أرامل ويتامى سورية يحملون شعلة الأمل ويتوقون إلى «هوا الشام» وعزته

نشر في 05-05-2014 | 00:01
آخر تحديث 05-05-2014 | 00:01
قصة رحلتي مع حملة «ليان» إلى مخيمات الملفوظين من أوطانهم (2-2)
مؤلم شعور اللاجئ بأن معروفاً أسدي إليه حينما يتم التعامل معه بآدمية

إثر رحلة الهند، وبعد مرور شهور كثيرة عليها، بدأت أشعر بالوحشة بين حنايا وطني الكويت، إذ اشتقت إلى تلك الراحة التي انتابتني حين صاحبت الموجوعين والمتألمين والمكلومين والملفوظين من أوطانهم، فلطالما وجدت ذاتي بين هذه القلوب المكسورة، أجبر جراحها فتجبر روحي. كانت الوجهة هذه المرة إلى لبنان مع حملة «ليان» الإنسانية، وكنت أدرك تماماً أنني أشد حاجة إلى هذه الرحلة ممن سأذهب معهم، فجهزت حقائبي لأسافر مع أناس ألتقيهم لأول مرة، لنقتسم معاً الخبز والقهوة والإنسانية.

كان رفاقي في تلك الرحلة إلى البقاع اللبناني، التي استغرقت ثلاثة أيام، بعض مؤسسي حملة «ليان»، الروائية الكويتية بثينة العيسى، ود. صبرا الفهد، والأستاذ الرحالة الرائع عبدالكريم الشطي. أيام ثلاثة مرت مصحوبة بمشاعر شتى، زرنا خلالها مخيمات اللاجئين، وسكنّا في دار «ليان» التي تحتضن 6 أيتام سوريين، لم يتخط عمر كل منهم 9 سنوات... رحلة عنت لي الكثير، ربما أكثر مما عنته لأولئك البائسين الذين زرناهم.

ظروف الحرب والقتل واللجوء والحنين العاصف إلى وطنٍ أصبح ساحة قتال، مثلت مشاهد مبكية من مأساة تدخل سنتها الرابعة، دون أن يحرك العالم ساكناً، مكتفياً بالاستنكار وجمع التبرعات، ولولا تلك الملائكة التي تخفف قسوة هذا العالم لغدت الحياة جحيماً لا يطاق، فها هو أبوزهير، الذي استشهد أبناؤه، يحمل على كاهله مهمة صعبة برعاية أحفاده، وسط معاناة ضاعفها، إلى جانب وطأة السن، ما يعيشه من وضع مادي سيئ، وتلك دانية التي شملت برحمتها أطفال بيت ليان، رغم صعوبة التعامل معهم.

زيارة السجن!

بعد زيارة المخيمات قيل لنا ستزورون السجن، فاستغربت، أي سجن هذا؟ وإذ به مبنى صغير في ضيعة الصويري اللبنانية، وسُمي سجنا لأنه كان فيما مضى تحت تصرف إحدى الفصائل الفلسطينية، ثم أصبح سجناً مهجوراً وحالته يرثى لها، لكنه تحوّل في ظل الظروف الراهنة إلى مسكن يؤوي 25 أسرة سورية أغلبهم من منطقة المعضمية في سورية، وهي منطقة تعرضت للحصار والقصف والكثير من العنف، وهناك افترشت الأرض مع نساء المخيم، وهن في أعمار مختلفة، وكثير منهن شابات في عمر السابعة عشرة، وربما أصغر من ذلك، يحملن أطفالهن، فسألتهن عن سبب استمرارهن في الإنجاب رغم الفقر وانتشار الأمراض بين أطفالهن، فكانت الإجابة: لنعوض رحيل الشهداء!

ونحن نشاهد هذا الوضع الصعب، وتلك الأمراض المتفشية بين الأطفال، كنا نظن أن فكرة الإنجاب في مثل هذه الظروف ليست جيدة.

وحين خرجنا من السجن، قالت إحداهن، أود أن تلتقي عمتي، وهي سيدة كبيرة في السن وتعاني فشلا كلويا لكنها ستسعد بلقائك، فرحبت بالفكرة، وعندما التقيتها وجدتها جالسة على سور وتكسو محياها الجميل تجاعيد زادتها جمالاً، فصافحتها وجلست بجوارها، وسألتها كيف حالك يا حاجة؟ فقالت: لا أمتلك سوى أن أكون بخير، لا أريد أن أشكو، فالرضا مهم يا ابنتي، فقبلت جبينها، وقلت: شكراً لروحك التي لم تتأثر وظلت عابقة بالحياة، فقبلتني، وقالت: أراك على خير يا ابنتي.

دموع أبي زهير!

كان القائمون على "بيت ليان" حريصين على التعرف على الأسر التي ستودع أبناءها لديهم، وسمعوا عن أبي زهير وقصة استشهاد أبنائه ومهمته الصعبة في رعاية أحفاده في ظل وضعه المادي السيئ، فهو يدفع إيجار هاتين الغرفتين نحو 200 دولار من خلال بيع قسائم الغذاء التي تقدمها الأمم المتحدة لهم، وكان يتمنى لهم مستقبلا أفضل لذا كان يود أن ينضموا الى بيت "ليان". قمنا بزيارة منزله وهو عبارة عن كراج يضم غرفتين. أم زهير سيدة احتارت في ظل القصف ماذا تأخذ معها فكان طقم فناجين القهوة التي ضيفتنا فيه من ضمن الأشياء المحببة إليها. شربنا قهوة بطعم الدموع وبطعم الخلاص من الرصاصات، هكذا بدت تلك الفناجين التي نجت من الموت ولم ترحم جثمان أم الطفلات الثلاث اللاتي انضممن اليوم الى بيت ليان، فقد تلقت أمهن رصاصة قناص أودت بحياتها وحياة من حاول انتشال جثتها من الشارع. مازالت بناتها يشهدن الكوابيس كل ليلة ويفزعن أثناء نومهن.

كانت دموع أبي زهير تنهمر حين يتذكر أنه كان يعيش في وضع مادي مريح في بلده، وكان يعيش حياة مرفهة ويمتلك منزلا ومشروعا خاصا، واليوم يودع حفيداته في بيت ليان، لأنه لا يستطيع توفير حياة كريمة لهن، حقاً قاسية هي الحرب على كبار السن والأطفال، ومخيفة هي حين تسرق الشباب بقتلهم.

خيمة أم أيمن!

في اليوم الثاني زرنا مخيم "خربة روحا"، وهو مخيم قديم أنشأته حملة ليان. كنا في خيمة أم أيمن تحديدا لنستمع إلى قصتها، سيدة ثلاثينية، ابنها أيمن عمره 12 سنة مصاب بشلل دماغي، ورغم ذلك كانت الابتسامة لا تفارق محياه. كانت تشكو أن علاجه مكلف، وهذا سبب تدهور وضعه الصحي. أما ابنتها صفا فهي تعاني ضمورا في الدماغ، ووضعها قابل للعلاج في حال تلقت الرعاية السليمة، ومن الممكن أن تتطور حالتها وتتحسن، ولكن للأسف انعدم العلاج في ظل هذا الوضع المادي الصعب، فضلاً عن ظروف اللجوء.

وذكرت أم أيمن أن هناك جمعية تدعى "قلوب من نور" عرضت عليها تقديم علاج فيزيائي لابنتها، ولكنها، بكل بساطة، لا تمتلك تكاليف المواصلات!

ونحن نتجول في المخيم دعتنا سيدة لنزور خيمتها وأصرت أن نحتسي قهوتها، تبادلنا الحوارات وكنا نعلم أحياناً أن مصابهم عظيم، ولكن الاستماع الى همومهم قد يخفف عنهم ولو قليلاً، وحين ودعتنا شكرتنا لأننا احتسينا قهوتها، وقالت: "الواحد يحس حالو بني آدم"، لأننا قبلنا احتساء قهوتها. مؤلم ما وصل إليه حال اللاجئ حين بات يشعر أن الطرف الآخر حين يتعامل معه بآدمية كأنه أسدى إليه معروفاً، هكذا هي خسارة الأوطان تجعل كرامتك في مكان منسي في الذاكرة إلى أن تعود إلى وطنك.

ملائكة بين البشر

دانية واحدة ممن شملت برحمتها أطفال بيت "ليان"، إذ كانت يداها تحنو على هؤلاء البؤساء، فرغم صعوبة التعامل معهم لظروفهم القاسية فإنها كانت القلب الحنون حين يحتاجون إلى الحنان، والمعلمة الصارمة حين يحتاجون إلى ذلك. إبراهيم طفل مر بظروف صعبة وشهد مقتل أبيه، واجه ظروفاً قاسية وما كان من دانية إلا أن احتوته.

ظروف الحرب والقتل واللجوء والحنين العاصف لوطن أصبح ساحة قتال كان مشهداً طويلاً من مسرحية تدخل سنتها الرابعة دون أن يحرك العالم ساكناً سوى الاستنكار وجمع التبرعات. لولا هؤلاء الملائكة الذين يجعلون من هذا العالم البائس مكاناً أفضل لكانت الحياة رحلة شاقة ومتعبة.

علاء ملاك آخر، كان يهتم بتعليم الاطفال، وتدريسهم، ورعايتهم بعد المدرسة في بيت ليان، كان بمثابة الأخ الأكبر، صارم أحياناً وعطوف كثيراً، لديه وجه تكتسيه طيبة لا يمكنك أن تجد فيه إلا الخير.

علاء ودانية كانا بشراً أيضاً، ولكن الله رزقهما قلبين من نور... كانا ينثران الأمل والمحبة حولهما... وحين سألتها ماذا يعني اسمك يا دانية، أجابت أي القريبة من القلب، فكان لها من اسمها نصيب كبير.

أمنيات معلقة

في ظل ظروف الحرب والتشرد وهذا الشعور المفاجئ بأنه لا وطن آمنا لك بعد اليوم، تمنى كل شخص زرناه في خيمته ألا نشعر بهذا الشعور، حين كنا نحاول جاهدين أن نرسم البسمة كانت هناك دائما دموع مخفية تبرق حين نودعهم فيقولون "سنلتقي بالشام ونحتسى القهوة معاً وهوا الشام غير"...

كنا زواراً... نرصد ما نراه، نحاول أن نشعر بهذا الآخر الذي أصبح يتمنى أبسط الأشياء، كلحاف يدفئه من البرد ليلاً، ورغيف يسد جوعه، وحفاضات لابنه الرضيع.

أما فرص العمل فكانت أمنية مشتركة للجميع، ولكنهم يدركون مدى صعوبتها، الخيمة التي تستضيفك اليوم قد تجد آخرين يقطنونها بعد فترة، هناك دائما نزوح لحالات أصعب، هناك دائما وضع أسوأ لأسرة قادمة، هناك دائما امرأة تحمل في جعبتها هموماً لزوج تحلم أن تلتقيه ولم يستطع الحضور معهم، وأطفال تود لو تطعمهم وتوفر لهم الرعاية الصحية، ولكن لا حول لها ولا قوة.

كنت أتمنى لو كان لدي أكثر من مجرد القلم لأساعد، ولكني بعد هذه الرحلة عرفت كيف يمكن للعالم أن يصبح مكاناً أفضل رغم كل البؤس، بقليل من الرضا والابتسامة. رغم كل شيء غمرني الأطفال بالأحضان والورود وكنت لا أمتلك سوى تبرعات بسيطة من أهلي وأصدقائي، رغم أن هذا القليل لا يكفي فإن هذه المحبة التي تبادلناها كانت وستظل تتوسط قلبي، أشعلت شمعة محملة بأمنية أن يرجع كل لاجئ إلى وطنه وينعم بالسلام.

الكرم الشامي لا يفارق السوريين!

لا يمكن حتى في ظل هذه الظروف القاسية ألا نلاحظ كرم السوريين، سواء أكانوا لاجئين أو مستقرين في لبنان. في كل خيمة كانوا يضيفوننا القهوة والمشروبات الساخنة، وكان إصرارهم لا يثنيه اعتذارنا. هذا الكرم غمرنا كثيراً، أن تكون بلا مأوى ولا تمتلك من قوت يومك سوى القليل ومع ذلك تشاركه بحب مع شخص تعلم أنه في وضع مادي أكثر استقراراً منك كلاجئ هي صفة مثيرة للانتباه!

أصرّت دانية أن تدعونا إلى وليمة كبة شامية من يد والدتها الست نهلة، وبعد ثلاثة أيام من تناول الساندويشات والمناقيش فقط، كان لي شرف الغداء على مائدة كريمة مليئة بجميع أنواع الكبة وبحساء لذيذ. كانت تلك الوجبة هي ألذ ما تناولت في رحلتي، والأجمل هي تلك المحبة الفورية التي شعرنا بها مع دانية وأسرتها، وإحدى خصال الأسر السورية هي قدرتها على إشعارك بأنك فرد منها، والحديث معهم يبدو سلسلاً ومشوقاً بشكل غير متعمد، شعرت أن هذه المستديرة مليئة بأشخاص هم بمثابة أهل قد التقيتهم للتو. ودعنا البقاع بوليمة فاخرة عند أسرة سورية رائعة مع دعوات حقيقية لأن نلتقي على المحبة والكبة من جديد.

بائع الحلوى وموسيقى العيد

كان صوت موسيقى الأعياد والطفولة في الشارع تبدو كأنك فتحت للتو بطاقة تهنئة بالعيد. كنا قد وصلنا للتو إلى بيت ليان، وإذ بسيارة صغيرة تحولت إلى عربة من الحلويات العربية تركن أمام البيت، بعد يوم حافل من زيارة المخيمات واللاجئين بدت لي هذه السيارة مغرية جداً، فاقتربت من البائع لأسترق نظرة على الحلويات، وسألته: من أين أنت؟ أجاب من حلب، وهي أكبر مدينة في سورية ومن أقدم مدن الدنيا.

قال إن اسمه فيصل، وكان لديه معمل لإعداد الحلويات في حلب، وهي مهنة توارثها من الاهل، ولكن بتنهيدة قال: هل تعلمين أني أحمل شهادة البكالوريا ولكن لا تتوافر لي فرص العمل في لبنان، فقلت له على الأقل تمتلك أنامل ذهبية تصنع حلوى ذهبية مقرمشة تبدو شهية.

كان فيصل قد استأجر غرفة صغيرة ينام فيها وخصص جزءاً منها لإعداد الحلويات بأنواعها، البسبوسة ولقمة القاضي والكنافة، يتجول كل يوم في منطقة جديدة وكانت موسيقى الأعياد أداة يستخدمها ليلفت الانتباه إلى وجوده، ابتعت منه مجموعة من الحلويات، أكلها الأيتام بسعادة.

وكنت في كل مرة أسمع فيها موسيقى الأعياد أتذكر مذاق الحلوى.

back to top