عمل الدنيا طلب للآخرة

نشر في 17-05-2014
آخر تحديث 17-05-2014 | 00:01
 د. نجوى الشافعي في مقالته "عبدول دنيا" لمس الكاتب الصحافي عبدالمحسن جمعة موضع ضعف الشخصية المسلمة في عالم اليوم، فالتناقض الواضح في سلوك وتوجهات كثير من المسلمين إنما يرجع إلى عدم الصدق مع النفس ومصارحتها بل مواجهتها لتصحيح أفكارها ومسارها.

ويحمل الخطاب الديني الإسلامي كثيراً من وزر هذا التناقض لأنه يبدأ دعوته مع الفرد بتنفيره من الحياة الدنيا بل ازدرائها وتهوين شأنها، ولسان حاله يقول له عش أيامك على الأرض بأي طريقة وأي شكل؛ لأنك تاركها حتى إن عمرت فيها مئة عام، ليضمن استجابته لما سيأتي ذكره بعد ذلك من تعظيم أمر الآخرة، والعمل على نيل السعادة الحقيقية فيها وإهمال كل ما هو دنيوي مع أن العقيدة الصحيحة والإيمان المستنير لا يجدان تناقضاً البتة في العمل للاثنين معاً.

تمتلئ الآيات والأحاديث وأقوال السلف الصالح بالترغيب في العمل على إقامة حياة طيبة كريمة، بل عمار الأرض، حياة ينعم فيها الإنسان بالكرامة والعدل والحرية ومحاربة الفقر جنباً إلى جنب العمل للحياة الآخرة، وبذل كل مجهود صادق محب للوصول إلى رضا الخالق سبحانه وتعالى.

وعلى العكس، فإن الإيمان الصحيح وتقوى الله هما صمام الأمان لإيقاع الحياة على الأرض لأن الخوف من الله وعقابه يحجم الصفات الإنسانية السيئة مثل الطمع والشهوة والعدوانية والأثرة والأنانية، فينعكس هذا إيجابا على السعي في الحياة الدنيا ويخلصه من الشوائب التي قد تدمر وتحرق الحرث والنسل.

تحتوي سورة القصص في قرآننا العظيم على حوار رائع بين قارون وقوم موسى (من الآية ٧٦) فيه النصائح لمن أراد أن يجمع بين خير الدنيا وحسن ثواب الآخرة، بدأها قوم موسى بقولهم "لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ"، فتلك إشارة إلى أن الإنسان على الأرض إنما هو متلق لنعم الله عليه، التي قد تدوم وقد- لا قدر الله- تزول، فيجب على الإنسان، إذا تلقى نعمة من ربه حتى إن كانت مقوماتها لديه "إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي"، أن يتوجه بالشكر لله وعدم الفرح والافتنان بها، اللذين قد ينسيان الإنسان صاحب الفضل الأول في هذه النعم.

ثم كانت النصيحة الثانية "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ" أي بالعمل الصالح وطاعة الله، وأن ما وهبه الله ليس خالصاً له دون سائر العباد بل إنه مسؤولية وأمانة، فإن كان مالاً آو علماً أو قوة بدنية أو مكانة رفيعة، فإن للناس في هذه النعمة حقاً يؤدى إليهم ويثاب عليه في الآخرة، وبذلك تعمر الأرض وتزدهر المجتمعات بالعطاء والمشاركة والتعاطف... إلخ.

ثم تأتي النصيحة الثالثة، و"لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا"... في دعوة صريحة للتمتع على الأرض بما وهبه الله لنا من نعمة المال والصحة والعلم والعقل غير متخطين حدود الله "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ".

وتتبعها النصيحة الرابعة والرائعة "وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ"، أي أن الكنوز التي وهبها الله لقارون هي نعمة على درجة عالية من الجودة "وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ"، فلابد أن يقابلها إحسان في العمل، أي أقصى درجات الإتقان والإخلاص في العمل لله، وأن يحسن للآخرين كما أحسن الله إليه.

وبعد ذلك تأتي النصيحة الأخيرة "وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"، وهي نصيحة جامعة حيث إن كل نعمة من الله تكون بحسب أداء صاحبها في الدنيا إما منفعة له ولمن حوله من البشر على الأرض، وإما مفسدة له وللناس والحياة.

صورة متوازنة رائعة للحياة على الأرض ترسم خطوطاً عريضة لعمار الدنيا والآخرة منحنا الله وقرآنه العظيم إياها.

back to top