كأس « U.N» نصف الممتلئة
يُقال إن الأسر المحاصرة بسبب القتال في سورية تأكل "سَلَطة" مصنوعة من أوراق الشجر والعشب لدرء الجوع، ووفقاً لوكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فإن أكثر من مليوني سوري فروا إلى البلدان المجاورة، وفي داخل البلاد يواجه عدد أكبر كثيراً من السوريين شتاءً بالغ القسوة مع حرمانهم من الغذاء أو الدواء أو المأوى الكافي، ولكي يزيد الطين بلّة فإن البلاد تواجه أيضاً وباء شلل الأطفال.كانت الاستجابة الدولية للأزمة السورية مأساوية على أقل تقدير، والواقع أن سورية تبدو وكأنها تجسيد للفشل من جانب الأمم المتحدة، ومجلس الأمن طريق مسدود، ويتردد على دمشق أنصار السلام الذين يتحدثون بمصطلحات دبلوماسية ولكنهم لا يحققون أي شيء، ووكالات الإغاثة ممنوعة من العمل في الأماكن حيث تشتد الحاجة إليها. ومع ذلك فمن الواضح أن الأوضاع هناك ستصبح أسوأ كثيراً في غياب الأمم المتحدة، وقد يتحمل لبنان والأردن وتركيا المزيد من الضغوط بسبب اللاجئين الذين يتدفقون عبر الحدود، ورغم فشل الجهود الرامية إلى وقف إطلاق النار فإن الدبلوماسية لم تفشل- على الأقل ليس بالكامل، ففي شهر أكتوبر اتخذ مفتشو الأمم المتحدة خطوات أولية لتدمير المخزون السوري من الأسلحة الكيميائية ومرافقها، وبتعاون كامل من الحكومة السورية.في سورية- كما هي الحال في الكثير من المناطق المتضررة بالنزاعات حيث تكافح الأمم المتحدة من أجل تعزيز السلام والاستقرار- لا وجود لما قد نطلق عليه وصف النصر الواضح أو الكامل. وكما قال لي ذات يوم أحد رجال الدولة المخضرمين: "نحن في الأمم المتحدة لا نقبل الفشل ولا نتوقع النجاح". ففي المفاوضات الدبلوماسية عليك أن تأخذ ما يمكنك الحصول عليه، وفي الأزمات الإنسانية تبذل المساعي الممكنة- وهي عادة قليلة للغاية ومتأخرة في أغلب الأحيان، وأضاف مختتماً حديثه: "نحن نشرب من كأس نصفها ممتلئ إلى الأبد".وينسجم هذا الرأي المتضارب مع المفاهيم العامة للأمم المتحدة، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، يشير استطلاع رأي حديث أدارته حملة "عالم أفضل" إلى أن 57% من الأميركيين ينظرون بشكل إيجابي إلى الأمم المتحدة؛ ولكن وفقاً لاستطلاع "غالوب" الأحدث فإن 35% فقط من الأميركيين يعتقدون أن الأمم المتحدة تؤدي وظيفتها بشكل طيب. عندما تأسست الأمم المتحدة في عام 1945، أظهرت استطلاعات الرأي وجهات نظر متضاربة على نحو مماثل، وفي حين أن ما يزيد قليلاً على 60% من الأميركيين أقروا بأهمية الأمم المتحدة ومهمتها العالمية، فإن 39% منهم فقط كانوا يعتقدون أن أهدافها السامية في السلام والتنمية البشرية قابلة للتحقيق. ويعكس هذا التناقض فجوة عميقة- في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم- بين آمال الناس بالنسبة إلى الأمم المتحدة وتوقعاتهم في ما يتصل بقدرتها على تحقيق هذه الآمال. لا ينبغي لنا أن نقلل من إسهام الأمم المتحدة في تعزيز السلام والتنمية، ولو أن من الواضح أن نجاحاتها لا تحظى بالدعاية التي تستحقها. على سبيل المثال، تم نشر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة أخيراً في مالي بنجاح، وفي الشهر الماضي تمكنت هذه القوات من إلحاق الهزيمة بالمتمردين المنتمين إلى (م23) في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وأنهت بذلك تهديداً كبيراً للسلام والأمن الإقليميين. ولكن أغلب إنجازات الأمم المتحدة تعاني أوجه قصور، ففي عام 2011 وبعد رفض رئيس كوت ديفوار لوران غباغبو التخلي عن السلطة بعد هزيمته الانتخابية في العام السابق، قامت الأمم المتحدة بدعم من قوات فرنسية بإلقاء القبض عليه ونقله إلى المحكمة الجنائية الدولية، لتختصر بذلك حرباً أهلية مدمرة محتملة. ورغم هذا فإن التدخل جاء متأخراً بالنسبة إلى المئات من المدنيين الذين قتلوا في مدينة دويكوي. وعندما هدَّد معمر القذافي في ليبيا بقتل المتمردين مثل "الجرذان"، تدخل تحالف الأمم المتحدة بموجب المبدأ العالمي الناشئ: المسؤولية عن الحماية. ولكن بعد ثلاث سنوات من الإطاحة بالقذافي، لا تزال ليبيا متعثرة بسبب ضعف المؤسسات الوطنية ورازحة تحت وطأة الاقتتال بين الفصائل المختلفة هناك.في الأيام الأولى من احتجاجات الربيع العربي، تحدثت الأمم المتحدة بقيادة الأمين العام بان كي مون بقوة لمصلحة حقوق الإنسان والديمقراطية، ولكن قدرة الأمم المتحدة على ضمان النتائج المرجوة محدودة؛ ورغم أن الآمال التي دفعت الربيع العربي لم تنضب، فمن الواضح أنها تضاءلت إلى حد كبير.في غضون بضع سنوات تمكنت الأمم المتحدة من الدفع بقضية تغير المناخ- التي كانت حتى وقت قريب مفهومة بصعوبة من قِبَل زعماء العالم إلى قمة الأجندة العالمية، ولكن الاتفاق الشامل بشأن تغير المناخ يظل يشكل أملاً بعيد المنال، ورغم أن الأهداف الإنمائية للألفية حققت تقدماً ملحوظاً في مجالات رئيسة- بما في ذلك التعليم والوفيات بين الأطفال الرضع وأمراض مثل الملاريا والسل- فإن الطريق لا يزال طويلاً. في السعي إلى إقرار حل سياسي في سورية، من الأهمية بمكان أن تكون توقعاتنا واقعية، فقد انزلقت البلاد إلى عالم أمراء الحرب، حيث يدور قتال شرس لا تقبل أطرافه المسلحة أخذ أي أسير، وبعض هذه الأطراف متحالف مع الحكومة وبعضها الآخر متحالف مع تنظيم "القاعدة"، وكل الجماعات المسلحة تستهدف المدنيين الأبرياء.في مثل هذه البيئة تصبح آفاق الدبلوماسية قاتمة، ويتعين على الأمم المتحدة أن ترضى بما يمكنها الحصول عليه وأن تبذل قصارى جهدها لمساعدة المحتاجين، وعلى أي حال فإن نصفاً ممتلئاً من الكأس أفضل من كأس فارغة.* مدير الاتصالات السابق للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، «بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»