استراتيجية بوتين القومية في مواجهة الغرب «اللاشريك»
يبقى الاختلاف الوحيد بين الماضي والحاضر غياب التناقض العقائدي: ادعت الإمبراطورية السوفياتية بعد الحرب تفوق المسار الاشتراكي على الرأسمالي... لكن معارضة روسيا الغرب اليوم تحوّلت إلى مشروع وطني بحت.
لا يُعتبر ما تشهده شبه جزيرة القرم حرباً، خصوصاً إذا اعتبرنا إراقة الدماء جزءاً لا يتجزأ من تعريف الحروب. إنه احتلال مخيف بشع (حتى اليوم) لمنطقة تابعة للدولة الأوكرانية تنفذه القوات الروسية المسلحة بأمر من الكرملين. لم تقع أي ضحايا حتى الآن، ولم نشهد عمليات إطلاق نار تُذكر، على العكس، يلقى الجنود الروس الترحيب عموماً في منطقة القرم التي يُعتبر غالبية سكانها موالين لروسيا، وبينما يطوّق الجنود الروس الوحدات العسكرية الأوكرانية ويعرقلون عملها في القرم، تستعد الحكومة الأوكرانية في العاصمة كييف للمقاومة، لكن لا أحد يستطيع معرفة ما يخبئه المستقبل: حرب محتدمة، أو مفاوضات، أو مواجهة مطولة.لعل الخبر الجيد الوحيد الذي سمعناه يوم الأحد الماضي كان إعلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أنه سيقبل باقتراحها تشكيل «مجموعة اتصال» دولية لتقصي الحقائق بهدف مناقشة الأزمة الأوكرانية. لكن بوتين أصر خلال مناقشته مع ميركل على أن أعماله مبررة نتيجة «التهديد المستمر باستعمال العنف» ضد الشعب الناطق بالروسية في أوكرانيا، لكن ميركل من جهتها وصفت الغزو بأنه انتهاك للقانون الدولي.رغم ذلك، لا يحتاج محتل يتمتع بثقة مطلقة بتفوقه العسكري، مثل بوتين، إلى مبرر قوي للتدخل، فلم يسبق قرار دخول الجنود الى أوكرانيا أي تقرير حكومي رسمي، بل ارتكز التصويت بالإجماع في المجلس الفدرالي، المجلس الأعلى في البرلمان الروسي، يوم السبت الماضي على تصريح وجيز أدلى به رئيس المجلس عن وقوع «ضحايا» في القرم خلال ليل الأول من مارس. لم يحدد رئيس المجلس مصدر معلوماته هذه ولم يذكر حتى عدد الضحايا، وتبين لاحقاً أنه ما من ضحايا، إلا أن هذا غير مهم. لم يطرح المشرعون الروس سؤالاً واحداً، مع أن المجلس ضمّ عدداً من كبار المسؤولين في مجال الدفاع والسياسة الخارجية، بل اكتفوا بالتصويت إرضاءً لطلب فلاديمير بوتين شن غزو.لم نرَ أي محاولات للتحدث إلى القوات المتحاربة أو حتى تحديد هويتها عموماً، كذلك لم تُبذل أي جهود لحثها على التفاوض أو التوصل إلى وساطة في هذا الصراع، إذا جاز التعبير. كذلك لم نسمع تعليقاً روسياً واحداً عن الدور الذي يجب أن تؤديه الأمم المتحدة، مع أن بوتين في عدد من الأزمات الدولية السابقة أصرّ، باسم السلام والقانون، على أن تؤدي الأمم المتحدة دور الوسيط.لا يبدو فلاديمير بوتين مهتماً بتشكيل «ائتلاف من الدول الراغبة»، بل يعتمد بشكل مطلق على فهمه الخاص للنظام العالمي، فما عاد يعتقد أن من الضروري أن يقدّم للغرب مبرراً قوياً لسلوكه، فلم يعد الغرب «شريكاً»، المصطلح الذي اعتاد بوتين استخدامه سابقاً، بل تحوّل إلى عدو واضح. لا نبالغ إن قلنا أن التوتر بين روسيا والغرب بشأن أوكرانيا يذكّرنا بالانقسام الطويل الذي وسم الحرب الباردة. صحيح أن الصراعات الجيو-سياسية بشأن إيران، وسورية، وجورجيا، وأوكرانيا اليوم لا تعادل أزمة الصواريخ الكوبية تعقيداً، لكن المخاطر كبيرة جداً. ويبقى الاختلاف الوحيد بين الماضي والحاضر غياب التناقض العقائدي: ادعت الإمبراطورية السوفياتية بعد الحرب تفوق المسار الاشتراكي على الرأسمالي، لكن معارضة روسيا الغرب اليوم تحوّلت إلى مشروع وطني بحت، فقد جاء رد الفعل الروسي تجاه التطورات في أوكرانيا ضمن إطار حماية «من لنا»، أي الروس بغض النظر عن البلد الذي يعيشون فيه، وتجاهلت روسيا السيادة الأوكرانية بالكامل.هذا كان رد بوتين على محاولة أوكرنيا بناء دولة جديدة تجمع بين توجه نحو العالم الغربي وقومية غرب أوكرانيا، علماً أن بوتين يعتبر هذين «الغربين» عدائيين ومناهضين لمصالح روسيا. وكما ذكر ديميتري برينين، خبير في السياسة الخارجية الروسية، تخشى موسكو «أن تتحوّل الرواية الأوكرانية الرسمية من [أوكرانيا ليست روسيا] بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى [أوكرانيا تعارض روسيا] مثلاً».يشهد هذا التيار القومي المناهض للغرب نمواً سريعاً في روسيا منذ عقد تقريباً، فقد تحوّل إلى محرك يحفز الأعمال العدائية والتوسعية، ويعكس هذا الواقع تبدّل القوى في الداخل، خصوصاً انقسام المواطنين الروس بين «أصدقاء» و»أعداء» وتحولاً نحو دولة بوليسية أكثر استبداداً في تعاملها مع الآراء المنشقة. تجرأ أخيراً نحو ألف من سكان موسكو على التظاهر ضد التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، منادين: «نرفض المزيد من الحروب»، فاعتقلت الشرطة أكثر من ثلاثمئة منهم. نتيجة لذلك، تشعر الأقلية الليبرالية في روسيا اليوم بالخوف، والقلق، والغضب، والعار. إلا أنها عاجزة عن وقف الغزو الذي بدأ في القرم.حذّر بوريس أكونين، الروائي الشهير وأحد أعضاء المجتمع الليبرالي في موسكو، من أن الصراع الأوكراني قد يشكّل عذراً لقمع أوسع. كذلك كتب على صفحته على موقع «فيسبوك» أنه ينصح بعدم التظاهر «إلى أن يصبح مئات الآلاف مستعدين للنزول إلى الشارع».أضاف أكونين: «كقاعدة أساسية، يلزم أن نتحلى بالشجاعة، فأمامنا ظروف عصيبة، ويجب ألا نخسر أنفسنا».