم كان ما كان.

«كل الأسر السعيدة تتشابه، ولكن كل أسرة شقية فريدة في شقائها»، لا تعرف مديحة لماذا تذكرت عبارة تولستوي (أهم أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر)، التي استهل بها روايته الشهيرة «أنا كارنينا»، والتي قرأتها قبل سنوات على يد عملاق آخر هو العقاد}.

 لم تفهم حينها كيف يمكن لأسرة أن تعزف سيمفونيتها الخاصة في التعاسة والشقاء، ولماذا أصلا نمارس ما قد يسبب لنا الشقاء، فقد قطع خيالها الجامح صوت زوجها الممثل والمطرب محمد أمين يسألها:

_ كنت بتتكلمي مع أحمد في إيه؟

مديحة: أبدا كان بيعرض عليّ فيلم جديد.

أمين: وطبعاً وافقت.

رمقته مديحة بنظرة ثاقبة قبل أن تجيبه: مش لما أقرأ السيناريو الأول.

واصل بحدة: بس إيه اللي خلاكم تطلعوا تتكلموا في الفرندة؟

مديحة بهدوء لا يخلو من ضيق: أبدا أنا كنت مخنوقة من جو الحفلة، فخرجت أشم شوية هوا، والظاهر هو كمان كان مخنوق زيي فطلع للفراندة.

أمين في تهكم: آه قولتيلي.

مديحة بحدة: في إيه يا محمد؟ مالك؟ هي دي أول مرة أقف أتكلم فيها مع حد من الزملا؟ ثم الراجل كان بيعاملني بمنتهى الذوق والاحترام.

أسقط في يد أمين، ولم يعلق على كلماتها الأخيرة، وإن لم يخف إحساسه بالضيق، أو إن شئنا الدقة، بالغيرة عندما شاهد زوجته مع أحمد سالم أشهر دونجوان عرفته السينما والأوساط الراقية في ذلك العصر. صحيح زوجته شاركت أكثر من نجم البطولة، إلا أنه شعر بالضيق من مجرد «احتمال» أن تقتسم معه بطولة فيلم.

وفي صباح اليوم التالي، فوجئت مديحة بأمين يستيقظ مبكراً على غير عادته، رغم أنه لم يستسلم للنوم إلا بعد الفجر تقريبا.

مديحة: خير يا محمد إيه اللي مصحيك بدري كده؟

رد أمين بحسم وثقة: أبدا رايح الشركة...

تابع قائلاً: أنا وعدتك إني حأتغير.

لم تخف مديحة سعادتها بعودة أمين إلى سابق عهدها به، شعرت هذه المرة أنه محق في تنفيذ وعده لها، خصوصاً بعدما علمت أنه بدأ يبحث عن سيناريو جديد يستأنفان به نشاطهما السينمائي كثنائي فني حقق نجاحاً كبيراً، كذلك بدأ اختيار أغانٍ لتقديمها من خلال الفيلم وأخرى لطرحها في أسطوانة جديدة.

أمين:إيه رأيك في الرواية دي «غرام بدوية»؟

مديحة: مين المخرج؟

أمين: فؤاد الجزايرلي، وهو كمان اللي كاتب القصة.

مديحة: خلاص موافقة.

ريما وعاداتها

كانت مديحة قد تعاونت مع الجزايرلي قبل أشهر في فيلمها {اليتيمة}، الذي شاركها بطولته أيضاً محمد أمين، لذا لم تتردد في التعاون مع الجزايرلي مجدداً في {غرام بدوية}، وجسدت فيه شخصية فتاة بدوية تحب ابن الباشا، الذي يقيم معهم في البلدة نفسها، وعندما يحاول أهلها إجبارها على الزواج من شخص لا ترغب في الارتباط به تحتمي في فيللا الباشا من بطش أهلها. وفعلاً يستضيفها من دون أن يعرف حبها لابنه، ومع الأيام تتوثق علاقتها بابنه الذي يبادلها الحب، ويتزوجها سراً، وفور أن ينكشف الأمر، يطلب الباشا من نجله أن يطلقها. فتغادر المنزل وهي حامل في طفلها لتواجه مصيرها.

لم تكن مديحة تعرف أن {غرام بدوية} هو آخر فيلم سيجمعها بزوجها محمد أمين، وآخر عمل فني يقدمه الأخير، إذ سرعان ما تبدد وعده لمديحة وعاد يتابع مراهنات الخيل وبشكل مكثف بمجرد أن أنهى تصويره للفيلم، ثم راح يصرف كل ما يربحه من عائد أفلامه في تجارة الخيل كي يستثمرها في المراهنات.

تتذكر مديحة هذه الفترة من حياتها قائلة: {كانت مراهنات سباق الخيول منتشرة في تلك الفترة، ورغم أنني كنت أتردد عليها من وقت إلى آخر مع أمين، فإنني لم أمارس المراهنة على أي حصان أبداً. كانت إحدى صديقاتي تتفاءل بي في مراهاناتها، لذا كانت تحرص دوماً على اصطحابي معها، وفعلاً في كل مرة كنت أرافقها كان حصانها يفوز، ومن ثم كانت تلح عليّ أكثر في اصطحابها وهو ما كنت أفعله على مضض سواء معها أو مع أمين.

انخراط أمين في المراهنات مجدداً دفع مديحة إلى التفكير في ضرورة انفصالها عن أمين، إلا أنها حسمت قرارها بعدما علمت بشرائه ملهى ليلياً راح يمضي فيه ما تبقى من يومه. اهتدت إلى القرار بضمير مرتاح وكان ذلك في النصف الثاني من العام 1946.

في الساعات الأولى من الصباح، كان أمين عائداً كعادته إلى المنزل، وإلى جوار باب الشقة وجد كثيراً من حقائب السفر، فيما مديحة كانت جالسة في انتظاره.

سألها باستغراب: خير يا مديحة أنت مسافرة؟

بهدوء أجابته: أنا عاوزة أطلق.

أمين غير مبال: تاني يا مديحة؟ مش كنا انتهينا من الموضوع ده، إحنا لسه مخلصين فيلم، وأنا عندي {تياترو} ناجح وتجارة كويسة، يعني بشتغل وبكسب.

مديحة بحسم: مالوش لازمة الكلام ده يا محمد، أنا فكرت كتير في حياتنا، أنا مش حاسة إني سعيدة، وبالتالي مش حقدر أسعدك، وده آخر كلام عندي فلو سمحت زي ما أتجوزنا في هدوء خلينا نتطلق في هدوء.

أمين: بس أنا بحبك يا مديحة.

 قاطعته قائلة: صدقني خلاص كل شيء انتهى.

اتفقت مديحة مع أمين على إنهاء إجراءات الانفصال في هدوء، وبعيداً عن عائلتها، ربما أرادت تجنب أي {ملامة} من الأهل، وحديثهم عن سوء الاختيار ومجمل التفاصيل الواردة في مثل هذه الظروف، ما يفسر لماذا قررت الانتقال إلى شقة صغيرة كانت قد استأجرتها  بمجرد أن اهتدت إلى قرار الانفصال، رافضة العودة إلى الإقامة في بيت أهلها.فرغم صلتها الوثيقة بهم وحرصها على زيارتهم بشكل دائم، كانت مديحة أكثر ميلاً إلى الاستقلالية لتؤكد مجدداً وبما لا يدع مجالاً للشك أنها امرأة القوس بامتياز.

الطريف أنه وقبل انفصال مديحة عن محمد أمين، كان الوسط الفني قد عرف انفصالا آخر بين {الدنجوان} وزوجته الفنانة تحية كاريوكا، إلا أن دوي الانفصال الثاني كان أكبر وأكثر إغراء للبحث في تفاصيله وأسبابه، نظراً إلى شهرة الطليقين.

وهكذا كأن القدر كان يمهد لميلاد قصة حب أخرى وبطلاها السمراء الفاتنة، وأشهر دونجوان ومعشوق للنساء المصرية عرفته السينما والأوساط الاجتماعية في ذلك العصر والأوان.

 مشاعر

 {رجل المستقبل} هو الفيلم الذي عرضه أحمد سالم على مديحة في أول تعاون يجمعهما، إلا أنها طلبت من سالم تأجيل التصوير أسبوعاً فقط، وتحت إلحاحها وافق.

كانت مديحة بحاجة إلى {هدنة} بعد انفصالها عن أمين لتعيد خلالها ترتيب أوراقها وتضمد جراحها، وتحدد خطواتها لاحقاً. كانت بحاجة إلى أن تمنح أحزانها تذكرة سفر بلا عودة.

استقلت مديحة القطار متجهة إلى الإسكندرية، كانت تعشق البحر دوماً ولا تزال، راحت خلال ساعات السفر تستعيد ذكريات طفولتها المطمورة بين أصدافه وحبات رماله، وكانت تتوق إلى اللحظة التي ترتمي فيها بين أمواجه فتغتسل من كل ما علق بروحها من آلام، و...

لم يقطع استرسالها إلا صوت بكاء رفيقتها في القطار، كانت فتاة في العشرينات من عمرها، جميلة، ملابسها الأنيقة والحلي الذهبية التي ترتديها تعطي انطباعاً بأنها من عائلة ثرية، كانت الفتاة تجتهد في إخفاء دموعها، لذا احترمت مديحة حزنها ولم تشأ اقتحامها لمعرفة السبب. إلا أن بكاء الفتاة لم يتوقف لأكثر من ساعة، ما دفع مديحة إلى تهدئتها ومحاولة مساعدتها.

كانت مديحة تؤمن بأن دموع المرأة صعبة وعزيزة، ومن ثم أدركت أن للفتاة قصة مؤلمة.

مديحة للفتاة: مالك يا حبيتي؟

الفتاة باكية: أبداً لا مفيش حاجة.

أدركت مديحة بحسها أن المرأة الشابة لا تريد أن تفصح عن سبب بكائها، التمست لها العذر فكيف تفصح عما في داخلها لشخص غريب عنها، ربتت على يديها ثم أشاحت بوجهها إلى الجانب الآخر احتراما لحزنها، إلا أن الفتاة تابعت:

- حضرتك الفنانة مديحة يسري؟

ردت مديحة مبتسمة: ايوة أنا.

الفتاة وقد مسحت دموعها: أنا بحب حضرتك جداً، وشفت كل أفلامك.

ارتاحت مديحة لأنها تمكنت من تهدئة الفتاة التي قالت:

- بس حضرتك أحلى كتير من السينما.

ابتسمت مديحة قائلة: أنت الأجمل.

وأضافت مديحة: أنا مش حابه ابقى فضولية بس لو أقدر أساعدك مش حأتاخر، لو عاوزه تفضفضي أنا تحت أمرك.

كانت الفتاة قد توقفت تقريبا عن البكاء، فمسحت ما تبقى من دموعها قائلة: والله يا فندم أنا في مشكلة كبيرة جدا ومش عارفة أعمل إيه؟

انزعجت مديحة وباهتمام إجابتها: طيب احكي لي يمكن أقدر أساعدك.

الفتاة: أنت عارفة الرجالة دول ملهمش أمان، ومهما تخلصي لهم لازم برضه يخونوكي.

قالت الفتاة: تعرفي يا مدام مديحة أنا غلطت وحبيت شخص وكنت ساعتها متزوجة و...

لم تستطع مديحة إخفاء ملامح إزعاج ارتسمت على ملامحها، كرد فعل على جرأة المرأة في اعترافها بخيانتها لزوجها، لم تعلق وفضلت الصمت.

 فيما الفتاة واصلت حديثها قائلة: للأسف وثقت فيه جدا ودفعني حبي له للانفصال عن جوزي وأبو ولادي، وتنازلت عن كل حقوقي علشان يرضى جوزي يطلقني، وبعدها سافرت للقاهرة وأتجوزت حبيبي وعشت معاه أحلى سنة في عمري، بس للأسف بعد فترة بسيطة من جوازنا اتغيرت معاملته لي تماما، وبدأ يضربني ويبهدلني وأنا بنت ناس محترمين..

كانت المرأة قد بدأت وصلة جديدة من البكاء ارتفع معها صوت نحيبها، وبصعوبة نجحت مديحة في تهدئتها وقالت:

حاولت كتير أراضيه لكن للأسف ظهر على حقيقته، لدرجة أنه بيعني صيغتي، ومش فاضل لي غير دول بس.

قالتها وهي تنظر إلى بعض المشغولات الذهبية القليلة التي تزين معصمها وصدرها، ثم تابعت:

«وفي يوم خرجت أجيب حاجات وللأسف يا ريتني ما خرجت، لقيته  بيخوني وفي بيتي وعلى سريري، ولما اعترضت ضربني قدامها وقدام الجيران وطردني من البيت وطلقني».

ما إن اعترفت المرأة بما تخفيه في قلبها حتى انهارت في البكاء وبصوت لفت أنظار المحيطين بهما، فارتمت في حضن مديحة ودفنت رأسها في صدرها. وبدورها حاولت مديحة مراراً تهدئتها ولكن من دون فائدة.

قالت السيدة: مش عارفة أروح فين ولا أعمل إيه، خايفة أروح لأهلي يطردوني ويشمتوا فيّ، أصلهم قاطعوني من ساعة ما اتطلقت من جوزي الأولاني وسيبت له العيال، مش عارفة أعمل إيه... أعمل إيه يا مدام مديحة.

أسقط في يد مديحة، لم تعرف كيف يمكن أن تساعد هذه المرأة البائسة، راحت تفتش معها عن حلول مثل مرافقتها إلى بيت أهلها طلباً للمغفرة والسماح، أو إلى بيت زوجها السابق في محاولة لإعادة المياه إلى مجاريها، أو لدى أي من أقاربها حتى تتدبر أحوالها، انتهاء بأن عرضت عليها مرافقتها إلى الإسكندرية ثم الانتقال معها إلى القاهرة ومساعدتها لإيجاد عمل تعيش منه.

كانت مديحة تبذل جهداً حقيقياً مع المرأة في البحث عن حلول منجزة، إلا أن الأخيرة رفضتها جميعاً بما فيها محاولات مديحة أن تمنحها بعضاً من المال، حتى إنها أخرجت فعلاً حافظة نقودها وحاولت بجدية أن تعطيها بعض المال، إلا أن المرأة شكرتها بكبرياء وعزة نفس شعرت معه مديحة بالخجل الرهيب، إذ أبت المرأة أن تأخذ ما لا تستحقه.

كانت المرأة قد جففت دمعها واستسلمت لنوم عميق، شعرت معه مديحة كما لو أنها لم تذق النوم منذ أيام طويلة، ما شجع مديحة لأن تستسلم أيضاً للنوم، خصوصاً أنها كانت تعاني أرقاً وتوتراً في الأيام الماضية، لتفيق على صوت السيدة وهي تودعها.

كان القطار قد وصل إلى محطة دمنهور، وفي عجلة من أمرها، أفهمتها المرأة أنها ستلجأ إلى صديقة لها لمساعدتها حتى تتدبر أمرها ثم غادرت مسرعة، ومجدداً شكرتها، فيما ظلت مديحة تفكر في مصيرها وماذا ستفعل بها الأيام، تنبهت إلى أنها لم تتبادل معها أي وسيلة تواصل وحزنت بشدة.

لم يقطع تفكيرها سوى صوت «المحصل» وهو يعلن وصول القطار إلى محطة سيدي جابر في الإسكندرية، فأنزلت مديحة حقائبها وغادرت القطار ثم استقلت سيارة أجرة وطلبت من السائق أن يقلها إلى فندق «سيسل» أحد أشهر فنادق الإسكندرية وأقدمها وقد شيده الثري الألماني ألبرت متزجر عام 1929 وأطلق عليه «سيسل» تيمناً باسم ابنه، وقد صمم على الطراز الفلورنسي.

نزلت مديحة من السيارة وهمت بإخراج محفظتها، إلا أنها لم تجدها، أخرجت كل محتوياتها ولكن عبثاً لم تجدها، فطلبت من عامل الفندق محاسبة التاكسي بعدما أدركت أنها تعرضت لعملية نصب شديدة الإحكام، ظلت تتذكر دموع المرأة وكيف كانت تجهش بالبكاء لدرجة يصعب معها عدم التعاطف، أدركت أن ثمة ممثلات في الحقيقة أفضل من الممثلات أمام الكاميرات، وقبل أن تصعد إلى حجرتها أجرت اتصالاً بإحدى صديقاتها في الإسكندرية وطلبت منها بعض المال حتى يصلها المدد من القاهرة.

وأثناء انتظارها صديقتها في حديقة الفندق فوجئت به يقتحم المكان بطلته المعهودة والمعجبات يحطن به، إنه «الدنجوان» أحمد سالم، تعجبت كيف عرف مكانها، وهل هو القدر يجمع بينهما أم تراها «صدفة مدبرة»، خصوصاً أنه كان يعلم بسفرها إلى الإسكندرية معشوقتها.

وفي الطريق إليها كان يمازح تلك ويبتسم إلى أخرى، ويصافح ثالثة، كانت تراقب المشهد في صمت. صحيح سمعت عن تعدد علاقاته وكيف يحاط دوماً بالمعجبات، إلا أنها كانت تعتبرها مجرد مبالغات، حتى رأت بعينيها الحقيقة.

لمحها عن بعد فتقدم نحوها مبتسماً، ومع كل خطوة كان يقترب منها كانت تسمع ضربات قلبها بقوة.

back to top