ثمن انعزالية أميركا و«تخندقها» بعيداً عن العالم

نشر في 18-02-2014 | 00:01
آخر تحديث 18-02-2014 | 00:01
No Image Caption
 Stephen Sestanovich مثل من سبقه من الرؤساء الأميركيين، يرفض أوباما الفكرة القائلة إن التخندق يعني تلاشي القوة الأميركية. وأي شخص يتحدث عن تراجع أميركا فقد علّق عليه بالقول في خطابه حول «حالة الاتحاد» في سنة 2012 «إنه لا يعلم ماذا يقول!».

من السهل نسيان أن باراك أوباما كان يملك رصيداً ضخماً يتمثل في سياسته الخارجية، عندما ترشح لولاية ثانية في سنة 2012. يومئذ كانت الولايات المتحدة قد خرجت من العراق وكانت تبلي بلاء حسناً في أفغانستان، كما قتلت أسامة بن لادن، ولم يكن لدى ميت رومني ما يوجه سهامه إليه.

اليوم يجد الرئيس الأميركي صعوبة في شرح استراتيجيته العالمية. كما أن تشديده على "بناء الأمة" في الداخل يبدو كأنه يشير إلى اتجاه واحد، وتشير دبلوماسية وزير الخارجية جون كيري النشطة إلى اتجاه آخر. ويشعر الحلفاء بالقلق من أن واشنطن فقدت اهتمامها بهم. ويتحدى الكونغرس الرئيس في قضايا تراوح من التجارة إلى إيران، ويقول النقاد إن زعامة أميركا في تراجع.

رؤساء التخندق

الطريقة الأفضل من أجل فهم محنة أوباما تكمن في مقارنتها مع معضلات رؤساء سابقين قلصوا حروباً كبرى. وهو ليس الوحيد الذي وعد بسياسة خارجية أقل تكلفة وأكثر استدامة في وقت تشعر البلاد فيه بفرط الامتداد. وقد قال دوايت ايزنهاور بعد الحرب الكورية، وريتشارد نيكسون بعد الحرب الفيتنامية وجورج بوش الأول بعد الحرب الباردة الشيء ذاته. كما أن سجلهم في "الأقل هو أكثر" يحتوي على أخبار جيدة لأوباما وعلى تحذيرات واضحة.

وقد أيد الرأي العام على الدوام رؤساء أخرجوا أميركا من حروب معقدة. وفي فترات رئاستهم الأولى، أعاد الرؤساء أيزنهاور ونيكسون وأوباما حشد الإجماع على السياسة الخارجية وأعيد انتخابهم بصورة قاطعة. ويدرك أوباما أن أميركا في حاجة إلى التخلص من أعباء عالمية، كما تظهر استطلاعات الرأي أن الشعب الأميركي لا يشعر بقدر من الحماسة إزاء حرب أفغانستان أكثر مما يشعر أوباما به.

القرارات الوطنية المتعلقة بالتخندق لا يسهل الرجوع عنها بسرعة، وعمليات خفض البناء العسكري التي تعود الى الخمسينيات والسبعينيات والتسعينيات من القرن الماضي استمرت فترة أطول من عمليات التعضيد التي سبقتها. والزيادة الضخمة في إنفاق البنتاغون بعد 11 سبتمبر قد تكون في حاجة إلى عقد من الزمن للرجوع عنها. وعليه إذا أراد الرئيس فرصة من أجل تركيز الموارد على الاحتياجات الداخلية، فإن من المحتمل أن يحصل عليها.

حالات التخندق السابقة توفر أنباء طيبة لكيري أيضاً، وذلك لأن خفض القدرات العسكرية لم يكن يعني مطلقاً التأثير على الأنشطة الدبلوماسية. ويمضي المساران جنباً إلى جنب، ومن أجل خفض التوتر بين الشرق والغرب اقترح ايزنهاور استخدام الذرة من أجل السلام، والأجواء المفتوحة، وحظراً على التجارب النووية وغير ذلك. وتابع نيكسون خطته حول "جيل السلام" عبر انفتاحه على الصين والانفراج على الاتحاد السوفياتي، إضافة إلى دبلوماسية هنري كيسنغر في الشرق الأوسط التي اتسمت بالصخب والألق. وحتى الرئيس بوش الأب، الذي حفلت آخر سنتين من عهده بتخندق مصغر، كان له شعاره الداعي إلى "نظام دولي جديد".

وقد سعى هؤلاء الرؤساء إلى استقرار عالمي مع قدر أقل من الإشراف الأميركي. وبالمقارنة فإن لغة أوباما كانت قياسية، ويحمل النقاد عليه بسبب رغبته في معالجة الكوكب والتصالح مع الخصوم، ولكن هذه هي الطريقة التي يتحدث من خلالها رئيس متخندق. فعمليات التطهير في أعقاب الكوارث تستلزم على الدوام حساً ملهماً يدرك مفهوم التعويضات.

السخرية والتهكم

وبالنسبة إلى أوباما يعتبر ذلك هو الجزء المطمئن، ولكن طرح مزيد من المقارنات يجعل الوضع أقل تشجيعاً. وبمجرد خروج الرؤساء من الحروب التي تم انتخابهم لإصلاحها تصبح مهمتهم أكثر صعوبة. والدبلوماسية المواكبة التي تتسم بالحيوية في البدء تتعثر وتزول.

في الخمسينيات من القرن الماضي لم تحقق جهود ايزنهاور للتفاهم مع الخصوم أي نتيجة. كما أن "روح جنيف" و"روح كامب ديفيد" تحولتا إلى تعابير سخرية وتهكم. وفي سبعينيات القرن الماضي، وبعد أول زيارة قام بها نيكسون ظلت العلاقات مع الصين قيد الانتظار لسنوات، وتعطلت وساطة كيسنغر في الشرق الأوسط بعد حالتين من فض الاشتباك العسكري و"الانفراج" مع السوفيات أصبح مثيراً للجدل إلى درجة دفعت جيرالد فورد إلى التخلي عن تلك الكلمة.

من الصعب ضمان استدامة سياسة خارجية نشطة وفقاً لقاعدة مادية متراجعة. وفي سبعينيات القرن الماضي رفض ليونيد بريجنيف التنازلات التي طلبها منه رؤساء الولايات المتحدة، وكان يصنع المزيد من الصواريخ الأكبر، ولم يكن ذلك حال الأميركيين. في الدبلوماسية أنت في حاجة إلى شيء ما من أجل التفاوض عليه، ويوفر التخندق درجة أقل في هذا الشأن.

خيبة الأمل

وقد حققت إدارة أوباما درجة جديدة من الضغط في قضية جوهرية واحدة- نظام عقوبات صارم بقيادة أميركية لفت انتباه إيران. وفي مكان آخر عول أوباما وكيري على المفاوضات من أجل تحقيق أهدافهما. ومن خلال استبعاد دور أميركي صارم في الحرب الأهلية الدائرة في سورية انخفض نفوذ أميركا على الحكومة وعلى الثوار معاً، ولا غرابة أن مؤتمر "جنيف 2" للسلام وصل إلى طريق مسدود.

ستختبر الموارد استراتيجية أوباما في التخندق في مناطق أخرى. وفي سنة 2011 ومع تعرض ميزانية البنتاغون لضغوط تعهد الرئيس بألا تؤثر التخفيضات في الإنفاق على القوات الأميركية في المحيط الهادئ -وكان ذلك عنصراً مهماً جداً في ما يتعلق بمفهوم الالتفات نحو "محور" شرق آسيا وحكومات المنطقة، وسيلحظ الناس مدى التطبيق الحذر لذلك التعهد.

التنفيذ لن يكون سهلاً. وكانت الإدارة الأميركية واجهت صعوبات في تطبيق التزامات أصغر حجماً. وسبق للرئيس أوباما في بداية الربيع العربي أن وضع تصوراً أولياً لخطط تهدف إلى دعم التطور الديمقراطي في الشرق الأوسط. ويقول مساعدو أوباما إنه شعر بـ"خيبة أمل" من المتابعة الضعيفة لتعهداته حول المساعدات (ولكنه لم يحبط بدرجة كافية لأن يضغط بالقوة اللازمة للوفاء بها).

تيار عدمي

لدى التاريخ درس بليغ وواقعي آخر: يسهم التخندق دائماً في تقوية دور الكونغرس في السياسة الخارجية. وقد غضب كيسنغر من التشريع الذي عطل "وضع الدولة الأولى بالرعاية" في الميدان التجاري، ومن المساعدات السرية إلى الثوار في أنغولا. وسخر ايزنهاور من مقترحات الكونغرس زيادة الموازنة الدفاعية.

ويواجه أوباما ضغوطاً مماثلة، وفي خطابه الأخير حول حالة الاتحاد هدد باستخدام حق النقض (الفيتو) ضد أي مشروع قانون يدعو إلى فرض عقوبات جديدة على إيران خلال استمرار المحادثات معها. ولنأمل في أنه يعلم أيضاً كم كانت سيئة معالجة الإدارات السابقة لتحديات مماثلة. وقد سارعت تلك الإدارات إلى إطلاق صفة المتطرفين أو أدوات المصالح الشخصية على النقاد في الكونغرس، وتباطأت في الاعتراف عندما كان للنقاد قاعدة قوية من الحزبين. وأطلق كيسنغر على قرار الحظر المتعلق بأنغولا بأنه يجسد فكر تيار "الليبرالية العدمية" الماكغفرنية داخل الحزب الديمقراطي. وفي حقيقة الأمر فقد دعم ذلك طيفاً من الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ مثل جيكوب جافيتس وجيسي هيلمز. وحتى شكوى ايزنهاور من نفوذ "المجمع العسكري- الصناعي" كانت واحدة من القذائف الطائرة في جدال كان يعلم أنه يخسره. ولعل أولئك الذين دعوا إلى درجة أكبر من النشاط في هذا الإطار، مثل جون كيندي، كتب لهم الفوز فعلياً.

والسؤال هو ماذا يفعل رئيس متخندق؟ إذا وجد ايزنهاور ونيكسون وبوش -وهم الرؤساء الأفضل استعداداً في السياسة الخارجية- أن من الصعب إدارة استراتيجية التقليص، فإن على أوباما أن يتوقع الشيء ذاته. لن يتخلى أوباما عن التخندق، وهو ليس مضطراً إلى ذلك، والركائز المحلية للقوة الأميركية في حاجة إلى دعم، لكن عليه الاهتمام بالركائز الدولية أيضاً.

تفادي الهبوط

في بعض الأحيان، يقوم الرئيس ومستشاروه بأمور متناقضة تماماً، فعندما يقولون إنهم يريدون تقليص درجات اهتمامهم بشؤون الشرق الأوسط، فإنهم يقوضون أهداف الرئيس العليا: التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران وتسوية فلسطينية- إسرائيلية. لن يتم تحقيق تلك الأهداف إلا إذا رأى الحلفاء والخصوم على حد سواء دوراً أميركياً أكثر نشاطاً في المنطقة.

(لم يدرك ايزنهاور ذلك أيضاً... فعندما هدد نيكيتا خروتشيف برلين الغربية اقترح ايزنهاور خفض مستوى القوات الأميركية في أوروبا، وظن النقاد في الكونغرس أنه ضل سبيله).

سيجعل أوباما التخندق أكثر فعالية من خلال إعادة بناء النفوذ العالمي الأميركي؛ فهو يحبّذ الاتفاقات التجارية الطموحة، واحدة لأوروبا وواحدة لحلفاء شرق آسيا، فاللتان لا يمكن أن تصمدا من دون جهود رئاسية متينة. يتعين على أوباما أن يتذكر أن جورج بوش الأب، حتى آخر أيام رئاسته، تمكّن من توقيع الاتفاقية التجارية الحرة لأميركا الشمالية.

ومثل من سبقه يرفض أوباما الفكرة القائلة إن التخندق يعني تلاشي القوة الأميركية. وأي شخص يتحدث عن تراجع أميركا فقد علق عليه بالقول في خطابه حول "حالة الاتحاد" في سنة 2012 "إنه لا يعلم ماذا يقول"، والتخندق -في اعتقاده- هو الطريقة لتفادي الهبوط والتراجع.

كان ذلك تموضعاً سياسياً بارعاً بالنسبة إلى مرشح يسعى إلى إعادة انتخابه. ويتعين على أوباما اليوم التركيز على النتائج، وسيكتشف، كما فعل رؤساء سابقون، أن النظرة الشعبية للتخندق تتغير بسرعة. وبعد الانطلاق بعيداً في الخارج والأداء الأدنى في الداخل، يبدو الانسحاب مجرد مسألة منطقية. لكن استراتيجية رامية إلى منع الهبوط يمكن لها أن تبدو كالمرء الذي يزيد من سرعته، حتى وهو يسير على المنحدر.

رؤساء أميركا يندر أن يلحظوا حدوث ذلك، ولم يسبق لرئيس أن بدأ التخندق ثم، مع ظهور تحديات جديدة، وجد طريق العودة إلى نشاط أكبر. هل يستطيع باراك أوباما معرفة الطريقة لأن يكون الأول؟ عندئذ سيصنع تاريخاً.

back to top