لماذا تستفز الصين جيرانها؟

نشر في 19-02-2014 | 00:01
آخر تحديث 19-02-2014 | 00:01
No Image Caption
بما أن الصين تعجز عن تأمين مياه بحار المحيط الهادئ الهامشية مع مراقبة سلاح الجو والبحرية الأميركيين كل خطواتها، فإن سلوك سلاح الجو والبحرية الصينيين يرتبط إلى حد كبير بتحسين صورة القيادة الصينية في الداخل.
 Robert Kaplan ما الذي يخططه الصينيون؟ لمَ يعملون على تأجيج التوتر إلى هذا الحد في حوض المحيط الهادئ؟ أشعل إعلان بكين أخيراً قواعد صيد جديدة في مياه إقليمية متنازع عليها غضب جيرانها البحريين وأثار استنكار الولايات المتحدة، وجاء هذا الإعلان في أعقاب إعلانها منطقة دفاع جوية جديدة فوق جزر متنازع عليها في بحر الصين الشرقي، ما دفع الولايات المتحدة إلى إرسال طائرات من طراز "بي-52" من قاعدة غوام للتحليق فوق هذه المنطقة في تحدٍ لإعلان الصين، وكتأكيد للدفاع عن اليابان، التي تدَّعي أيضا ملكية هذه الجزر. وفي وجه التصميم الأميركي والياباني العسكري، هل تستطيع الصين حتى الدفاع عن ملكيتها جزر دياويو (سينكاكو باليابانية)؟ وهل بإمكانها حقاً السيطرة على جزر سبراتلي في بحر الصين الجنوبي؟

لا شك أن تصريحات الصين تبدو أسوأ من أعمالها، فالخطوات التي اتخذتها في بحرَي الصين الشرقي والجنوبي تنبع، في بعض أوجهها، من موقع ضعف، فأنظمة الإنذار المبكر البرية والجوية الضرورية للدفاع عن تلك المنطقة الجديدة بعيدة جداً أو لا تزال قيد الإنشاء، في حين أن اليابان قد حققت تقدماً أكبر في هذا النوع من المنصات، التي تشكل جزءاً من جيشها منذ عقود. فضلاً عن ذلك، يصعب على الصين، بسبب أنظمتها اللوجستية البحرية وخطوط إمدادها الطويلة، احتلال جزر سبراتلي رسمياً والحفاظ عليها.

من المؤكد أن البحرية وخفر السواحل الصينيين يستطيعان بكل سهولة التفوق على أي منافس محلي منفرد، باستثناء اليابان، لكن بكين تعجز عن التغلب على أي مجموعة من الدول تشمل الولايات المتحدة، ولا شك أن أي عمل استفزازي واضح يبدل الوضع القائم (مثل احتلال جزر، أو مواجهة عسكرية، أو إقامة منطقة دفاع جوي) يولد خطراً مماثلاً: خطر جر الولايات المتحدة إلى مواجهة مع الصين. فقد دعت الفلبين صراحة إلى توسيع الأصول الجوية والبحرية الأميركية في أرخبيلها وحوله، وستعمل واشنطن قريباً على نقل إحدى أكثر حاملات طائراتها تطوراً لتكون قريبة من خطوط المواجهة بين اليابان والصين.

ولكن ماذا لو أراد النظام الصيني تأجيج التوتر مع الولايات المتحدة ليسترضي مواطنيه، متفادياً في الوقت عينه أي صراع حقيقي معها؟ يحمل هذا الطرح مخاطر كبيرة، إلا أنه يعلل السلوك الصيني. يوضح هذا الطرح في الواقع تصرفات الصين في منطقة الهادئ الآسيوية بأسرها، تصرفات تتصدر عناوين الأخبار من دون أن تؤدي إلى ضرر يُذكر. على سبيل المثال، تملك الصين سفناً تابعة لخفر السواحل تجوب المياه المحيطة بالجزر، وتستفز هذه السفن أحياناً سفن الصيد الفلبينية والفيتنامية، لكن أعمالها هذه تبقى مجرد خطوات استعراضية، ففي معظم الحالات، لا يحاول الصينيون تبديل الوقائع الاستراتيجية لأنهم يعجزون عن ذلك، فلم تبلغ القدرات الجوية والبحرية الصينية الفاعلة هذا المستوى بعد. لا عجب، إذاً، في أن الولايات المتحدة (مرة أخرى، في معظم الحالات) تتجاهل هذه الخطوات الصينية. بكلمات أخرى، لا نشهد أي تعزيز بحري أميركي واضح في هذه المنطقة.

إذاً، ما نراه راهناً ما هو إلا مجموعة من المواجهات المدروسة هدفها في الصين إبقاء الروح الوطنية عالية بغية تعزيز الإحساس بتنامي القوة الصينية، علماً أن هذا ضروري للقيادة الصينية لأنها بلغت مرحلة بدأ فيها النمو الاقتصادي يتراجع، كذلك يساعد هذا الاستعراض في البحر الصين على التأثير في المحادثات الثنائية مع جيرانها البحريين من موقع قوة أفضل، أو على الأقل تمهيد الطريق أمام تأكيد ملكيتها بعض الجزر لاحقاً بالتشديد على عجز القوى المحلية عن إنكار المطالب الصينية تماماً، علماً أن هذه المناورة تقلق كثيراً جيران الصين. علاوة على ذلك، تُظهر الصين لشعبها، بدفعها سلاحها البحري وخفر السواحل إلى استفزاز بلد مثل الفلبين (هذا إذا لم نقل اليابان)، أن النظام يتصدى للولايات المتحدة التي تملك معاهدة دفاع مشترك مع كلا البلدين.

ولكن لنتأمل قليلاً في طريقة تصرف الصين في بحرَي الصين الشرقي والجنوبي خلال السنوات القليلة الماضية: عندما استرعت أعمالها الأحادية الكثير من اهتمام الولايات المتحدة بسبب بنية تحالفها وباتت كلفة الخطوات الصينية تفوق فوائدها، حوَّل الصينيون انتباههم إلى مسألة مختلفة. على سبيل المثال، أجج الصينيون التوتر طوال أسابيع في منطقة جزر سبراتلي قرب الفلبين في بحر الصين الجنوبي، ولكن عندما بدأت الولايات المتحدة تصب اهتمامها على هذه المسألة، مهددة بتعزيز وجودها البحري، بدلت الصين اهتمامها العسكري وبالتالي العام إلى بحر الصين الشرقي واليابان. صحيح أن الصينيين لم يوقفوا دورياتهم قرب الفلبين، إلا أنهم قللوها وأقدموا على خطوات أكثر استفزازاً في مكان آخر، حول جزر "دياويو/سينكاكو"؛ لذلك من المرجح أن يتراجع تركيز وسائل الإعلام على هذا الخلاف في بحر الصين الشرقي، وأن تزيد الصين معدل استفزازاتها البحرية قرب فيتنام وتايوان. إذاً، بما أن الصين تعجز عن تأمين مياه بحار المحيط الهادئ الهامشية مع مراقبة سلاح الجو والبحرية الأميركيين كل خطواتها، فإن سلوك سلاح الجو والبحرية الصينيين يرتبطان إلى حد كبير بتحسين صورة القيادة الصينية في الداخل.

بما أن القدرات العسكرية الصينية تنمو بسرعة أكبر مما نراه في أي بلد آسيوي آخر، فقد نظن أن من المنطقي أن تتصرف بكين كجارة حسنة النوايا، تتفادى إثارة الأزمات، وتكتفي بتمرير الوقت لأن ميزان القوى العسكرية في المحيط الهادئ يميل تدريجياً لمصلحتها، ولا شك أن استراتيجية مماثلة ستقرب إليها الكثير من دول المنطقة، مما يقلل بالتالي من اعتماد هذه الأخيرة النفسي على الولايات المتحدة. لو لم يكن القادة الصينيون عرضة لضغوط مماثلة في الداخل، لسعوا لخوض هذه اللعبة الطويلة الأمد بانضباط دقيق، فهذا ما فعلته الصين طوال سنوات بمشورة من القائد السابق دينغ شياو بينغ، مبقية قدراتها العسكري مخفية نسبياً ومتفادية الصراعات الإقليمية.

لكن القادة الصينيين يشعرون بضغوط كبيرة في الداخل، فلم تعد المعجزة الصينية كما عهدناها في السنوات الماضية، كذلك لم يعد هنالك من مفر من الإصلاحات الأساسية وعملية إعادة الموازنة، حتى لو حققت الإصلاحات النجاح وتبين أن قادة الصين الجدد أبطال لا يقلون شأناً عن دينغ شياو بينغ، لا مجال على الأرجح لتفادي المزيد من الاضطرابات السياسية والاجتماعية؛ لذلك يحتاج الرئيس الصيني الجديد وقائد الحزب شي جينبينغ إلى مقبض يستطيع الضغط عليه لتخفيف الضغط العام عن فريقه الجديد، وتُعتبر المسائل القومية الحل الأسهل في ظرف مماثل.

إذاً، يبدو أن الصين، بإثارتها الأزمة تلو الأخرى في بحرَي الصين الشرقي والجنوبي، تعمل ضد مصالحها الاستراتيجية المتوسطة الأمد مقابل نيل فوائد قصيرة الأمد في الداخل، فلا تحقق التصرفات العدائية، مثل استفزاز الفلبين وتأجيج التوتر مع اليابان، أي أهداف غير زيادة اعتماد هذين البلدين على قوة الولايات المتحدة، مع أن الصين تريد تقليص هذه القوة في المنطقة، وهنا تكمن المفارقة: لا تحكم الأنظمة المستبدة، بتعريفها على الأقل، بموافقة المحكومين، ولكن في هذه الحالة، كما في حالات كثيرة أخرى، يتضح أن الحكام المستبدين يحتاجون إلى موافقة الشعب، ويعملون بطريقة مخالفة لمصالحهم بغية تحقيق ذلك.

لا شك أن قادة الصين وشعبها يؤمنون حقاً بمطالبهم في المحيط الهادئ ويصرون على أنهم يحاولون تأكيد حقهم فحسب في وجه ادعاءات كاذبة تُطلقها دول أخرى في المنطقة تتلقى الدعم من الولايات المتحدة المهيمنة، لكن هنا أيضاً كان احتمال الاستجابة لهذه المطالب سيزداد، لو أن الصين تتصرف بتحفظ، حتى لو واصلت بناء جيشها لتتمتع لاحقاً بعنصر المفاجأة.

اعتقد الأميركيون طوال سنوات أن القوة الصينية ستكون أقل خطورة لو أن الصين تتحرر ويتمكن الرأي العام من لعب دور أكبر في تحديد السياسات، ولكن يبدو أن العكس صحيح، فكلما شعرت القيادة الصينية أنها مضطرة للإصغاء إلى الرأي العام، تفاقم على الأرجح سلوك النظام القومي والعدائي. إذاً، قد تخبو الأزمة الراهنة في بحر الصين الشرقي، إلا أننا سنشهد المزيد من الأزمات المماثلة في المستقبل القريب. وعلى الأمد الطويل، سيتراجع استعداد الدول المجاورة لتجاهل ادعاءات الصين، في حين تنمو قوة هذه الأخيرة العسكرية وتصبح قادرة على دعم أقوالها بالأعمال.

back to top