جنون الارتياب يقوّض الديمقراطية الأميركية

نشر في 13-11-2013 | 00:02
آخر تحديث 13-11-2013 | 00:02
صحيح أن الولايات المتحدة بعيدة كل البعد عن أن تكون ديكتاتورية، إلا أنها اعتمدت تكتيكات تدل على سلوك مليء بالريبة وتقوض ديمقراطيتها. تتجلى هذه الظاهرة في المسلسل التلفزيوني الخيالي Homeland، الذي يروي قصة عملاء مضطربين من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية يعيشون في بلد مضطرب. التفاصيل جاء بها ديرك كوربجويت في {شبيغل}.
تُعتبر العميلة كيري ماتيسون عنصراً بارزاً. تُظهر هذه الشخصية الرئيسة في المسلسل التلفزيوني الأميركي Homeland (أرض الوطن)، التي تؤديها الممثلة كلير داينز المميزة، مدى أهميتها الحقيقية خلال الحلقات الأولى. فنرى ماتيسون متوترة وهي جالسة في منزلها تراقب وتستمع إلى حياة إرهابي مشتبه به على شاشة كبيرة. نُشرت في شقة هذا الإرهابي أجهزة تنصت. وتبدو ماتيسون مصممة على معرفة القدر الأكبر من المعلومات عنه. تعاني هذه العميلة الهستيريا، اضطراب ثنائي القطب (bipolar)، جنون الارتياب، والسأم، وكل هذه ميزات جيدة في عملها.

لكن عمل أجهزة الاستخبارات الحقيقية في الولايات المتحدة لا يقتصر على ما تقوم به العميلة كيري ماتيسون. تتجسس هذه الأجهزة على مطلق إنسان، حتى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي لا يُشتبه حتى اليوم بارتباطها بالإرهاب الإسلامي. رغم ذلك، تعرّض هاتفها الخلوي للتنصت.

نفترض، غالباً، أن وكالات الاستخبارات تشكّل عالماً قائماً بذاته، وأنها تتصرف أحياناً من تلقاء نفسها. لكنها تشكّل أيضاً تعبيراً عن المجتمع الذي تعمل فيه، خصوصاً عن مخاوفه. بكلمات أخرى، قد لا يكون هنالك عملاء يعانون جنون الارتياب فحسب، بل أيضاً ديمقراطيات مصابة بهذا الجنون تتصرف بطريقة هستيرية نتيجة خوفها. تتمسك هذه الديمقراطيات بأسطورة كبيرة عن الحريات، ما يدفعها إلى الشعور بالريبة. نتيجة لذلك، تتحوّل بدورها إلى خطر يهدد الحريات. وقد بلغت الولايات المتحدة أخيراً المرحلة النهائية من هذه الدورة.

مع الحرية تصبح الاحتمالات كافة واردة وأي أمر ممكناً، سواء كان خيراً أو شرّاً. ولهذا السبب، تولّد الحرية الخوف. وكلما كبرت هذه الحرية، عظم الخوف. فمن أين ينبع الخوف الأميركي؟

للإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نشاهد أفلام هوليوود عن الغرب الأميركي. نرى في هذه الأفلام العربات المقفلة تمر في مكان وعر مخيف يسوده الصمت. فيروح المستوطنون يتلفتون باستمرار حولهم، ويراقبون التلال إلى اليمين واليسار. فهل يختبئ فيها أحد؟ نعم بالتأكيد. احتشدت مجموعة من الهنود وتوشك أن تنقضّ على القافلة. نتيجة لذلك، سيلقى أناس حتفهم، وسيُترك بعض القبور في وسط البرية.

جنة الحريات؟

الولايات المتحدة بلد فتيّ نسبيّاً وُلد مع مجموعة من المستوطنين، قدِموا إلى الولايات المتحدة هرباً من الظلم على أيدي ملوك أوروبا. فتفتحت فيهم رغبة قوية بالحرية، حرية عثروا عليها في مساحات هذه القارة الشاسعة. رفضوا قبول فكرة أنهم ما زالوا خاضعين للقوة البريطانية الاستعمارية مع أنهم يعيشون على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي. وهكذا حاربوا في سبيل استقلالهم وحريتهم.

بما أن المستوطنين قدّموا تضحيات كبيرة لإنقاذ بلدهم الجميل من الجنود البريطانيين، الهنود، والبرية، أضفوا على إنجازهم هذا مبالغة دينية، فأعلنوا هذا البلد جنة، أو وفق كلمات النشيد الوطني، {أرض الأحرار ووطن الشجعان}.

لكن الشفرة الجينية لهذا البلد لم تتخلص من الخوف الذي واجهه عدد كبير من المستوطنين، سواء خلال تنقلاتهم أو في الحروب، حتى باتت عربة مقفلة فيها رجل وامرأة ومجموعة من الأولاد الرمز المثالي لأرض الفرص القصوى، أرض تترافق فيها الحرية المطلقة مع الضعف الأكبر.

كي نفهم الولايات المتحدة جيداً، قد يكون من الأفضل أن نتأمل في ديمقراطيات أخرى تعاني جنون الارتياب. في جنوب أفريقيا، حارب البوير البيض السكان المحليين من أجل الحصول على الأراضي. وحتى اليوم، ما زال البوير ينظرون إلى تاريخهم بفخر، كما تُظهر عبارات مثل {أرض واحدة، شعب حر}. بدأ عام 1948 تطبيق نظام فصل عنصري صارم في جنوب أفريقيا. فأتاح هذا النظام للبوير عزل أنفسهم عن الغالبية السوداء وتأسيس ديمقراطية إنما للبيض فحسب، ما جعلها غير ديمقراطية البتة. وهكذا شكّل الخوف أساس الدولة. فطورت جنوب أفريقيا قنابل نووية، مع أنها لا أعداء لها.

صاغها الخوف

تُعتبر إسرائيل أرض الميعاد بالنسبة إلى اليهود. فقد أُسست في المقام الأول لمنح الناجين من المحرقة النازية مكاناً يشعرون فيه بالحرية والأمان. فقاتلوا في سبيل هذه الحرية وهذا الأمان وحافظوا عليه بخوض حروب ضد الفلسطينيين والقوى المجاورة، حروب أوقعت الكثير من الضحايا. لا تزال إسرائيل تحتفظ، ليومنا هذا، بعناصر من مجتمع المستوطنين، فيما يتابع هذا البلد توسّعه في الضفة الغربية.

في إسرائيل أيضاً، يصوغ الخوف السياسات، وهو بالتأكيد خوف مبرر. فيحيط بهذا البلد الأعداء، وقد تعهد بعضهم بإبادة اليهود مرة أخرى. ولكن هل يعني هذا أن على الإسرائيليين أن يقتلوا أعداءهم المفترضين في الخارج؟ لعل المثال الأبرز على جنون الارتياب السياسي اليوم الجدار الضخم الذي يفصل الأراضي الفلسطينية عن المناطق الإسرائيلية. حتى إن مسلسل Homeland مقتبس في الواقع عن مسلسل تلفزيوني إسرائيلي.

لا شك في أن الولايات المتحدة تختلف كثيراً عن جنوب أفريقيا خلال نظام الفصل العنصري وإسرائيل اليوم. لكن هذه الدول الثلاث تتشابه في مسائل ثلاث: أسطورة الحرية، الجنة، والخوف، ما أدى إلى تطويرها قدرة كبيرة على القتال، فضلا عن حساسية عالية.

يتطلب الارتياب السياسي وجود عدو أو على الأقل مفهوم العدو. فبعد مرور وقت طويل على تدمير مجتمع المستوطنين البيض القبائل الهندية ونفيها، ما عاد هنالك من عدو يهدد الأميركيين في جنتهم. وظل الوضع على حاله إلى أن أتت الطائرات الحربية السوفياتية المحملة بالصواريخ النووية، فأشعرت الولايات المتحدة بالضعف مرة أخرى وأججت مخاوف جديدة. في الوقت عينه، مثّل العدو في الشرق نموذجاً بديلاً لأسطورة الحرية، لأنه كان مجتمعاً قمعيّاً، الفرص فيه محدودة. كذلك شكّل نموذجاً بديلاً قاسياً للجنة الأميركية، التي تحوّلت حينذاك إلى جنة استهلاكية.

شعرت الولايات المتحدة أن كيانها مهدد بأكمله. فالهزيمة أمام الاتحاد السوفياتي كانت ستحوّلها إلى صحراء نووية أو إلى تابع شيوعي فيه سلع بخسة الثمن ونوعان من السيارات فحسب. فولّد هذان الكابوسان خوفاً كبيراً في قلوب الأميركيين.

سرعان ما تجلى جنون الارتياب هذا من خلال إحدى أولى التعديات في الولايات المتحدة: مكارثية خمسينيات القرن الماضي. فحوكم مَن اشتُبه بأنهم يتعاطفون مع الشيوعية. وخلال كل مراحل الحرب الباردة، ظل الشعور المعادي للشيوعية عنصراً هستيريّاً أساسيّاً في السياسة الأميركية.

الحاجة إلى أعداء

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991، عاشت الولايات المتحدة عقداً هادئاً نسبيّاً، إلى أن اصطدمت طائرات خُطفت بمركز التجارة العالمي وحطمت أجزاء من وزارة الدفاع الأميركية في 11 سبتمبر 2001. كان الخاطفون إسلاميين عدائيين شكّلت أفكارهم طرحاً مناقضاً يتنافى مع المجتمع الأميركي.

كانوا أعداء لنمط الحياة الحرّ والفردي، وتاقوا إلى جنة تصبح فيها بطاقات الائتمان عديمة القيمة. كذلك كانوا أول مَن ألحق الأذى بالولايات المتحدة على {أرض الوطن}. وهكذا شكّلوا العدو المثالي في موجة جنون الارتياب الجديدة. نتيجة لذلك، حلّ زمن أمثال كيري ماتيسون في عالم الاستخبارات.

صحيح أن جنون الارتياب لا يصيب الديمقراطيات كافة، إلا أنه يستحوذ على الأنظمة الديكتاتورية بأكملها. فبالنسبة إلى الحكام المستبدين، يساهم جنون الارتياب في صوغ أنظمتهم المستبدة والحفاظ عليها. يحتاج هؤلاء الحكام دوماً إلى عدو داخلي وأحياناً خارجي ليضفي شرعية على أعمال العنف والقمع ويعزز ولاء الشعوب لهم.

ما من نظام حكم يضاهي النازية في فن الحكم الهستيري هذا. شمل أعداؤه المعلنون في الداخل اليهود، الشيوعيين، الديمقراطيين الاجتماعيين، الغجر، المثليين الجنسيين، وكل من روى الدعابات عن أدولف هتلر. أما الأعداء في الخارج، فضموا كل الدول التي هاجمتها ألمانيا، وكان عددها كبيراً، فضلاً عن الديمقراطيات ما وراء البحار، وخصوصاً الولايات المتحدة. أما بالنسبة إلى الحكم الصيني المستبد، فيشكّل المنشقون العدو في الداخل، وهم عادةً أناس يعبرون عن انتقاداتهم بواسطة ريشة أو قلم أو كمبيوتر محمول. ومع أن الصين تفتقر إلى عدو في الخارج، تكنّ الكره لليابان.

لا يمكننا مقارنة الولايات المتحدة بألمانيا النازية أو الصين. ولكن من المؤسف أن الديمقراطية التي تعاني جنون الارتياب تلجأ أحياناً إلى أدوات لا تليق بالديمقراطية، أدوات يستخدمها الحكام المستبدون وتشمل فرض القدر الأكبر من الرقابة.

لم تعد نموذجاً

تُعتبر المعلومات بالغة الأهمية في عالم يعاني جنون الارتياب. فمن يشعرون أنهم مهددون يريدون الاطلاع على أكبر مقدار ممكن من المعلومات بشأن التهديدات المحتملة، ليتحكّموا بمخاوفهم والتحضير لهجمات وقائية. حتى في أيام العربات المقفلة، شكّلت اليقظة عنصراً مهمّاً في تفادي الهجمات. قبل الحادي عشر من سبتمبر، كانت الوكالات الاستخباراتية تغطّ في النوم وغفلت عن كثير من الأدلة التي خلفها المعتدون وراءهم خلال تحضيراتهم. ومن أحد أسباب الصدمة التي تعانيها العميلة كيري ماتيسون تخليها عن حذرها مرة. لذلك عقدت العزم على ألا تقع في الخطأ عينه مجدداً، حتى لو عنى ذلك انتهاكها القانون.

طوّرت وكالات الاستخبارات اليوم ماكينة ضخمة لجمع المعلومات تُعتبر أيضاً بالغة الأهمية في التجسس الصناعي. ولتضمن أنها لا تغفل عن أي تطور، مهما بدا تافهاً، انتهكت خصوصية الملايين والملايين من الناس وأساءت إلى أمم حليفة وسياسييها.

أما الوسيلة الأخرى التي تُستخدم للحصول على المعلومات، فهي التعذيب. لجأت الوكالات الاستخباراتية الأميركية إلى التعذيب بغية جمع المعلومات من الإرهابيين. لكن التعذيب يلغي الديمقراطية، الحرية، وحقوق الإنسان. وإذا سمحت دولة ديمقراطية لنفسها بالانحدار إلى مستوى التعذيب، فلا بد من أنها تعاني حالة مستشرية من القلق والهستيريا.

لا تُعتبر القنابل النووية المحور الأساس. فتهدف بعض الأساليب الاستخباراتية المعتمدة اليوم إلى منع اعتداءات قد تكون مؤلمة جدّاً للولايات المتحدة، إلا أنها لا تهدد فعلاً الأساطير التي أُسست عليها هذه الدولة، ولا تستطيع أن تدمّر الجنة الأميركية. فالأميركيون وحدهم يستطيعون تحقيق أمر مماثل. إذاً، يدمّر وجه الخوف في الحرية الحريةَ بحد ذاتها لأنه يسمح للحاجة إلى الأمن بالخروج عن السيطرة.

صحيح أن جنون الارتياب يضفي شرعية على الأنظمة المستبدة، لكنه يؤثر سلباً في الديمقراطيات. فما عادت الولايات المتحدة نموذج الديمقراطية الليبرالية. وقد تجلى هذا الواقع من خلال عمليات المراقبة الواسعة والتعذيب، معسكر الاعتقال غير القانوني في غوانتانامو، وعقيدة العزلة التي أدت إلى رفض منح الكاتب إيليا ترويانوف الإذن بدخول البلد بسبب انتقاده السياسةالأميركية، حسبما يُفترض.

تواجه دول أخرى مخاوف كثيرة، إلا أنها تفتقر إلى القوة الضرورية لقلب العالم رأساً على عقب. فالقوة وجنون الارتياب مزيج خطر.

back to top