مخاطر محدقة تهدد نجاح اتفاق جنيف النووي

نشر في 08-12-2013 | 00:01
آخر تحديث 08-12-2013 | 00:01
No Image Caption
تبرز تجربة «أوسلو» الطريقة التي يجب أن يتعاطى بها المشاركون مع المفاوضات الإيرانية، فتولد السياسات المحيطة بإطار عمل اتفاق جنيف بيئة حافلة بالخلاف الذي قد يؤدي إلى تقويض الثقة، فضلاً عن أن الأطراف المشاركة في المحادثات ستواجه ضغوطاً كبيرة.
 Marc Lynch بات الاتفاق المؤقت في جنيف بين مجموعة (5+ 1) وإيران يُعتبر المناورة الدبلوماسية الأكثر أهمية منذ "اتفاقيات كامب ديفيد" بين مصر وإسرائيل و"اتفاقيات أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، فقد شكلت "خطة العمل المشتركة" إنجازاً رمزياً ضخماً بعد سنوات من الجمود الدبلوماسي المثير للاستياء. كذلك أعطتنا لمحة مثيرة للاهتمام عن شرق أوسط مختلف، فقد ساهمت بسرعة في تطبيع العلاقات والممارسات، علماً أن هذه الخطوة بدت مستحيلة قبل وقت قصير، ولا شك أن التوصل إلى اتفاق ناجح بشأن الوضع النهائي لبرنامج إيران النووي سيشكل إنجازاً دبلوماسياً بالغ الأهمية، ولكن على غرار "كامب ديفيد" و"أوسلو" يبقى اتفاق جنيف الحالي اتفاقاً مؤقتاً يترك الكثير من المسائل الأساسية من دون حل، ما يعني أن احتمال الفشل عالٍ جداً.

بنية التحالف

تُظهر مقارنة "جنيف" بـ"كامب ديفيد" الخطوات الإيجابية التي قد تسفر عن هذا الاتفاق، في حين أن مقارنتها بـ"أوسلو" تعكس أسوأ ما قد يحدث، فتُبرز "كامب ديفيد" أن من الممكن تطبيق الاتفاقات رغم الظروف غير المؤاتية، ما يدفع بالتغيير الاستراتيجي الجذري في اتجاهات غير متوقعة، لكن "أوسلو" تُظهر السهولة التي قد يُخفق بها اتفاق جنيف، نظراً إلى الفرص التي يتيحها هذا الاتفاق أمام المخربين للتدخل وأمام مشاكل التطبيق لتعطل قوة التغيير التي يتمتع بها. ولا شك أن هذا الواقع مقلق لأن إطار عمل صفقة جنيف يشبه أسلو أكثر من أي اتفاقية أخرى.

لكن ما يبرهن مدى نجاح "اتفاقيات كامب ديفيد" واقع أن قليلين يتذكرون اليوم أن مصر كانت طوال عقود خصم إسرائيل الأكثر خطورة من الناحية العسكرية ولاعباً استراتيجياً أساسياً في النظام الموالي للعرب. نتيجة لذلك، اعتبر معظم المحللين السياسيين نحو منتصف ستينيات القرن الماضي الشراكة الأمنية المصرية-الإسرائيلية الدائمة، التي تستمر طوال عقود، مجرد فكرة مشينة منافية للمنطق، إلا أن "كامب ديفيد" تُظهر أن عملية إعادة توجيه مستبعدة لخصمين بارزين ممكنة، لا بل مرجحة، وأن من الممكن تطبيعها بسهولة بعد التوصل إليها.

بددت المحادثات التي عُقدت في كامب ديفيد في سبتمبر عام 1978 فوضى سنوات من المفاوضات الطاحنة التي تلت حرب 1973، والتي ركزت على شروط فك الاشتباك. فُتح الباب أمام محادثات مماثلة بعد أن قرر الرئيس المصري أنور السادات فجأة مخاطبة الكنيست الإسرائيلي. وعلى غرار اليوم، أدرك كلا القائدين حينذاك المصالح الاستراتيجية الكبيرة في التوصل إلى اتفاق، رغم مواجهتهما معارضة محلية وإقليمية كبيرة، فقد فهم رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغين أن سلاماً حقيقياً مع مصر سيكون له التأثير الأكبر في ضمان أمن إسرائيل. في المقابل، كان السادات يتوق إلى تعزيز انتقاله إلى بنية التحالف التي تقودها الولايات المتحدة، الذي بات راسخاً في إسرائيل والخليج العربي. رغم ذلك، استغرق توقيع معاهدة السلام ستة أشهر، كذلك مرت سنوات عدة قبل خروج إسرائيل من سيناء.

تبين أن الصفقة الرئيسة التي عُقدت بين مصر وإسرائيل، والتي رعتها الولايات المتحدة، قوية وراسخة، فقد نجحت مصر في الاندماج كاملا في نظام التحالف الأميركي، فلم يدُم طردها من جامعة الدول العربية إلا بضع سنوات قبل أن تسهل دول الخليج عملية إعادة تأهيلها. وهكذا، ما عادت إسرائيل تقلق بشأن أي تهديد عسكري خطير من الجانب المصري منذ توقيع المعاهدة، وقد استمتعت بمشاركة مصر في ضبط سيناء، وحصار غزة، وتنسيق السياسات الأمنية الإقليمية، ولا شك أن هذه المعاهدة لا تُعتبر مساهمة سيئة في أمن إسرائيل الطويل الأمد من رئيس أميركي ديمقراطي نظر إليه المسؤولون بعين الريبة في تل أبيب واعتبرته مؤسسة السياسة الخارجية المتشددة ساذجاً أو كارثة في مجال السياسة الخارجية.

رصاصة الرحمة

في المقابل، كان لإخراج مصر من المعادلة الإستراتيجية تأثيرات غير متوقعة، فقد تبين أن القاهرة عاجزة عن استمالة سائر دول العالم العربي، خصوصاً بعد تبدد البنود المتعلق بإنشاء موطن للفلسطينيين في الهواء بسرعة، وربما كان لسعي صدام إلى سد الفراغ الناجم في القيادة العربية دور في اتخاذه قرار غزو إيران عام 1980، في حين أدى طرد مصر المؤقت من الجامعة العربية إلى تبدل ميزان القوى على الأمد الطويل لمصلحة دول الخليج. ويعتقد كثيرون أن معاهدة السلام مع مصر شجعت إسرائيل أيضا على الانطلاق في غزوها الكارثي للبنان عام 1982، وهكذا بقيت "كامب ديفيد" في النهاية مجرد معاهدة سلام باردة قوية على المستويات السياسية الرفيعة والتعاون الأمني، إلا أنها لم تنجح مطلقاً في تغيير الهوية والخطاب السياسيين العربيين.

لكن عملية "جنيف" تبدو أقرب إلى "أوسلو" منها إلى "كامب ديفيد"، فتقوم خطة العمل المشتركة على اتفاق مؤقت مدته ستة أشهر صُمم ليسمح لكلا الطرفين بالإعراب عن حسن نواياه ويبني الثقة والعزم نحو التوصل إلى اتفاق أكثر صعوبة بشأن الوضع النهائي. وهذا كان بالتحديد المنطق الكامن وراء عملية أوسلو، فقد استندت هذه العملية إلى هذا المنطق عينه للتوصل إلى اتفاقات مؤقتة تمهد الطريق نحو اتفاق أكثر صعوبة بشأن الوضع النهائي، ولا يزال كثيرون يذكرون الفشل الذريع الذي مُني به هذا المنطق، فقد قوض السلوك والخطاب الاستفزازيان من كلا الجانبين الثقة التي كان من المفترض أن يعززها هذا التعاون، فواصلت إسرائيل بناء المستوطنات بلا هوادة، في حين تزايدت الاعتداءات الإرهابية الفلسطينية، كذلك لم يلتزم الطرفان بالمهل المحددة، ما خيب أمل الشعوب المعنية، وما كان إخفاق مساعي الرئيس بيل كلينتون للتوصل إلى اتفاق نهائي في قمة "كامب ديفيد" عام 2000 إلا رصاصة الرحمة.

بناء الثقة

تبرز تجربة "أوسلو" الطريقة التي يجب أن يتعاطى بها المشاركون مع المفاوضات الإيرانية، فتولد السياسات المحيطة بإطار عمل اتفاق جنيف بيئة حافلة بنقاط الخلاف التي قد تؤدي إلى تقويض الثقة. فحتى الأطراف التي شاركت في المحادثات، والتي تريدها على الأرجح أن تنجح، ستواجه ضغوطاً كبيرة لتغالي في وصف إنجازاتها خلال هذه المحادثات، مع التقليل من أهمية مكاسب الطرف الآخر، وكلما شعر فريقا باراك أوباما وحسن روحاني بالحاجة إلى التأكيد أنهما "انتصرا" في المحادثات، ازداد احتمال فشل هذه الأخيرة.

في المقابل، حصل معارضو هذه الصفقة على معلومات واضحة نسبياً عن الخطوات التي قد تقوض الاتفاق، فقد سبق أن أعلن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أن أي عقوبات أميركية إضافية تلغي هذا الاتفاق، ما يشكل خطاً أحمر يُظهر للمخربين في الكونغرس ما عليهم فعله، ولا شك أن المتشددين في المؤسسة الأمنية الإيرانية لن يواجهوا أيضاً صعوبة تُذكر في إثارة المواجهات خلال عملية التفتيش، هذا إذا لم نذكر احتمال افتعال المشاكل في سورية، أو العراق، أو لبنان. كذلك لن يصعب على إسرائيل ودول الخليج العربي، التي عبرت عن شكوكها بوضوح، التوصل إلى طرق تُشعل بواسطتها الأزمات أو تولد مشاكل جديدة، في حال لاحظت أن المحادثات تسير بسلاسة.

ستتيح فترة الأشهر الستة للمخربين من كل الأطراف الكثير من الفرص لتحطيم الثقة، وتخريب هذه العملية، وتوجيه محادثات الوضع النهائي نحو الفشل الأكيد. لذلك على واشنطن وطهران كلتيهما أن تتنبها لهذا المنطق وتركزا على الحفاظ على الزخم للمضي قدما، فتعرقلان بذلك مساعي المخربين وتتجنبان التأثيرات السلبية لعدم الثقة وخيبة الأمل؛ كذلك على الطرفين أن يبرهنا أنهما يملكان الإرادة والرغبة للالتزام بنص اتفاقهما وروحه، فالتركيز على مكاسب التفاوض القصيرة الأمد أو المواقف السياسية الداخلية يبدد بسرعة على الأرجح أي أمل ببناء الثقة من خلال التعاون؛ لذلك من الضروري إيلاء الدبلوماسية العامة، التي تهدف إلى بناء الدعم لهذه العملية وتفادي نقاط الخلاف المتوقعة، أهمية تضاهي ما يُخَصص للمفاوضات بحد ذاتها. يجب أن ننسى ميونخ، ونتعلم الدروس من أوسلو، ونتمسك بكامب ديفيد كدليل على أن النجاح ممكن ويستحق العناء.

back to top