سياسة أميركا الخارجيّة = فوضى مقلقة

نشر في 30-04-2014 | 00:02
آخر تحديث 30-04-2014 | 00:02
على إدارة أوباما أن تبرهن لحلفاء الولايات المتحدة أنها تتمتع بالكفاءة الضرورية لتتولى القيادة. تمر السياسة الخارجية الأميركية اليوم في حالة من الفوضى المقلقة. ولا شك أن هذا يشكّل خبراً سيئاً بالنسبة إلى العالم، الذي يعتمد إلى حد كبير على الولايات المتحدة في فرض النظام، وخصوصاً في ظل غياب أي بلد آخر يملك القدرة أو الاستعداد للاضطلاع بهذا الدور. لكن هذا أمر سيئ أيضاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة، التي لا تستطيع عزل نفسها عن التطورات خارج حدودها.

إن كان للنجاح صنّاع كثر، فقد اتضح أن ذلك ينطبق أيضاً على الفوضى. بالغت إدارة جورج بوش الابن في حرب العراق (شأنها في ذلك شأن مجلس الاحتياطي الفدرالي والكونغرس) وخفضت من القيود المفروضة على القطاع المالي في المرحلة التي سبقت الأزمة المالية عام 2008. كذلك يجب تحميل الكونغرس مسؤولية الاقتطاعات في الموازنة (التي لا تميّز بين الاستثمار والإنفاق)، تعطيل الحكومة، المشارفة على التخلف عن سداد الدين، والإخفاقات المتكررة في إصلاح نظام الهجرة، تحديث البنية التحتية، أو إصلاح نظام الاستحقاقات الطويل الأمد. ولا شك في أن هذا كله أضعف اقتصاد الولايات المتحدة وكان له انعكاس سلبي كبير على سمعتها، مصداقيتها، وكفاءتها.

رغم ذلك، لا تستطيع إدارة أوباما الهرب من تحمل حصتها من المسؤولية عن الأخطاء التي ارتُكبت. فكما كانت الحال مع سلفه والكونغرس، تُعتبر غالبية إخفاقات إدارة أوباما من صنعها. واللافت في مشاكل إدارة أوباما أنها تتناقض مع مقاربتها من العالم التي تنادي بها. ثمة مفهوم (طوّرته إدارة أوباما وروّجت له خلال ولايتها الأولى) يمثّل بوصلة مفيدة تحدد ما يجب أن تقوم به الولايات المتحدة في العالم. لكن هذه الإدارة تفتقر اليوم إلى الالتزام والانضباط الضروريين كي تضمن أن يكون تطبيق السياسة الخارجية منسجماً مع هذه البوصلة.

إعادة موازنة

يقوم المفهوم الذي يجب أن يوجه السياسة الخارجية الأميركية على استدارة أو عملية إعادة موازنة. ويعني ذلك أن على الولايات المتحدة أن تحد من تركيزها على الشرق الأوسط وتخص آسيا باهتمام أكبر. ويُعتبر هذا التغيير ضرورياً، بما أن الولايات المتحدة تملك مصالح كبيرة في المنطقة الآسيوية من المحيط الهادئ، التي تضم دولاً كثيرة ستهيمن على الأرجح على القرن الحالي. فضلاً عن ذلك، تملك الولايات المتحدة في هذه المنطقة عدداً من الالتزامات الرسمية. من المقلق حقاً أن استقرار هذه المنطقة يواجه اضطرابات متزايدة. لكن المطمئن أن الولايات المتحدة تتمتع بالأدوات (سواء كانت دبلوماسية، اقتصادية، أو عسكرية) الضرورية للترويج لمصالحها في هذه المنطقة والدفاع عنها.

من المستبعد أن يحدد الشرق الأوسط من جهته مستقبل العالم، نظراً إلى غياب القوى الكبرى فيه. علاوة على ذلك، تفقد أدوات السياسة الخارجية الأميركية عادةً فاعليتها، إن كان الهدف إعادة تشكيل الأنظمة السياسية المحلية. فتُعتبر الولايات المتحدة أكثر قدرة على تغيير سياسات الحكومات خارج حدودها، مقارنة بتبديل سلوكها في الداخل.

إذاً، إن كانت الإستراتيجية جيدة، فما المشكلة؟ هي كالتالي: إذا كان 80% من الحياة، على حد تعبير وودي آلن، تفاخراً، يقوم 80% من السياسة الخارجية على التطبيق. فما من تصميم، مهما كان جيداً، أفضل مما يُطبّق باسمه. لذلك لا تكمن المشكلة في الاستدارة أو إعادة الموازنة، بل في السياسة الخارجية التي لا توليها اهتماماً كبيراً.

قد يبدو هذا الحكم غريباً، بما أننا قد نخال للوهلة الأولى أن الولايات المتحدة تبتعد عن الشرق الأوسط. فقد سحبت واشنطن كل قواتها المقاتلة من العراق، كذلك ستخفض قريباً عدد القوات العسكرية الأميركية في أفغانستان (الذي بات راهناً أقل من 40 ألفاً) إلى 10 آلاف أو أقل. وفي أرجاء المنطقة الأخرى، اكتفت إدارة أوباما بالقيادة من الخلف في ليبيا، متفادية الإطاحة بمعمر القذافي “بإنزال الجنود على الأرض”. كذلك أبت عموماً التدخل في الحرب في سورية، رافضةً تقديم الكثير من السلاح إلى المعارضة “المعتدلة” ومتراجعةً عن استخدامها القوة العسكرية مباشرة، مع أن حكومة الأسد تجاوزت “الخط الأحمر” الأميركي باستعمالها أسلحة كيماوية مرات عدة.

ولكن ثمة مشكلة. صحيح أن الإدارة الأميركية حدت من نشاطاتها العسكرية في المنطقة، إلا أنها ما زالت تروج لأهداف سياسية طموحة. فيبدو أن الخيار البديهي الذي تسعى إليه سياسة إدارة أوباما في الشرق الأوسط يقوم على تغيير الأنظمة، ما يدفعها إلى تكرار الدعوات التي تطالب القادة المستبدين بالتنحي. رأينا ذلك أولاً مع حسني مبارك في مصر، ثم معمر القذافي في ليبيا، وأخيراً بشار الأسد في سورية.

رغم ذلك، يُظهر التاريخ مجدداً مدى صعوبة الإطاحة بقائد. وحتى بعد تحقيق هذا الهدف، يتضح أن من الصعوبة بمكان تقديم سلطة مستقرة بديلة تُعتبر أفضل وفق المعايير الأميركية. نتيجة لذلك، تجد الولايات المتحدة نفسها غالباً أمام خيار غير مريح: فإما تتراجع عن أهدافها المعلنة، ما يجعلها تبدو ضعيفة ويعزز انتشار العصيان، أو تفي بالتزاماتها، ما يتطلب منها استثماراً كبيراً من الأرواح والمال والوقت، استثمار قلما تبرره مصالحها أو النتائج التي تحققها.

سورية مثال مشين

بما أن إدارة أوباما تخشى أي التزام قد يقود إلى التزام عسكري طويل الأمد وواسع النطاق، على غرار ما شهدناه في العراق وأفغانستان، انتقت الخيار الثاني. ولعل سورية المثال المشين الأبرز. فقد أعلى الرئيس ومسؤولون آخرون أن “على الأسد الرحيل”، إلا أنهم لم يبذلوا جهوداً تُذكر لتحقيق ذلك. فقد ظل الدعم العسكري لعناصر المعارضة التي اعتُبرت مقبولة محدوداً. والأسوأ من ذلك أن الرئيس الأميركي تفادى استخدام القوة بعدما اتضح بشكل جلي أن الحكومة السورية استخدمت الأسلحة الكيماوية. فأثار هذا القرار في مختلف دول العالم الشكوك حول مصداقية الولايات المتحدة وبدد أي ثقة أو فرص كانت المعارضة غير المجاهدة تملكها. نتيجة لذلك، ما زال الأسد يمسك بزمام السلطة، وباتت المعارضة الرئيسة أكثر سوءاً من وجهة النظر الأميركية. ولا شك في أن الولايات المتحدة ستُضطر بعد مدة إلى التقبل بمرارة بقاء الأسد، داعمةً في الوقت عينه عناصر المعارضة المقبولة في صراعهم ضد المجاهدين. فلن تثمر جهود التفاوض التي تتجاهل الوقائع على الأرض.

في هذه الأثناء، تخرج مناطق كبيرة في ليبيا عن سيطرة الحكومة لتهيمن عليها الميليشيات والإرهابيون. أما في مصر، فقد نفّرت الولايات المتحدة داعمي المجتمع العلماني (بالمطالبة برحيل حسني مبارك والضغط لإجراء انتخابات مبكرة) والإخوان المسلمين (برفضها وصف الإطاحة بحكومة محمد مرسي في أواخر شهر يونيو عام 2013 بالانقلاب وقبولها النتائج) على حد سواء. وهكذا صارت مصر اليوم منقسمة وتشهد أعمال عنف متزايدة. وينطبق الأمر عينه على العراق اليوم، الذي يحتل راهناً المرتبة الثانية بين الدول الأكثر اضطراباً في المنطقة، علماً أن الولايات المتحدة ما عادت تتمتع بنفوذ يُذكر في هذا البلد رغم ما تكبدته من خسائر طوال عقد من الاحتلال. إذاً، يتمتع الإرهابيون اليوم بانتشار في المنطقة لم يسبق له مثيل. كذلك يرزح الأردن تحت وطأة اللاجئين. وتبدو تونس الوحيدة التي صارت اليوم أفضل حالاً، مع أن ذلك ليس مؤكداً.

لا بد من التوضيح أن كل هذا لا يعني أن على الولايات المتحدة أن تبذل جهوداً مضاعفة للإطاحة بالأنظمة ولا أن تحتل الدول باسم بناء الأمم. على العكس، تُعتبر الإطاحة بالأنظمة مكلفة (وسورية خير مثال)، والأكثر كلفة (والمستحيل أحياناً) استبدال هذه الأنظمة بما هو أفضل منها لتبرير هذه الكلفة. وهذا ما تؤكده دول مثل العراق، أفغانستان، مصر، وليبيا. كذلك يتوافر الكثير من الأدلة التي تُظهر أن إصلاح الأنظمة المستبدة تدريجاً وسلمياً لا يُعتبر أقل كلفة وأكثر نجاحاً في تأسيس مجتمع منفتح فحسب، بل يحد أيضاً من احتمال التسبب بالاضطرابات والوفيات. إذاً، أدى السعي إلى تغيير الأنظمة إلى “علاجات” أسوأ من المرض. وإذا استفضنا في هذا التشبيه الطبي، فقد يكون على الولايات المتحدة أن تلتزم بقسم أبقراط وعدم التسبب بالأذى أولاً.

علاوة على ذلك، من الصعب تبرير أيضاً الالتزام القوي بحل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. فلا يبدو أنه قد شارف على نهايته. وحتى لو اتفق الطرفان على إطار عمل، من غير المؤكد أنه سيؤدي إلى اتفاق فعلي. وحتى لو تبين أن تقييمي هذا خاطئ، فلا بد من أن نقر بأن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني ما عاد يشغل المحور الأساس في الشرق الأوسط. فلن يؤثر تأسيس دولة فلسطينية منفصلة في التطورات التي نشهدها في سورية أو مصر أو العراق. صحيح أن هذه الخطوة تُعتبر مهمة ومرغوباً فيها في نظر الإسرائيليين والفلسطينيين، إلا أن هذا الصراع بات اليوم محلياً أكثر منه إقليمياً.

ضرورات

ينبغي للولايات المتحدة أن تزيد تعاونها مع أوروبا وتدخلها فيها. فقد مهدت اللامبالاة الأميركية، فضلاً عن الخلل السياسي الأوكراني وهفوات الاتحاد الأوروبي، الطريق أمام توسع روسيا في القرم. نتيجة لذلك، يتطلب التحكم في السلوك الروسي من اليوم فصاعداً دبلوماسية مستدامة عبر الأطلسي، تخصيص موارد اقتصادية أكبر لأوكرانيا، استعداداً لتصدير كميات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي، وتجديد الالتزام بجهوزية حلف شمال الأطلسي العسكرية.

بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تركز الإدارة على جبهتها الداخلية وقوة اقتصادها ومجتمعها ومتانتهما. لا يشكّل هذا بديلاً للأمن القومي، بل جزءاً لا يتجرأ منه. صحيح أن ازدهار قطاع الطاقة تطور إيجابي، لكن الولايات المتحدة تحتاج أيضاً إلى إصلاح شامل لنظام الهجرة، تحديث البنية التحتية، واستعداد لمعالجة مسألة المخصصات والاستحقاقات. فإذا تجاهلت الإدارة هذه المسائل، فقد يتواصل النمو الاقتصادي، إلا أنه لن يأتي بالقدر المتوقع أو الضروري. والأهم من ذلك أننا سنضيع بذلك فرصة معالجة مسألة الدين قبل أن تنفجر بسبب الكلفة المتنامية لنظام الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي، فضلاً عن معدلات الفائدة المرتفعة.

لا تقتصر هذه المسألة على ضمان قوة الولايات المتحدة واستمرار هيمنتها العالمية في وجه شعور العزلة المتنامي، بل تشمل أيضاً توجيه الرسالة الملائمة إلى الآخرين. أثارت تطورات السياسة الخارجية والمحلية خلال العقد الماضي كثيراً من الأسئلة عن كفاءة الولايات المتحدة ومصداقيتها. ولا شك في أن تسريب نشاطات وكالة الأمن القومي، التي أظهرت للكثير من الأصدقاء والحلفاء أننا لا نعاملهم بطريقة مختلفة عن الأعداء، فاقم المشكلة. نتيجة لذلك، نشهد اليوم حركة متسارعة نحو عالم ما بعد الولايات المتحدة الذي يُتخذ فيه عدد كبير من القرارات والخطوات من دون إيلاء أهمية كبرى لتفضيلات الولايات المتحدة ومصالحها. ومن المؤكد أن هذا العالم سيكون أكثر فوضوية وأقل دعماً للمصالحة الأميركية.

مهمة بارزة

تشمل المهمات الأبرز في الشرق الأوسط التي سعت إدارة أوباما إلى إنجازها بحماسة عقد مفاوضات مع إيران بهدف التوصل إلى اتفاق يحدد سقفاً لقدراتها وإمكاناتها النووية. تستحق الولايات المتحدة كل الثناء والتقدير لتعزيزها العقوبات المفروضة على إيران. فقد أدت هذه الخطوة إلى زيادة اهتمام إيران بعقد صفقة نووية. ولكن يبقى التحدي الأكبر التوصل إلى رزمة ترضى بها إيران وتلائم الجميع. لا شك في أن هذا المسعى صعب، إلا أنه يستحق العناء، بما أن التسوية الدبلوماسية أفضل من امتلاك إيران أسلحة نووية أو من توجيه ضربة للحؤول دون ذلك.

لكن هذه المساعي الدبلوماسية كافة تتطلب الكثير من الوقت. فلا يستطيع وزير الخارجية بذل جهود إضافية. وهكذا يكون الوقت الذي يمضيه في تل أبيب وجنيف وقتاً لا يخصصه لطوكيو أو بكين. لكن آسيا تحتاج إلى اهتمام كبير. فثمة ضرورة إلى مشاورات دورية مع القوى الرئيسة في المنطقة، بما فيها الصين، اليابان، وكوريا الجنوبية. كذلك يجب إعطاء الأولوية لعمليات تفادي الأزمات وإدارتها في هذه المنطقة التي تنفرد بروحها القومية المتزايدة وخصوماتها المتنامية وقلة مؤسساتها وأقنيتها الدبلوماسية. وينطبق الأمر عينه على التخطيط لعملية انتقالية بغية توحيد شبه الجزيرة الكورية. كذلك يجب أن تتحول زيادة الوجود الجوي والبحري الأميركي في المنطقة، هذه الزيادة المنتظرة منذ زمن، إلى واقع ملموس على الأرض.

من المؤسف أننا لم نرَ حتى اليوم أي مسؤول برز في الإدارة الأميركية يعتبر هذه المسائل أولوية مهمة خلال ولاية أوباما الثانية. فممثل التجارة الأميركي مايكل فرومان كان الوحيد الذي أقدم على خطوة مماثلة. ولا شك في أن التقدّم في المفاوضات للتوصل إلى اتفاق تجارة إقليمي مرحب به على الصعيدين الاقتصادي والإستراتيجي على حد سواء. إلا أن السياسة التجارية الناشطة لا تشكّل بديلاً لمهمة إستراتيجية أشمل.

back to top