ثمار الحرب... العنف في غزة يدفع الشباب نحو التعصب

نشر في 17-08-2014 | 00:01
آخر تحديث 17-08-2014 | 00:01
يبدو أن وقف إطلاق النار الأخير في قطاع غزة صامد، إلا أن الخراب والدمار في كل مكان. بالإضافة إلى الخسائر البشرية المروعة وتخريب الممتلكات، دفعت الحرب عدداً أكبر من الفلسطينيين إلى حافة التطرف، بحسب {شبيغل}.

قطعة من إطار سرير تتدلى من شجرة ليمون، وقربها نرى بقايا رفوف من خشب نخيل الرتان بعدما دُمرت وقذفها عصف الانفجار إلى هذه الباحة الصغيرة. هشم القصف منزل حسن خليل إبراش، مقوضاً الجدران البرتقالية ومحولاً غرفة نومه إلى ما يشبه شرفة تطل على منظر بشع. كان إبراش، الذي كشفت عيناه عن مدى تعبه، يقف وسطح الحطام المتفحم وهو ينتعل خفين. إلى جانبه ظهرت 12 درجة ترتفع نحو السماء كما لو أنها بناء لم يكتمل.

كان الدمار يحيط به من كل جانب والغبار يتصاعد من البقايا الرمادية تحت شمس وسط النهار. أتت القنابل الإسرائيلية على كل ما ضمه حي إبراش في رفح.

ما كان إبراش وعائلته واثقين من أن عليهم العودة لرؤية ما بقي من منزلهم. وها هم اليوم يقفون وحدهم في هذه المنطقة يبحثون بين الركام. قدِم إبراش مع زوجتَي ولديه ميساء ونبيلة وأحفاده. أملت المرأتان بأن يكون جزء كافٍ من البيت قد نجا لتنتقل إليه العائلة وتترك غرفة الصف في المدرسة الابتدائية التي هربت إليها وتتشاطرها مع خمس عائلات أخرى. فهذه الغرفة وسخة وتفوح منها رائحة كريهة، فضلاً عن أن القنابل تسقط هناك أيضاً رغم علم الأمم المتحدة الذي يرفرف في الخارج.

يقول حسن إبراش إنه لم يرد مطلقاً العودة إلى غرفة الصف تلك. لكن المرأتين راحتا تهزان رأسيهما. وذكرت ميساء: {كيف يمكننا العيش وسط هذا الحطام؟}.

شهدت نهاية الأسبوع مزيداً من المعارك في غزة، مع تحليق طائرات إف-16 الإسرائيلية على علو منخفض فوق غزة صباح يوم الجمعة بعد إعلان وقف إطلاق النار الأسبوع الماضي. ولكن يوم الاثنين، كان وقف جديد لإطلاق النار مدته 72 ساعة لا يزال صامداً. لكن الآمال تبقى هشة. فقد بدت هدنة الأسبوع الماضي ضعيفة، رغم سأم الشعب بعد أسابيع من القتال المضني، يريد الناس السلام، غير أن مقاتلي {حماس} استأنفوا إطلاق الصواريخ عبر الحدود، متبنين المنطق العنيف لمن لم يتبقَّ لهم شيء. وتواصل العنف طوال نهاية الأسبوع.

بعد مغادرة الوفد الإسرائيلي الأخير القاهرة، عاد اليوم لاستئناف محادثات السلام في شأن غزة. يعود انهيار المفاوضات الأسبوع الماضي في جزء منه إلى رفض إسرائيل تقديم أي تنازلات، بعدما سئمت منح {حماس} الحجج لإعلان النصر. فقد طالبت الأخيرة خصوصاً فتح الحدود، علماً أن هذه رغبة كل أهل غزة.

عودة إلى المنزل

برهنت هذه الحرب على وجه الخصوص أن ما من حل عسكري لمشكلة غزة. فقد دفعت كل مواجهة في السنوات الأخيرة وكل جولة إضافية من القتل المتبادل مزيداً من الناس إلى حافة التطرف. فما من سبيل لتفادي الحاجة إلى تحسين ظروف العيش في غزة. ومن مصلحة إسرائيل الإقرار بهذه الضرورة.

لم تكن العودة إلى الحي أخيراً المرة الأولى خلال القتال التي تحاول فيها عائلة إبراش استغلال وقف إطلاق النار للرجوع إلى المنزل. فقبل عشرة أيام، أعلنت إسرائيل وحركة {حماس} هدنة لم تدم طويلاً. فانتهى المطاف بالعائلة إلى الاختباء في المطبخ، الغرفة الوحيدة التي لا تواجه الحدود الإسرائيلية. كانت أصوات القذائف تصم الآذان والانفجار أقرب من أي وقت مضى. وفي مرحلة ما، نظرت ابنة نبيلة من النافذة ورأت المدرعات الإسرائيلية تقترب من المنزل. فأمسكت العائلة بحمارها وتوجهت إلى مدرسة الأمم المتحدة بأسرع ما يمكن.

خُرق وقف إطلاق النار الأول بسرعة، ما أدى إلى يومين من القصف المتواصل تقريباً في رفح. جاء الهجوم، فيما كان الجيش الإسرائيلي يبحث عن هدار غولدن، جندي في الثالثة والعشرين من العمر ظن الإسرائيليون أن {حماس} أمسكت به. فجاء القتال مميتاً ومثيراً للجدل في آن، مع مقتل أكثر من 130 فلسطينياً. كذلك تعرضت مدرسة تابعة للأمم المتحدة للقصف وهُدمت أحياء بأكملها، بما فيها حي عائلة إبراش.

كانت حصيلة الموتى كبيرة جداً، حتى إن برادات المتاجر والسوبرماركات أُفرغت من محتواها لتملأ بالجثث. وإذا تأملنا ما حدث في غزة اليوم، نرى أن هذا الهجوم المهول كان أشبه بانتقام لأمر لم يحدث فعلاً. ففي بيان صحفي نُشر صباح يوم الأحد الماضي، أعلن الجيش الإسرائيلي فجأة أن غولدن قُتل ولم يُخطف.

جاء الإعلان بعدما طبقت إسرائيل ما يُدعى بروتوكول هانيبال، الذي يتبعه الجيش الإسرائيلي للحؤول دون وقوع الجنود الإسرائيليين في الأسر خلال القتال. فنتج من ذلك إطلاق نار مستمر وعنيف من مدفعية الجيش الإسرائيلي على المناطق المدنية. حتى إعلان {حماس} أنها لم تأسر الجندي لم يبدل حدة القصف على رفح. أدانت الولايات المتحدة والأمم المتحدة الهجوم، وطالبتا بأن تفتح قوات الدفاع الإسرائيلية في الحال تحقيقاً فيه، مشيرةً إلى أن الأسئلة الرئيسة يجب أن تتمحور حول متى علم الجيش أن غولدن قُتل ولم يؤسر ولمَ تواصل القصف على رفح رغم ذلك.

عملية إعادة بناء مكلفة

إذا أرّخنا هذه الحرب، التي دامت أكثر من أي حرب سابقة بين إسرائيل و{حماس»، نلاحظ أن رفح أفظع فصولها. لكن القتال كان عنيفاً في المناطق الأخرى كافة أيضاً، مع مقتل أكثر من ألفي فلسطيني، معظمهم من المدنيين. كذلك لقي نحو 250 ولداً تحت سن الثانية عشرة حتفهم. أما من الجانب الإسرائيلي، فمات 64 جندياً وثلاثة مدنيين.

لا شك في أن الدمار والمعاناة اللذين أنزلتهما الحرب بأهل قطاع غزة الضيق قاسيان جداً. فقد خُربت ساحات مدن وبلدات بأكملها قرب الحدود الشرقية مع إسرائيل، كما لو أن زلزالاً ضربها. كذلك قُتلت عائلات بأكملها، فضلاً عن أن أكثر من مئة ألف تشردوا. نتيجة لذلك ستتطلب عملية إعادة البناء سنوات وستكلّف أموالاً طائلة.

فيما كان حسن إبراش يبحث بين ركام منزله، متأملاً السماء من حين إلى آخر، محاولاً رصد أي خطر محتمل قد يهدد عائلته، كان محمد الشيخ (57 سنة) يجلس في مكتبه على بعد كيلومترين. يعمل الشيخ مدير مدرسة رفح التي لجأ إليها سكان غزة المهجرين خلال الصراع، علماً أنها إحدى المدارس السبع التي تعرضت للنيران الإسرائيلية رغم أنها تؤمن المأوى لآلاف اللاجئين. لقي عشرة أشخاص حتفهم في مدرسة الشيخ، خمسة منهم من الأولاد. ويؤكد أنه اعتاد إرسال موقع المدرسة وفق إحداثيات نظام تحديد المواقع العالمي إلى الجيش الإسرائيلي مرتين يومياً.

هز الشيخ كتفيه وسوّى نظارتيه. ليس مخولاً الكلام عن الهجوم الذي تعرضت له مدرسته، لكنه يملك الكثير ليقوله عن تأثيرات الحرب في أولاده الستة. يخبر أن جيله كان مختلفاً تماماً عن الجيل الحالي. فلطالما أمل بأن يتبدل الوضع في قطاع غزة ذات يوم، وأن السلام أو على الأقل الحد الأدنى من الحياة الطبيعية سيسود، حسبما ذكر.

لكنه يوضح أن أولاده فقدوا كل أمل خلال الحروب الثلاث التي وقعت خلال حياتهم القصيرة. فقد ازدادوا تطرفاً، وفق الشيخ، وهم عالقون في قطاع غزة الضيق. يخبر الشيخ أنه حاول التأكيد لهم أن عيش حياة طبيعية ممكن، إلا أنه أخفق بسبب الحروب. فبدا الاستسلام واضحاً في نبرة صوته. يذكر: {رأوا أنهم وحيدون وأن لا أحد يمد لهم يد المساعد}، وأن لا أمان أينما ذهبوا. {ما عاد لهذا الجيل ما يعيش لأجله}. يضيف أنه رأى فتيات لا تزلن على الأرجح في الصف الأول يرسمن نجمة داود ويكتبن كلمة {موت} تحتها. وفي ذلك الصباح، راح يراقب ثلاثة أولاد لم يتخطوا السابعة من عمرهم وهم يلعبون لعبة {الاستشهاد} في باحة المدرسة. فكان أحدهم ممدداً على قطعة قماش وادعى أنه ميت، فيما رفع الولدان الآخران يديهما وراحا يهللان: {شهيد! شهيد!}. وصاح أحدهما: {إسرائيل، سنهزمك}.

بالنسبة إلى محمد محسن العجمي (67 سنة)، تحولت هذه اللعبة إلى واقع. فالعجمي ولد قُتل خلال محاربته إلى جانب {حماس}. فيصبح بالتالي {أبا الشهيد}، حسبما يُدعون. كان يجلس في فيء شرفته في بيت لاهيا، بلدة في شمال قطاع غزة. سقطت قذيفة إسرائيلية في باحة منزله خلال الحرب. انضم ابنه طارق (25 سنة) إلى المقاومة ومات خلال القتال على الجبهة، مع أن العجمي لا يعلم أين بالتحديد. تلقى اتصالاً هاتفياً نقل إليه الخبر وطلب منه التعرف إلى جثة ابنه. كان طارق ممدداً في البراد وجثته مغطاة بالجروح والشظايا.

مواصلة القتال

يشير العجمي إلى أن طارق أخبره هو وزوجته ليطلب منهما الإذن بالرحيل، فعانق أباه وقبّل أمه. قال لهما ولدهما إن عليه الرحيل وودعهما.

يذكر الوالد بهدوء ويداه مشبوكتان فوق حجره أن طارق مات في غزة. ثم يسأل: ماذا كان يمكنه أن يفعل غير ذلك؟ لا يملك المال أو العمل، مع أنه أمضى سنوات في البحث. في النهاية، خسر طارق أحلامه بمستقبل أفضل، وفق والده، فلم يتبقَ له سوى البحر، الذي كان يحب السباحة فيه.

يخبر العجمي أن والده كان يحارب لأجل رفع الحصار وإنهاء القتال. ويضيف: {كي نتمكن أخيراً من العيش حياة طبيعية هنا، على غرار الشعوب كافة حول العالم}. يؤكد العجمي أن مقتل محمد أبو خضير، الفتى المراهق الذي اختطف وقتل على يد متطرفين إسرائيليين في شهر يوليو، أثر في طارق خصوصاً. لذلك عندما أرسل الجيش الإسرائيلي دباباته ومدرعاته إلى قطاع غزة، قرر طارق الانضمام إلى القتال.

يوضح والد طارق بحزن أن ولده قام بالصواب. ويتابع: {كل مَن يعيش مثلنا يرسل أولاده إلى ساحة المعركة}. لكنه يشدد على أنه لم يشجع طارق على حمل السلاح، فأبناؤه السبعة الآخرون متزوجون ولهم أولاد.

من الصعب في هذه الأيام العثور على عائلات مقاتلي {حماس}، فكيف بالمقاتلين أنفسهم؟ حظرت الحركة أي أسئلة عن {المقاومة}، حاضة الشعب على تفادي تقديم الصور، المقابلة، والإجابات.

لكن محمد العجمي وزوجته لم يلتزما بهذه التوجيهات. تذكر والدته ريا أن خسارة ابنها مؤلمة، إلا أنه كان شجاعاً: {نريد حدوداً مفتوحة، نريد أن نتمكن من العمل في حقولنا وحصد محاصيلنا}. لكنها تضيف أن هذا كان مستحيلاً منذ زمن. تربت على رأس أحد أحفادها الذي يبلغ الخامسة من عمره تقريباً، وتضيف: {ربما سيُضطرون هم أيضاً إلى مواصلة القتال}.

back to top