الخط الأحمر الحقيقي في الشرق الأوسط

نشر في 03-07-2014
آخر تحديث 03-07-2014 | 00:01
 فوراين بوليسي ثمة نسخة من سراييفو في مكانٍ ما من الأردن، هي تقع خارج عمان في نقطة من الأرض العدائية الواقعة شرقاً أو شمالاً، إذا تجاوز المتطرفون المسلحون في "داعش" (يسمّون أنفسهم الآن ممثلي الدولة الإسلامية وجنودها في دولة الخلافة الجديدة) هذا الخط، فمن المتوقع أن يتفجّر الصراع الراهن الذي يجتاح سورية والعراق فيصبح أكثر تعقيداً وترتفع كلفته بدرجات هائلة، هذا الخط الأحمر ليس من النوع الذي ينجم عن نزعة فاترة وغير مدروسة إلى خوض المغامرات الرئاسية، بل إنه من النوع الذي يُحدِث تغييراً تاريخياً وهو يستحق أن نفكر به عندما نحيي ذكرى الأحداث التاريخية التي وقعت في سراييفو وأججت الحرب العالمية الأولى منذ مئة سنة.

حتى الآن، يبدو وكأن الحروب الدائرة في سورية والعراق تدعو الولايات المتحدة إلى البقاء على الهامش، فبدأت، في البلدين، التحالفات التي تشمل الأنظمة الحاكمة تهاجم المتطرفين بالتعاون مع إيران وروسيا، ومع الإعلان في نهاية هذا الأسبوع عن شحن طائرات وذخائر روسية إلى الحكومة في بغداد، ووقوع تفجيرات منظّمة في الأسبوع الماضي في مواقع تابعة لحركة "داعش" من جانب الطائرات السورية في العراق، وبروز دور إيران والحرس الثوري الإسلامي في البلدين، يبدو وكأننا أمام صراع تقليدي، حيث يخوض فريقان مواجهة شرسة.

سيكون فوز "داعش" ونجاحها في ترسيخ سيطرتها داخل العراق وسورية، أو على الأقل في منطقة كبيرة تشمل أجزاءً من العراق وسورية، نتيجة كارثية قد تطارد المنطقة والعالم خلال العقود المقبلة، وإذا انتصر الأسد والمالكي تزامناً مع تزايد ديونهما للإيرانيين فلن تضمن هذه الصيغة الاستقرار الإقليمي، بل إنها ستنذر بنشوء حركات تمرد جديدة وحصول انتهاكات إضافية في المرحلة المقبلة. حتى النتيجة الأقرب إلى الواقع، أي التعادل بين الطرفين، لا تبدو أفضل من سواها، إذ ستصبح سيطرة النظام محدودة في شمال غرب سورية بفضل داعمي التحركات هناك، وستنشأ دولة الخلافة التابعة لتنظيم "داعش" في بعض أجزاء سورية، وسرعان ما تصبح تلك المنطقة نقطة مشتعلة، حيث تنتشر أعلى درجات الفوضى، ومن المتوقع أن تنتقل العدوى إلى المنطقة كلها. نتيجةً لذلك، ستتكثف الجهود الإرهابية على المستوى العالمي، والتقسيم العشوائي يمهد لصراع لامتناه.

هذا الوضع يسلط الضوء على مشكلة البقاء على الهامش أو الامتناع عن التحرك، فقد تخفف الولايات المتحدة المخاطر عبر ترك المسائل الشائكة التي تطبع هذه الحرب البعيدة على عاتق الآخرين، ولا بد من الاعتراف بأن هذه الطريقة قد تنجح، وقد تدمر الأطراف بعضها بعضا وتستنزف قدراتها وتتابع التركيز على التقاتل في ما بينها، فتترك المصالح الأميركية على حالها نسبياً، لكنّ هذا الوضع يرفع أيضاً احتمال أن تواجه الولايات المتحدة نتائج لا تستطيع التأثير فيها: هذا الوضع قد يتطلب يوماً (قريباً جداً على الأرجح) أن يتخذ البلد قرارات أكثر جرأة وخطورة سواء أراد التورط أو لم يشأ ذلك.

هذا ما يوصلنا إلى الخط الأحمر في الأردن، فيكفي أن نراجع الخريطة كي نحدد موقع ذلك الخط الأحمر، ونظن أنه يقع على الحدود الأردنية لأن أي خرق لسيادة هذه الدولة الحليفة القيّمة التي تُعتبر معقلاً للاعتدال في الشرق الأوسط لن يكون مقبولاً، إذ كان الأردن مفيداً للولايات المتحدة ومصالحها، ولعب دوراً بنّاءً في عملية السلام مع إسرائيل، وهو يُعتبر ركيزة للمسار المعتدل والإصلاحي في المنطقة لدرجة أن الكونغرس الأميركي الذي أصبح من أبرز مؤيدي الجمود سيطالب بالتدخل الأميركي.

لا يعني ذلك أننا نستخف بإرادة الجيش الأردني أو قدرته على الدفاع عن الأردن، فمن المؤكد أن الجيش الأردني سيتحرك بطريقة لم يفعلها الجيش العراقي، لكن لنتخيل أننا سنبلغ مرحلة غير بعيدة جداً في المستقبل حيث تسعى "داعش" إلى ترسيخ نفسها أو يتسنى لدولتها الفاشلة أن تبسط سيطرتها وتكسب موارد إضافية وتبدأ بالانتشار على الحدود الأردنية، ربما انطلاقاً من العراق وسورية في آن، حتى لو اعتبرنا أن هذا الهجوم غير وارد فلنفكر بعواقبه بكل بساطة. لنعد إلى الخريطة، وتحديداً خريطة المنطقة بشكلها الراهن، فهي تتغير بكل وضوح: تقع عمان على بُعد 466 ميلاً من الفلوجة التي تسيطر عليها "داعش"، لكنها على بُعد نصف تلك المسافة فقط من الحدود مع العراق، وتقع عمان على بُعد 40 ميلاً فقط من الحدود مع سورية، أي ما يساوي تقريباً المسافة نفسها التي تبعدها عن القدس.

لنفكر الآن بتأكيد "داعش" أنها تتمنى ضم الأردن إلى دولة الخلافة، فإلى أي حد يجب أن تتوغل في الأردن قبل دق ناقوس الخطر في واشنطن؟ وما الذي يجب أن يحصل قبل أن تشعر إسرائيل بضرورة تنفيذ تحرك أكثر عدائية للدفاع عن نفسها؟ وكيف يمكن التعامل مع هذا الرد في المنطقة؟ وما ستكون ردة الفعل في الأراضي الفلسطينية، حيث أصبحت الانتفاضة الثالثة في الوقت الراهن أبرز مصدر قلق بالنسبة إلى الكثيرين، وحيث يتصاعد التوتر على نحو حاد بعد اكتشاف جثث ثلاثة مراهقين إسرائيليين مخطوفين كانت إسرائيل تبحث عنهم بشكل جنوني منذ 12 يونيو؟ وإلى أي حد سيتعقّد هذا الصراع؟ وهل ستحارب الولايات المتحدة وإسرائيل لضمان المكاسب لإيران والأسد؟ وكيف سيؤدي تورطهما إلى تحفيز متطرفين آخرين؟ وإلى أي حد ستحارب إيران أو سورية أو العراق لحماية إسرائيل من تهديد "داعش"، لا سيما إذا كان وجود المجاهدين الناشطين بالقرب من القدس يعزز القبول العالمي للأنظمة الشائبة كتلك القائمة في دمشق وبغداد؟ في وضع مماثل، قد تكون ازدواجية المواقف بين الحلفاء الضمنيين أسوأ من هجوم الأعداء المعلنين. ربما سيكون الأردن خطاً أحمر بعيد المنال بالنسبة إلى الدولة الإسلامية المرتقبة، وربما سيساهم تكاتفه والولايات المتحدة والحلفاء الخليجيين، حتى إسرائيل في كبح مسارهم أو تدميرهم، ونأمل أن يحدث ذلك طبعاً، لكن ماذا سيحصل في عالمٍ تظهر فيه جماعات إرهابية متعددة مكان أي جماعة أخرى يتم تدميرها؟ وكيف ستبدو الخريطة الجديدة؟ وما كلفة المعارك التي ستحصل؟

لا يزال الوقت مبكراً لخوض لعبة اللوم، إذ سنمر قبل ذلك بمراحل كثيرة، فهذه المشاكل هي خليط من إخفاقات متعددة في إصدار الأحكام وسوء النوايا والطموحات المشبوهة وضعف الإرادة، على المستويين الإقليمي والدولي في آن.

كانت الإخفاقات المتلاحقة والخطوات الناقصة وعواقب الطموحات المتضاربة بين القادة والمتطرفين والشعوب المستاءة هي التي جعلت سراييفو نقطة انطلاق أسوأ فصل من تاريخ العالم، وفي هذه الحالة، إذا أردنا تجنب تدهور الوضع بهذا الشكل في المنطقة، يجب أن يتذكر ورثة الحرب العالمية الأولى الكارثية (الولايات المتحدة، وأوروبا، والأتراك، وجميع اللاعبين في المنطقة المضطربة) الدرس الأصلي المستخلص من تلك التجربة: الجمود والإهمال أمام الأزمات يسمحان بتفاقم الوضع وزيادة المخاطر. هذه المشكلة تعنينا أيضاً بما أن تغيراً بسيطاً في الأحداث قد يجرّ الولايات المتحدة وحلفاءها إلى الصراع، هذه المشكلة تعنينا بما أنها تجدد أو تعزز التهديد الإرهابي العالمي. مع ذلك، لتحاول إيران وروسيا والأسد والمالكي هزم "داعش"، فإذا تمكنت واشنطن من تقديم المساعدة على شكل استخبارات وطائرات بلا طيار وقوات جوية أو مستشارين عسكريين، فيجب أن تقوم بذلك، ويجب أن تسعى الولايات المتحدة أيضاً مع شركائها الدوليين للضغط على "داعش" اقتصادياً عند الإمكان، وفي مطلق الأحوال، يجب أن يوجه البيت الأبيض رسالة واضحة مفادها أن حدود الأردن أو أي مؤشر عدائي تجاه عمان هو الخط الأحمر الحقيقي.

لكن من بين جميع النتائج النهائية المحتملة في هذه الحرب العاجلة المستجدة، ثمة نتيجة واحدة فقط تفيد الولايات المتحدة وحلفاءها وتخدم المصالح الأميركية على المدى الطويل: التوصل إلى حل سياسي فاعل يرضي جميع فئات المجتمع ويضمن على الأقل تعايشاً سلمياً بين الطوائف وفرصاً متكافئة لجميع الفرقاء.

لذا من الضروري أن يدعم العراق وسورية نشوء معارضة أكثر اعتدالاً ويجب أن يتعاونا مع الحلفاء في المنطقة لتعزيز ذلك الدعم وترسيخه، فذلك يعني تطبيق دبلوماسية متماسكة كتلك التي قادها وزير الخارجية الأميركي جون كيري والاستعداد لاتخاذ مواقف صارمة. يجب أن توضح واشنطن مثلاً أنها تتعامل جدياً مع التهديد على الاستقرار الإقليمي بقدر جديتها في التعاطي مع تهديد أسلحة الدمار الشامل؛ لذا يجب أن توضح الإدارة أنها لن تدعم رفع العقوبات إذا لم يلعب الإيرانيون دوراً بنّاءً لإيجاد تسوية سياسية دائمة لهذا الصراع المتفشي والخطير.

لن يكون الأمر سهلاً، إذ يبقى احتمال الفشل مرتفعاً، ومن المتوقع أن تكون المكاسب السياسية محدودة محلياً، وسيتطلب الحل نوعاً من التعددية الناشطة والواقعية السياسية الصلبة التي تنتج خطابات جيدة مع أنها تكون صعبة التحقيق عملياً، وسيتطلب الأمر التزاماً فاعلاً من الرئيس الأميركي وحكومته بالتعاون مع الحلفاء في المنطقة وفي أوروبا وحول العالم، كما فعل البلد في بعض المسائل خلال السنوات الأخيرة، لكن تبرز الحاجة أحياناً إلى القيام بخيارات صعبة حتى لو كانت تترافق مع مخاطر كبيرة لأن تكاليف الجمود أو الاكتفاء بخطوات محدودة تبدو باهظة جداً، وهذا هو الدرس الفعلي من أحداث سراييفو في عام 1914.

* ديفيد روثكوبف | David Rothkopf

back to top