معركة غزة ... حروب المعرفة

نشر في 09-08-2014
آخر تحديث 09-08-2014 | 00:01
 عبداللطيف مال الله اليوسف وللأوطان في دم كل حر

يد سلفت ودينٌ مستحق

ولا يبني الممالك كالضحايا

ولا يدني الحقوق ولا يحق

ففي القتلى لأجيال حياة

وفي الأسرى فدى لهم وعتق

أحمد شوقي

صغير يصنع صاروخا وطائرة وكبير يشتريهما، وشتان ما بين صغير يمتلك المعرفة وكبير يفتقر إليها، هذا ما قاله الفلسطينيون في غزة وفي عموم أرض فلسطين، وفي جميع أمكنة الشتات والمنافي عندما اعتقد الشامتون أنهم يعيشون الرمق الأخير، وحده العدو كان يعرف أنهم يصنعون لكن المفاجأة أنهم بلغوا هذه المرحلة المتقدمة، وهذا هو السر الذي لم يدرك الفلسطينيون كنهه، فأن تمتلك السلاح عبر صفقات البيع والشراء فأنت لا تمثل خطراً لكن أن تمتلك أسرار معرفة تصنيع هذا السلاح فأنت تخيف الأعداء وتوغر صدور غيرهم في أنك ترتكب كبيرة الكبائر، إذا ما اعترضت في زمن الطاعة العمياء، وإذا ما قاتلت والقوم في حال انبطاح.

عندما قامت الثورة المصرية في 23 يوليو 1952 خرج الزعيم الراحل جمال عبدالناصر بمقولة "إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، وقد أججت هذه الدعوة جذوة الشعور القومي العربي تجاه القضية الفلسطينية، وبدا الأمر وكأنه مشروع قبضة يلوح بها في وجه من استهان بالحق العربي، لكن لأن هذه الدعوة انطلقت من ركام الذل والهوان الذي ران على الأمة العربية فقد تضافرت الجهود لوأدها، لا سيما أن من دعا إليها سعى سعيه إلى امتلاك القوة بأن أخذ بأسباب المعرفة والأسرار المؤدية إليها، وكانت المواجهة الأولى عندما رفض يوجين بلاك (رئيس البنك الدولي للإنشاء والتعمير) تمويل مصر بالقروض اللازمة لإقامة السد العالي، وهو المشروع الحيوي للإنماء الزراعي، وعندما أمم عبدالناصر قناة السويس كمحاولة منه لتسخير مقدرات الدولة لمواجهة عملية إقامة السد شنت بريطاينا وفرنسا وإسرائيل الحرب عليه في عام 1956، بحجة أن التأميم هو تهديد للسلم العالمي، أما قيام القوات الصهيونية بخرق الهدنة في عام 1949 واحتلال قرية أم الرشراش المصرية الواقعة على خليج العقبة وإقامة ميناء إيلات الإسرائيلي الحالي فليس فيها تهديد للسلم العالمي!

ضرب العراق وتحطيمه في عام 2003 لا يخرجان عن كونهما حلقة من سلسلة ضمن برنامج ممنهج ومرسوم، إطاره الكذب والافتراء لضرب المستوى العلمي العالمي الذي بلغه هذا القطر العربي، فكان أول ما حطمه الاحتلال الأميركي هو الجامعات والمعاهد العليا والمراكز المتطورة فيه، ولن نقبل في هذا السياق المبررات المطروحة للحرب الضروس التي أتت أو كادت على القطر العربي السوري بعدما اتضح أنها تمتلك شيئا من أسرار المعرفة العلمية التي ستدفع بها إلى مصاف الدول المتقدمة، ولذلك كان أسمى أهداف القوى المضادة هو تجريدها من مخالبها الكيميائية والجرثومية حتى لا تطور معرفتها إلى صنع ما هو أنكى وأشد من أسباب القوة، وحتى يسهل فيما بعد تحطيم الأوعية العلمية في شتى المجالات.

حرب غزة كشفت عن أن هناك بذرة عبقرية صناعية عربية تستقر في هذا الجزء المتناهي في الصغر من الوطن العربي، ولن نقبل التهوين من شأن هذه القوة النامية، فالفلسطينيون رغم الحصار البحري والجوي والبري، ورغم ضنك العيش وشح الموارد يبدعون، ولا سبيل إلى التخلي عما أبدعوا من أسباب القوة التي أسفرت عن سابق درايتهم العلمية، فعلى من يفكر بحملهم على التخلي عن قوتهم الناشئة من العرب أن يقارن ما بين الآثار التي أحدثتها هذه المواجهة الدامية، رغم قصر مدتها في نفسية العدو، والنتائج التي أسفرت عنها المفاوضات المستمرة منذ اتفاقية أوسلو 1993 حتى استقالة مارتن إنديك، وهو المفوض الأميركي للشرق الأوسط الذي يرعى مفاوضات الحل السلمي بين العدو والسلطة الفلسطينية، حيث قال وهو اليهودي المولد الصهيوني التوجه: إن فشل المفاوضات سببه الجانب الإسرائيلي لأن المروجين لنشاطات إسرائيل الاستيطانية هم من عارض المفاوضات رغم أنهم من الحكومة الإسرائيلية التي التزمت بهذه المفاوضات، وأن عزم هؤلاء المروجين استخدام النشاط الاستيطاني لتخريب المفاوضات هو الذي نجح في النهاية.

لم تكن اتفاقيات أوسلو ومدريد إلا تتويجا لحالة اليتم التي احترق الفلسطينيون في أتونها، فقد خبروا كل المنافي، وما إن يستقر بهم مقام في منفى حتى ينبو بهم مقام في منفى آخر، تسولوا في أثنائها لقمة عيشهم  من منظمة الأونروا تارة، وتارة أخرى توسلوا قاتلهم حد الكفاف، فإذا ما تمردوا يموتون قتلاً، وإذا ما خنعوا فإنهم يموتون جوعاً، فلماذا لا يقاتلون فيموتون ويميتون ما داموا هم في كل الأحوال موتى؟!

back to top