في مديح الرواية القصيرة

نشر في 18-05-2014 | 00:02
آخر تحديث 18-05-2014 | 00:02
مع رحيل غابرييل غارسيا ماركيز، أعدت قراءة روايته القصيرة أو أقصوصته «قصة موت معلن»، وهي إحدى أكثر رواياته التي أنجذب إليها. يلفتني فيها أنها ضئيلة الحجم ومقتضبة ولكنها تتضمن من المعاني المكثفة ما يكفي لتشكيل ملحمة، بدءاً من عنوانها مروراً بقضية الشرف التي تتناولها وحتى أبطالها. لقد أجاد ماركيز في جعلها أقصوصة وصارت أمثولة بين الروايات.
{قصة موت معلن} ليست رواية ماركيز القصيرة الوحيدة، فلديه {ليس لدى الكولونيل من يراسله} التي نشرها للمرة الأولى عام 1961. وتعد هذه الرواية من روائع الأدب والقصص القصيرة التي كتبها ماركيز وتظهر أنه في قمة الضعف والجوع والشيخوخة ما زال عند الكولونيل (العقيد) شيء يثور من أجله، وهو ذكرى ابنه وآمال أصدقاء ابنه.

السؤال: لماذا لم يكتب ماركيز الروايتين بحجم رواية {مئة عام من العزلة} التي نالت جائزة نوبل 1982؟ هل ثمة ما يمنع الروائي من تدوين مئات الصفحات حول فكرة؟ الأرجح انه الامتلاء والشعور بأن ما كتبه يرضي شغفه عن الفكرة.

 ماركيز {سارق الحكايات} تأثر تأثيراً كبيراً بالروايات القصيرة، كتب مقدمة رواية {الجميلات النائمات} للياباني كواباتا والتي يعترف فيها: {... الكتاب الوحيد الذي وددت لو أكون كاتبه هو الجميلات النائمات}... ماركيز الضخم والمحظوظ يسحد كواباتا على روايته المقتضبة، هنا جوهر المتعة في الكتابة.

 كان تأثر ماركيز برواية كاواباتا واضحاً في روايته الأخيرة {ذاكرة غانياتي الحزينات}. كان الروائي يعتبر رواية {المسخ} (القصيرة) لفرانز كافكا الأثر الأكثر عمقاً على إنتاجه الأدبي. يستشهد بالقصة كمصدر إلهام، فقد نشر ماركيز عام 2003 مذكراته {عشت لأروي}، ويصف الليلة التّي جاء زميله في السكن بثلاثة كتب كان قد اشتراها للتوّ قائلاً: {لقد أعارني أحدّ هذه الكتب عشوائياً لمساعدتي على النّوم كما أفعل بالعادة، ولكنّ حدث العكس هذه المرة. لم أنم بعدها مطلقاً بسكينتي السابقة. كان كتاب {المسخ} لفرانز كافكا، بمثابة اتجاه جديدٍ لحياتي من سطره الأول القائل {استيقظ غريغور سامسا من أحلامه المزعجة صباح يومِ ما ليجد نفسه في سريره متحولاً إلى حشرة عملاقة}، حيث يعد هذا السّطر اليوم أهم ما ورد في الأدب العالمي.

ويضيف ماركيز: {عندما انهيت قراءة المسخ، شعرت بشوقٍ لا يقاوم للعيش في ذلك الفردوس الغريب. يومها حملت الآلة الكاتبة المحمولة محاولاً كتابة شيء من شأنه أنّ يشبه بطل كافكا المسكين يتحول إلى صرصار ضخم}. الرواية الصغيرة ملاحم قصيرة أو قصيدة طويلة، {مسخ} فرانز كافكا رواية قصيرة، نُشرت للمرة عام 1915. وهي أحد أشهر أعمال القرن العشرين وأكثرها تأثيراً، حيث تتم دراستها كليًات عدة في العالم الغربي. صارت أنشودة الإنسان المعاصر، ونلمس أثرها في أعمال الروائيين والكتاب العالميين من صموئيل بيكيت إلى فيليب روث الذي كتب رواية قصيرة بعنوان {الثدي}، وفيها يتحول بطلها ديفيد كيبش إلى ثدي أنثوي، يستيقظ البطل ليجد نفسه وقد أصبح عملاقاً من ذوات الثدييات. وتطرح الرواية أسئلة مثيرة للاهتمام حول الشيخوخة وما تفعله بالإنسان.

أمور كثيرة تجعل المرء في هذه الأيام ينجذب إلى الرواية القصيرة، بقدر انجذابة إلى الملحمة أو الرواية الضخمة، والانجذاب لا يتعلق بالرواية القصيرة كجنس أدبي بل بمضمونها، مثل: {موت في البندقية} للكاتب الألماني توماس مان  و{الشيخ والبحر} للكاتب الأميركي أرنست همنغواي، {الحمامة} لباتريك ساسكند، {حرير} لأليساندرو باريكو، {الشقاء العادي} لبيتر هاندكه، {يوميات من تحت الأرض} لدوستويفسكي، {غرفة مثالية لرجل مريض} يوكو أوغاوا، {مزرعة الحيوان} لجورج أورويل، {قلب الظلمات} لجوزف كونراد، {البومة العمياء} صادق هدايت، {اللجنة} صنع الله ابراهيم، {مالك الحزين} ابراهيم أصلان... هذه ليست مجرد أسماء روايات عابرة، إنها ملاحم في تأثيرها وانتشارها، لها وقعها في الوقع الثقافي والسينمائي، هي أقرب إلى مزيج بين الشعر والنثر، بين التصوير السينمائي والكتابة. وهذه الروايات نماذج قليلة عن عالم زاخر بالمعاني.

ليست الرواية القصيرة فناً سهلاً، وليست شائعة بكثرة. ربما تكون ضآلة أعدادها بضآلة أعداد الملاحم، ولا يقتصر حضورها على فئة أو لغة محددة. اليابانيون مثلاً، يكتبون الجمل البطيئة ويحبون الروايات القصيرة، مثل روايات كواباتا ويوكو أوغاوا وغيرهما. لدى الرواية اليابانية من الزخم التعبيري ما يجعل السطر أو العبارة توازي صفحة، والصفحة تساوي فصلاً، هي زبدة الكلام وجوهر دسامته، رواية بطيئة ولكن البطء فيها له مكانته الخاصة ما دام التكثيف سيدها.

تميل الولايات المتحدة الأميركية بحسب النقاد إلى الروايات الضخمة والثرثرة، لكن هذا لم يمنع أرنست همنغواي من إصدار رواية «الشيخ والبحر»، التي دارت أحداثها حول صراع مرير بين العجوز وأسماك القرش والسمكة الجبارة. وقد جمعت الرواية بين العذوبة والفائدة، وهي أحد أعظم الأعمال الروائية وتعتبر ثاني أهم رواية في أدب البحر التي صورت الصراع بين الإنسان وقوى الطبيعة، وقد جسَّده البطل العجوز سنتياغو مع أسماك القرش، فقد تميزت الرواية بخبرات واقعية بعالم البحر، وتُظهر لك قوة الإنسان وتصميمهُ وعزمه على نيل أهدافه وفقاً لمقولة همنغواي: «قد يتحطم الإنسان... ولكنه لن يهزم»، جملة بحجم ملحمة، باتت أمثولة عابرة للثقافات.

ورغم أن الرواية القصيرة اشتهرت في عدد من  دول أوروبا كجنس أدبي، فإنها بقيت محدودة الانتشار في بريطانيا، وقد يعود السبب إلى أن القارئ الإنكليزي يفضل الروايات الطويلة. وهذا أيضاً لم يمنع البريطاني جوزف كونراد من إصدار روايته القصيرة والشهيرة {قلب الظلمات}، التي كتبها في 1902. تحكي الرواية عن المجتمع الاستعماري والمجتمعات المستعمرة، وعن فساد الإنسان. ورغم صغر حجمها فإنها كانت ساحرة للسينمائيين، من جون فورد إلى أورسون ويلز، ومن جون بورمان إلى ستانلي كوبريك، حلموا بأن يتمكن الواحد منهم يوماً من تحويلها إلى فيلم سينمائي.

وظل الوضع على ذلك النحو حتى جاء فرانسيس فورد كوبولا، أواخر السبعينيات ليحقق الحلم، والفيلم المعني هنا هو، بالطبع {القيامة الآن} الذي اعتبر، أحد أعظم الأفلام التي حققت عن الحرب الفيتنامية، بل أحد أفضل أفلام الحروب في تاريخ السينما. وفي هذا الإطار، يسأل الناقد السينمائي ابراهيم العريس: {ما الذي كان كل أولئك السينمائيين يرونه في نص {قلب الظلمات} عنصراً جذاباً كي يُحوَّل إلى فيلم سينمائي؟}. ويضيف: {الجواب البديهي هو: كل شيء، البعد البصري والأحداث والبعد الروحي وقوة الشخصيات مجتمعة في بوتقة واحدة. ذلك أن {قلب الظلمات} تعتبر النموذج الأكمل لما ينبغي أن يكون عليه فن الرواية}.

رأي السينمائيين في «قلب الظلمات» كان مطابقاً لرأي الصحافيين والنقاد في «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل. نُشرت هذه الروية القصيرة في إنكلترا في 17 أغسطس 1945 وهي إسقاط على الأحداث التي سبقت عهد ستالين وخلاله قبل الحرب العالمية الثانية.

كان أورويل ناقداً لجوزيف ستالين ومتشككاً في السياسات الستالينية النابعة من موسكو بعد تجربة له في الحرب الأهلية الإسبانية، وقد وصف رواية «مزرعة الحيوان» بأنها مناهضة لستالين. صارت مزرعته أمثولة لكل كاتب مقال عن الاستبداد والطغيان، فهي لا تكتفي بعرض فساد الثورة الشيوعية على آيادي قادتها، بل تصوِّر أيضاً كيف يدمر الانحراف واللامبالاة والجهل والطمع وقصر النظر أي أمل في اليوتوبيا.  

وتعد الرواية مثالاً من الأدب التحذيري على الحركات السياسية والاجتماعية التي تطيح بالحكومات والمؤسسات الفاسدة وغير الديمقراطية، إلا أنها تؤول إلى الفساد والقهر هي ذاتها بسقوطها في كبوات السلطة فتستخدم أساليب عنيفة ودكتاتورية للاحتفاظ بها.

 في البلدان العربية

كتب الرواية القصيرة كتّاب من الأجيال كافة في البلدان العربية، من مصر إلى لبنان وسورية والسعودية والمغرب، إلا أن جيل الستينيات المصري كان فارقاً في هذا النوع من الكتابة الروائية. فقد احتفى كتّاب السرد فى الستينيات بالرواية القصيرة ومنحوها اهتمامهم كله، وقد بدأها صنع الله إبراهيم بروايته القصيرة {تلك الرائحة} عام 1966 وقد منعت هذه الرواية لتناولها {تابوهي} السياسة والجنس، ثم نشرت روايات قصيرة عدة من بينها {مالك الحزين} لابراهيم أصلان، من دون أن ننسى أعمال محمد البساطي الذي يقول عن ميل رواياته إلى القصر: {في رأيي أن الرواية القصيرة هي سمة العصر الحالي. فمن السهل قراءتها في ليلة واحدة، فضلاً عن أنها لا تحتاج إلى جهد ووقت في الكتابة أكثر من ست أو سبع أشهر. كذلك أميل إلى التكثيف، فهذا القصر في رواياتى هو من طبيعتي ومن طبيعة العصر. حتى أنني ألاحظ في قراءاتي أن رواية طويلة، حتى من الأدب الكلاسيكي الذي أعيد قراءته على فترات، أجد أن من الممكن إنجازها في مئة صفحة على الأكثر، الإيجاز أصبح ملمحاً فنياً فى الرواية الحديثة}.

وربما تكون الرواية القصيرة هي رواية المستقبل في زمن تسرق أدوات الميديا كل شيء من القارئ.

{حرير}

      

من بين الروايات القصيرة واللافتة {حرير} لأليسو باريكو التي عدا عن صدورها رواية  في لغات عدة كالفرنسية والإسبانية والإنكليزية، فهي صدرت بالعربية في خمس طبعات أو ترجمات مختلفة. يمكن وصفها بالرواية الضاربة التي حملت صاحبها على أجنحة الشهرة في العالم، فلم يكن باريكو يحظى بكثير من الشهرة قبيل صدور هذا النص الذي جعله أحد الكتاب العالميين، على رغم فوزه سابقاً بجائزة {ميديسيس} عن روايته الأولى «قصور الغضب».

ليست  {حرير} ضاربة في الشهرة والمبيعات فحسب، بل في جوهرها أيضاً، فهي رواية مقتضبة ومكثفة، شعبية وثقافية في الوقت نفسه، قليلة الصفحات لكنها غنية بالأفكار والمعلومات، رواية عصرية بامتياز، يمكن للقارئ أن يحملها أثناء سفره ويقرأها من دون عناء، أو حتى يمكنه أن يقتنص تفاصيلها خلال جلسة في المقهى. حتى في طريقة تقسيمها تجد الرواية سهلة غير مملة وتشبه التقطيع الموسيقي. كتب باريكو {حرير} بأسلوب {الموسيقى البيضاء}، اعتمد على الفصول القصيرة التي لا يزيد عدد صفحاتها على صفحة أو اثنتين، وتصل أحياناً إلى جملة وصفية مكونة من بضع كلمات، عبر وصف سريع وبسيط بلغة حيادية مختصرة، ثم حوار موجز للتعبير عما في داخل كل من الشخصيات.

{نوفيلا}

النافل أن اسم الرواية القصيرة اشتق من المفردة الإيطالية {نوفيلا} التي تعني الجديد، وقد أهتم النقاد والأدباء بسمات الرواية القصيرة على اعتبار تضمينها بأحداث قليلة مكثفة وعدد بسيط من الشخصيات، وقد تميزت الرواية القصيرة بعمق الرؤية ووحدة الانطباع، وحدود الزمان والمكان، واللغة المكثفة المعتمدة فى بعض الأحيان على نزعة شاعرية تضبط إيقاعها وبنيتها وتشكلها، يترواح عدد كلماتها بين 10.000 كلمة و20.000 كلمة، أو أكثر من ذلك تبعاً لعدد كلماتها (أو عدد صفحاتها)، فإذا كانت من نوع الرواية الصغيرة غلبت عليها تقنية الرواية وإذا كانت من نوع الأقصوصة الطويلة غلبت عليها تقنية الأقصوصة ومن أحسن الأمثلة على الرواية القصيرة، ذكر الشاعر الأميركي هاوارد نيميروف في مقالة بعنوان {التكوين والقدر في الرواية القصيرة}: {إن هذا الشكل الفني لا يجب أن يعدّ شكلاً فنياً يجمع بين الرواية والقصة، ولكنه يجب أن يعد شيئاً مثل الشكل الفني الأولي والمثالي، وهو متصل بطريقة موحية بالتراجيديات القديمة في ما يخص بساطتها».

 وقد ساهم عدد من المنظّرين والنقاد فى تحديد سمات الرواية القصيرة والفروق الجوهرية بينها وبين القصة القصيرة من ناحية فروق البنية والتشكيل بينها وبين الرواية التقليدية.

back to top