جنون عظمة بوتين يهدد كل روسيا

نشر في 14-01-2014
آخر تحديث 14-01-2014 | 00:02
تخللت برنامج «بي جي هارفي» المضحك أخيراً حكمة  قيمة: هجوم شرس شنه الكاتب الأميركي دايف زيرين ضد جنون عظمة الرأسمالية في الرياضة الدولية، فقد ندد بميل يسمح بنشر الجيش في مدن بأكملها واستغلال مال عام وتعليق حريات مدنية لحماية احتكاراته ومكانته.
 الغارديان نُشر نحو 30 ألف جندي، ووضُع نحو 40 ألفاً من قوى الشرطة في حالة جاهزية تامة، وسُمح باستخدام قاذفات الصواريخ وأجهزة التتبع، وجُهزت وحدات جوية وبحرية، وقد وُضعت كل هذه القوات يوم الثلاثاء الماضي في حالة "تأهب للقتال" طوال شهر، كذلك نُشرت حواجز على الطرقات على طول 100 كيلومتر تقريباً حول "المنطقة المحظورة"، وداخل هذه المنطقة، تخضع الحركة لمراقبة وضبط مشددين، بالإضافة إلى ذلك، عُلقت كل الحريات المدنية المحلية واعتُقل مئات المشتبه فيهم، وبلغت كلفة هذه العلمية 30 مليار جنيه إسترليني، وما زالت ترتفع.

توقعتم على الأرجح عمّا نتحدث: الألعاب الأولمبية الشتوية، ستُقام هذه الألعاب في سوتشي بروسيا، ولكن كان من الممكن أن تُقام في لندن، أو ريو دي جانيرو، أو بكين، أو أي نظام يشعر بالحاجة إلى تبديد مبالغ طائلة من المال للاستعراض أمام منتقديه والعالم.

يُعتبر استخدام الرياضة كبديل للحرب قديماً قدم جورج أورويل، لكن المناسبات العصرية الضخمة لا تشكل بديلاً لأي أمر، فهي مجرد مناسبات منمقة تجارية تشجع سيطرة الدولة والروح القومية، مناسبات تجذب الإرهاب إلى درجة تستدعي تدابير عسكرية مكثفة، ولكن عندما بنى شاه إيران عام 1971 في برسبوليس مدينة الخيم التي بلغت تكلفتها 100 مليون دولار، انتقد العالم هذا الهدر الفارغ، ولكن إذا أضاف اليوم رياضة التايكوندو والرقص على الجليد، فسيعتبره العالم بخيلاً.

تشكل الألعاب الرياضية الشتوية العذر وراء بذخ فلاديمير بوتين هذا في سوتشي، صحيح أن هذه الألعاب تشكل تسلية للأغنياء، إلا أنها تبقى غير ملائمة بقدر الأموال التي تُنفق عليها، إذ بلغت القيمة المضحكة للعرض الذي قدمه بوتين للجنة الألعاب الأولمبية الدولية 9 مليارات جنيه إسترليني، وقد سعى إلى إقناع اللجنة بتقديمه "بيئة سياسية واقتصادية مستقرة بغية تحسين نوعية حياة [الناس]". أضف إلى ذلك أن حكومته "ترتكز على انتخابات حرة ومفتوحة، وحرية التعبير، وتوازن قوى يضمنه الدستور". أشك أن أعضاء اللجنة الأولمبية ابتسموا حتى، فقد صبوا كل اهتمامهم على المال،

إذ يرتبط كل ما يتعلق بهذه الألعاب بالسياسة، فقد تعمد بوتين إقامتها قرب منطقة شمال القوقاز الكثيرة الاضطرابات، بعيداً عن أي جليد أو ثلج، وذلك بغية تأكيد قوة نظامه في منطقة متقلبة تضم الكثير من المتمردين، مثل الشيشانيين، والشركس، والداغستانيين، والإنغوشيين. يُعتبر هذا الحدث مصدر استفزاز، تماماً كما لو أن الصينيين أقاموا الألعاب الأولمبية لعام 2008 في التبت، وقد بدأت حصيلة الوفيات ترتفع مع تفجير قنبلتين في فولغوغراد أدتا إلى مقتل 34 شخصاً واعتقال 700 مشتبه فيهم. في هذه الأثناء، يستعد بوتين لطقس أولمبي معتاد سيزوره خلاله وزراء بريطانيون ويثيرون "مسائل تتعلق بحقوق الإنسان" قبل أن يستمتعوا بالضيافة، لكن بوتين أطلق آلاف "السجناء بسبب الضمير" (بعد أن اعتقلهم أولاً)، منهم ناشطون في منظمة "غرينبيس" (السلام الأخضر)، وإحدى مغنيات فرقة "بوسي رايوت"، وخصمه القديم ميخائيل خودوركوفسكي، كذلك تعامل في الآونة الأخيرة بلين أكبر مع المثليين الجنسيين، وهدد بانتقام شديد ممن يتجرأ على إفساد هذا الحدث.

ندرك جيداً ما سيكون تعليق الوزراء البريطانيين على كل ذلك: "يجب ألا نخلط السياسة بالرياضة"، لكن هذا هراء، فهم يعلمون أنهم يشاركون في لعبة بوتين وأنهم لا يريدون تفويت تلك المتعة المجانية، فهؤلاء هم الوزراء أنفسهم الذين بددوا أكثر من 30 مليون جنيه (ومن ثم 30 مليون أخرى عند الطلب) لإقامة عرض داني بويل السياسي الجريء والمبدع في لندن قبل سنتَين. تحلى أسلاف المحافظين التاتشريين بجرأة التمسك بمعتقداتهم على الأقل، وقاطعوا الألعاب الأولمبية في موسكو عام 1980 بسبب غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان، وأتساءل عمّا كانوا سيقولونه اليوم لو أن أمماً قاطعت الألعاب الأولمبية في لندن للسبب عينه.

تخللت برنامج "بي جي هارفي" المضحك BBC Today أخيراً حكمة قيمة: هجوم شرس شنه الكاتب الأميركي دايف زيرين ضد جنون عظمة الرأسمالية في الرياضة الدولية، فقد ندد بميل يسمح بنشر الجيش في مدن بأكملها، واستغلال المال العام، وتعليق الحريات المدنية لحماية احتكاراته ومكانته، كذلك أصاب زيرين بإشارته إلى قانون الألعاب الأولمبية في لندن عام 2006، الذي سمح قانونياً للجنة الألعاب الأولمبية الدولية بحكم لندن خلال فترة الألعاب.

أشك في أن زيرين كان سيتمكن من بث هجومه هذا خلال الألعاب الأولمبية في لندن عام 2012، حين بلغت حالة الهيستيريا الرسمية ذروتها، وما كان بالتأكيد ليتمتع بحرية مماثلة في بكين عام 2008 أو في سوتشي اليوم. ولكن لا بد من أن نشير إنصافاً لروسيا إلى أن بوريس نيمتسوف، نائب رئيس الوزراء السابق، هاجم أخيراً ألعاب سوتشي معتبراً إياها "محاولة سرقة غير مسبوقة". وأضاف أن حكومة بوتين أنفقت ثروة، مقدمة العقود لأعضاء النخبة الحاكمة المفضلين.

لكنني أختلف مع زيرين في نقطة واحدة: لا أعتقد أن هذه المناسبات الضخمة ترتبط بالرأسمالية أو حتى الرياضة، فما هي إلا شكل بدائي من السياسة يرتبط بالمكانة الوطنية، ويبدو أن التركيبة الرياضية-العسكرية-الصناعية تمارس سحراً خاصاً على قادة العالم، سحراً تستغله هيئات مثل لجنة الألعاب الأولمبية الدولية والاتحاد الدولي لكرة القدم.

يجوب العاملون في منظمات مماثلة العالم كما لو أنهم رؤساء دول، فيطالبون بخدمات أكثر ترفاً ومعاملة أكثر رقياً. ينزلون في الفنادق مجاناً، ويستقبلهم الرؤساء ورؤساء الوزراء، وتتولى الجيوش والقوات البحرية حراسة احتفالاتهم، ويفرضون التلاعب بالأسواق المحلية من أجل منتجات رعاتهم. كذلك من الضروري إقفال الطرق وإضاءة إشارات المرور الخضراء عند عبور سياراتهم الفارهة الطول، ولا يأبهون بسياسات الدول المضيفة، علاوة على ذلك، لا يحاسب أحد هذه الهيئات، لأنها تدعي أنها تتمتع بتفويض أعلى من سيد الرياضة الأسمى.

ناقش الاتحاد الدولي لكرة القدم أخيراً تغيير قراره الغريب عام 2011 إقامة كأس العالم لعام 2022 في قطر، قرار كثرت حوله تُهم الفساد، فلم يفكر القيمون على هذه اللعبة في راحة اللاعبين والمشاهدين وما يناسبهم، فمن المتوقع أن يحترق هؤلاء في حرارة تصل إلى 50 درجة مئوية في الظل، وصب الاتحاد كل اهتمامه على استعداد قطر لإنفاق مبلغ طائل من المال يصل إلى 138 مليار جنيه إسترليني لإقامة هذا الحدث.

يُظهر إفلاس أثينا والإفلاس الوشيك لريو دي جانيرو (إذا لم نقل أسوأ من ذلك) تأثير هذه الأحداث في المدن الأقل ثراءً، فلا تُعتبر الرياضة مصدر هذا المال، بل هيئات لا يمكن محاسبتها تُطالب بالثروات الوطنية مقابل تقديمها المكانة المرموقة، وهذا ما يلغي الحل البسيط لكل هذه التكاليف: إقامة هذا الحدث كل سنة في المكان عينه، فهذا سيعيد الرياضة إلى موضعها كمحور لهذه الألعاب.

ذات يوم سينقلب السحر على الساحر، ففي ريو، بدأ الفقراء (والأقل فقرا) يثورون ضد هذا الهدر، وفي سوتشي، يتبين أن لعبة بوتين مع الإرهاب الدولي قد تكون مميتة. وكما هو مخطط حتى اليوم، سيموت لاعبو كرة القدم في قطر بسبب الحر وستبقى الملاعب في الصحراء لتتحول إلى أطلال كما بقايا مدينة أوزيماندياس، وستسوء الأوضاع ذات يوم وستخرج عن السيطرة، وربما سنرى يومذاك قائدا شجاعا يملك الجرأة ليرفض كل هذه السخافات.

back to top