لم يكن العالم يوماً أفضل حالاً

نشر في 05-11-2013
آخر تحديث 05-11-2013 | 00:01
تعيش البشرية في وضع أفضل من أي وقت مضى: صار العالم أكثر ازدهاراً، وأنظف، وأكثر أماناً وصحةً، كذلك يعيش الإنسان حياة أطول وأفضل، وتبدو كل مشاكلنا الحقيقية أقل سوءاً مما قد شهده العالم في أي من مراحله التاريخية السابقة.
 ذي تيليغراف بخلاف ما يظنه أنصار البيئة والمناهضون للعولمة والمتشائمون بشأن الأحوال الاقتصادية، لا يبدو العالم متجهاً بسرعة نحو الهاوية.

لا شك أنه يعاني مشاكل كبيرة، من أزمة بطالة الشبان في أوروبا إلى حالات فقر الأولاد المدقع المريعة حول العالم، ومن واجبنا جميعاً تسليط الضوء عليها ومعالجتها. لكن البشرية جمعاء تعيش في وضع أفضل من أي وقت مضى: صار العالم أكثر ازدهاراً، وأنظف، وأكثر أماناً وصحةً، كذلك يعيش الإنسان حياة أطول وأفضل، وتبدو كل مشاكلنا الحقيقية أقل سوءاً مما قد شهده العالم في أي من مراحله التاريخية السابقة.

في كتاب How Much Have Global Problems Cost the World (كم كلّفت المشاكل العالمية العالم)، يوثّق العالِم السياسي الدنماركي بيورن لومبورغ التحسن الكبير الذي شهدته أحوال الإنسان على كل الصعد، وتدعم فكرتَه هذه مجموعةٌ كبيرةٌ من البيانات والأبحاث الأخرى.

لنتأمل مثلاً في الحرب، البلاء الأعظم الذي قد يصيب المجتمع، يعتبر كثيرون خطأً أن الصراعات المسلحة من صنع الرأسمالية، لكنها في الواقع أسوأ ما قد يُبتلى به اقتصاد حر، لأنها تدمّر الأرواح والعائلات ورأس المال وتؤدي إلى حقبة من سيطرة الدولة، الحكم العسكري، وغياب العولمة.

من المؤسف أن العالم ما زال يعاني الكثير من الصراعات التي تسلب أرواح عدد كبير من الناس، إلا أننا نعيش عموماً في مرحلة سلمية مميزة وفق المعايير التاريخية. على سبيل المثال، أودت غزوات جنكيز خان في القرن الثالث عشر بحياة 11% من سكان العالم آنذاك، ما جعلها أسوأ صراع شهده العالم. أما الحرب العالمية الثانية، التي أودت بحياة العدد الأكبر من الناس، فتحتل المرتبة السادسة، وفق هذا المقياس، بما أن عدد قتلاها بلغ 2.6% من سكان العالم.

لكن المحزن أن عدد الصراعات اليوم ما زال كبيراً، وتحصد هذه الصراعات حياة أعداد هائلة من الناس، إلا أننا حققنا تقدماً كبيراً منذ ذلك الحين، وخصوصاً عقب نهاية الحرب الباردة.

تشير حسابات معهد أبحاث السلام في أوسلو إلى أن عدد القتلى في المعارك تراجع (حتى بين المدنيين) خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مقارنة بأي مرحلة أخرى منذ الحرب العالمية الثانية.

رصد برنامج بيانات الصراعات في جامعة أبسالا 32 صراعاً مسلّحاً ناشطاً عام 2012، أي أقل بنحو خمسة صراعات مقارنة بالسنة السابقة.

لكن السيئ أن عدد الوفيات عاد إلى الارتفاع السنة الماضية نتيجة الصراع الدموي البشع في سورية، إلا أن هذه الأعمال البربرية المتفشية يجب ألا تنسينا التحسن الكبير، الذي يُعتبر على الأرجح الواقع الأهم في عالمنا اليوم.

بدل الاقتتال، بدأنا اليوم نتاجر، نتواصل، نسافر، ونستثمر. صحيح أن الطريق أمامنا طويل للتخلص من الحواجز الحمائية، إلا أن التكامل الاقتصادي الدولي صار اليوم القوة المحفزة وراء التقدم.

علاوة على ذلك، تراجع احتمال موتنا نتيجة التأثيرات الجانبية للتنمية الاقتصادية وحرق وقود الطهو والتدفئة، ففي عام 1900، كان واحد من كل 550 شخصاً حول العالم يموت من جراء تلوث الهواء كل سنة. نتيجة لذلك، بلغ خطر الموت بسبب هذا التلوث 0.18%. أما اليوم، فتراجع هذا الخطر إلى 0.04%، أي واحد من كل 2500 شخص، ومن المتوقع أن يتراجع بحلول عام 2050 إلى 0.02%، أي واحد من كل 5000، كذلك تشهد أنواع أخرى من التلوث تراجعاً، إلا أن هذا التبدّل يُعتبر الأبرز.

إذاً، نعيش اليوم حياة أطول وأكثر صحةً عموماً، ويعود ذلك في الدرجة الأولى إلى التقدّم الكبير الذي حققه الطب.

علاوة على ذلك، ارتفع متوسط عمر الإنسان في إفريقيا من 50 سنة عام 2000 إلى 56 سنة عام 2011، أما في العالم أجمع، فارتفع من 64 سنة إلى 70 سنة، وفق منظمة الصحة العالمية.

صحيح أن الناس في الدول الغنية يتوقعون العيش إلى سن الثمانين، غير أن هذه الفجوة بدأت تتقلص، وتتجه الدول الناشئة نحو تحقيق هذا المعدل. ففي الهند مثلاً، ارتفع متوسط عمر الإنسان نحو 4.5 سنوات في العقد منذ ستينيات القرن الماضي.

ساهم التقدّم الطبي أيضاً في تحسين الحياة على نحو ملحوظ في أي مرحلة من مراحل التنمية الاقتصادية. لا تزال وفاة الأطفال في إفريقيا السوداء مرتفعة جدّاً، ولكن في عام 2008، تراجعت إلى ثلث ما كانت عليه في ليفربول عام 1870، مع أن المداخيل الحقيقية للفرد في ذلك الجزء من العالم ما زال يعادل نصف ما كان عليه مدخول سكان ليفربول في القرن التاسع عشر.

بالإضافة إلى ذلك، تراجع احتمال أن يموت مولود جديد قبل بلوغه سن الخامسة من معدل الـ23% العالمي في خمسينيات القرن الماضي إلى 6% خلال العقد الحالي. صحيح أن هذا المعدل ما زال عالياً، إلا أن التقدم الذي أحرزناه مذهل بالتأكيد. ومن المتوقع أن تتراجع وفيات الأطفال من 7.7% عام 2000 إلى 3.1% عام 2050. ويعود هذا التحسن الكبير إلى الغذاء، ويُعتبر الطول خير دليل على ذلك: يزداد سكان أميركا اللاتينية طولاً منذ سنوات، وكذلك الشباب في آسيا منذ أواخر القرن العشرين. فمع تحسن الأوضاع الاقتصادية، صار باستطاعة الأهل أن يطعموا أولادهم كمية أكبر من الطعام العالي الجودة.

تلعب النظافة أيضاً دوراً كبيراً في هذا المجال: فقد تراجع عدد الوفيات الناجمة عن عدم توافر الماء النظيف من 1.5 في كل 1000 شخص في البلدان النامية عام 1950 إلى 0.4 اليوم. ومن المتوقع أن يتراجع العدد إلى النصف بحلول عام 2050.

يشكّل التعليم مجالاً آخر شهد تحسناً عالميّاً كبيراً، لكن المملكة المتحدة تشكّل استثناءً مشيناً في هذا المجال، فقد كشف تحليل أخير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أننا البلد الثري الوحيد الذي يُعتبر فيه مَن بلغوا الخامسة والخمسين إلى الخامسة والستين من عمرهم أكثر مهارة في القراءة والحساب، مقارنة بمن يبلغون السادسة عشرة إلى الرابعة والعشرين، وهذا تراجع مأساوي بالتأكيد.

إلا أن انتحارنا التعليمي فريد، فقد شهدت الأسواق الناشئة تحسناً ثوريّاً في العقود الأخيرة، ما زاد فرص التعلّم أمام مئات ملايين الشبان. وقد تعزَّزَ هذا التقدم خصوصاً منذ عام 1970 تقريباً.

صحيح أن 23.6% من سكان العالم ما زالوا أميين، بيد أن هذه النسبة تراجعت من 70% عام 1900، وتُعتبر أدنى ما توصلنا إليه. كذلك تتراجع كلفة الأميّة بشكل متواصل، بعد أن كانت تشكّل 12.3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في مطلع القرن الماضي، ومن المتوقع أن تبلغ 3.8% بحلول عام 2050.

كذلك تشهد المساواة بين الجنسين تحسناً كبيراً، ففي عام 1900، شكّلت النساء 15% فقط من اليد العاملة العالمية، ولكن بحلول عام 2012، بلغت هذه النسبة نحو 40%، ومن المتوقع أن تصل إلى 45% بحلول منتصف القرن الحالي.

حتى تغيّر المناخ قد يكون له تأثير أكثر توازناً مما نظن عادةً، فيقدّر أحد المساهمين في كتاب لومبورغ، ريتشارد تول، أن الاحتباس العالمي كان له تأثيرات إيجابية حتى اليوم في التوازن حول العالم. فقد خسرت بعض الدول، في حين حققت دول أخرى مكاسب، إلا أن هذا التبدّل سيصبح سلبيّاً بالكامل في مرحلة لاحقة من القرن الحالي، عندما تتخطى الكلفة الفوائد بأشواط.

يشمل تحليل تول الزراعة والثروة الحرجية، ومستوى البحر، واستهلاك الطاقة، والصحة، والكثير غير ذلك، لكن هذا المجال مثير للجدل، ويستحيل قياسه.

من الصعب توقع التطورات في هذا الإطار، ولكن كما ذكر لومبورع نفسه في موضع آخر، يُعتبر الاحتباس الحراري حتى اليوم أدنى مما توقعته كل النماذج. وعلينا أن ننتظر لنرى.

أما المعيار المهم الوحيد الذي يتدنى على نحو غريب، فيبقى التنوع الحيوي، الذي تراجع بنحو 21% في القرن العشرين، ويواصل تراجعه هذا.

ولكن عموماً، يُعتبر العالم اليوم بكل سهولة الأفضل، رغم الأزمة المالية وخطر الإرهاب، ويعود الفضل في ذلك إلى الرأسمالية، والعولمة، والتكنولوجيا، وعدم تحمل العنف. إذاً، لم تكن البشرية يوماً أفضل حالاً.

back to top