معدتُك تؤثر على عقلِك!

نشر في 15-02-2014 | 00:02
آخر تحديث 15-02-2014 | 00:02
اختبرنا جميعاً تأثير جراثيم الأمعاء على عواطفنا. يكفي أن نفكر بطريقة شعورنا في المرة الأخيرة التي أصبنا فيها بالتهاب في المعدة. اتضح الآن أن بعض جراثيم الأمعاء قد يؤثر إيجاباً على مزاجنا وسلوكنا. بدأت تنكشف طريقة حدوث ذلك تدريجاً، ما يعني استكشاف طرق جديدة لمعالجة الاضطرابات العصبية والسلوكية مثل الاكتئاب واضطراب الوسواس القهري.
اتضحت أخيراً آثار جراثيم الأمعاء التي تغير وضع العقل، ما يوفر أساليب جديدة لتحسين الصحة العقلية. نكتسب ميكروبات الأمعاء بعد الولادة مباشرةً ونعيش في علاقة تكافلية معها. الجراثيم الموجودة في الأمعاء تفوق عدد الخلايا في الجسم، ويكون وزنها مساوياً لوزن الدماغ تقريباً. تشمل هذه الجراثيم مجموعة واسعة من الجينات القادرة على إنتاج مئات أو حتى آلاف المواد الكيماوية، علماً أن عدداً كبيراً منها يؤثر على الدماغ. تنتج الجراثيم عدداً من الجزيئات نفسها كتلك المستعملة لبث إشارات الدماغ، مثل الدوبامين والسيروتونين وحمض الغاما أمينوبوتيريك أو «غابا». كذلك، يتألف الدماغ بشكل أساسي من الدهون ويتم إنتاج عدد كبير منها عبر النشاط الأيضي للجراثيم.

في ظل غياب جراثيم الأمعاء، تتغير بنية الدماغ ووظيفته. أظهرت الدراسات أن الفئران التي تنشأ في بيئة تخلو من الجراثيم تسجل تغيرات في الذاكرة والحالة العاطفية والسلوك. وقد أثبتت وجود أنماط من سلوكيات التوحد كونها تمضي وقتاً أطول وهي تركز على الأغراض الجامدة أو على فئران أخرى. نجم هذا التغير السلوكي عن تعديلات في كيمياء الدماغ الكامنة. على سبيل المثال، سُجلت تغيرات جذرية في عملية نقل السيروتونين، إلى جانب تغيرات في الجزيئات الأساسية مثل {عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ}، وهو يؤدي دوراً رئيساً في تشكيل مجموعات جديدة من نقاط الاشتباك العصبي.

تعطي هذه النتائج ثقلاً لمفهوم المحفزات الحيوية (الجراثيم التي تعطي منافع صحية). كان عالم البيولوجيا الروسي إيلي ميتشنيكوف أول من طرح المحفزات الحيوية في بداية القرن العشرين، بعدما لاحظ أن الناس الذين يقيمون في منطقة من بلغاريا ويستهلكون الأغذية المخمرة يعيشون لفترة أطول. لكن تبين الآن أن بعض الجراثيم المعروفة باسم {المحفزات النفسية} قد يترافق أيضاً مع منافع على الصحة النفسية.

مؤشرات واعدة

صحيح أن مجال المحفزات النفسية لا يزال حديث العهد، لكن ثمة مؤشرات واعدة. في السنة الماضية مثلاً، أظهر الباحثون من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في باسادينا أن إعطاء جرثومة العصوانية الهشة في مرحلة مبكرة من الحياة ساهم في تصحيح بعض العيوب السلوكية والهضمية عند نماذج من الفئران المصابة بالتوحد. وتشير تقارير سابقة إلى أن جرثومة «الشقاء الطفلية» فاعلة عند الحيوانات المصابة بالاكتئاب.

كيف تؤثر جراثيم الأمعاء على الدماغ تحديداً؟ بدأت الآليات تصبح واضحة. تتمتع جرثومة {لاکتوباسيلوس رامنوسوس» التي تُستعمل في مشتقات الحليب بآثار مضادة للقلق عند الحيوانات، وهي تعطي مفعولها عبر تعديل تعبير مستقبلات «غابا» في الدماغ. تحصل هذه التغيرات عبر العصب المبهم الذي يربط بين الدماغ والأمعاء. حين يتضرر العصب، لا يكون له أي أثر على مظاهر القلق أو على مستقبلات «غابا» غداة علاج المحفزات النفسية مع «لاکتوباسيلوس رامنوسوس».

تبين أيضاً أن جرثومة {لاکتوباسيلوس رامنوسوس» تخفف السلوكيات التي تشبه اضطراب الوسواس القهري عند الفئران. المثير للاهتمام أن هذه الجرثومة لا تغير مستقبلات «غابا» في الدماغ فحسب بل إنها تصنّعها وتطلقها أيضاً. تدعم أدلة أخرى الفكرة القائلة إن جراثيم الأمعاء قد تؤثر على الدماغ عبر قنوات أخرى غير العصب المبهم، وذلك عبر تعديل جهاز المناعة وتصنيع أحماض دهنية قصيرة السلسلة مثلاً.

مثلما يحوّل بعض الجينات الجراثيم إلى مسببات أمراض، من المحتمل أن توفر مجموعات الجينات داخل جراثيم الأمعاء منافع على الصحة النفسية. لكن لا بد من ترسيخ الجينات الأساسية لتفعيل المحفزات النفسية. في المستقبل، قد يكون المحفز النفسي المثالي كائناً معدّلاً وراثياً يحتوي على جينات من جراثيم مختلفة عدة.

في غضون ذلك، من المتوقع أن تكون مجموعات الجراثيم المتنوعة أكثر فاعلية في إنتاج المنافع الصحية من السلالات الموحدة. على سبيل المثال، أظهرت دراسة جرت في عام 2011 أن خليط {لاكتوباسيلوس هلفتيوس» و»الشقاء الطويل» يخفف عوارض القلق والاكتئاب عند المتطوعين الأصحاء. وفي عام 2013، شملت دراسة تقنية التصوير العصبي وأثبتت أن مشتقات الحليب المخمرة التي تحتوي على أربع جراثيم مختلفة من المحفزات الحيوية ترتبط بتخفيف رد فعل الشبكة الدماغية المسؤول عن تحليل العواطف والمشاعر. يمكن أن يخفف بعض سلالات الجراثيم عوارض متلازمة القولون العصبي، وهو اضطراب شائع يرتبط بالضغط النفسي ويقع في المحور بين الدماغ والأمعاء. يحصل ذلك على الأرجح عبر تخفيض مستويات «هرمون الضغط النفسي»، الكورتيزول، والجزيئات الالتهابية التي ينتجها جهاز المناعة.

نتائج ودراسات

تبدو هذه النتائج واعدة، لكن لا يزال الوقت مبكراً لتطوير محفزات نفسية مثبتة عيادياً ويجب أن نعرف ما إذا كانت تستطيع أن تعطي مفعول مضادات الاكتئاب أو حتى استبدالها. بعدما بلغت وصفات مضادات الاكتئاب مستويات قياسية، سيرحّب الجميع طبعاً بالخيارات البديلة الطبيعية التي تكون فاعلة وتقلّ آثارها الجانبية. نحن نستكمل راهناً دراسة عن مجهريات البقعة عند المصابين باكتئاب حاد. إذا رصدنا تغيرات ثابتة، سنحصل على إثبات قوي يبرر استهداف الاكتئاب عبر نوع مناسب من المحفزات النفسية. كذلك نوشك على بدء دراسة عن {الملبنة القصيرة» عبر استعمال الدواء الوهمي لمعالجة القلق عند المتطوعين الأصحاء.

لكن يجب أن نتوخى الحذر. رغم تسويق الادعاءات المعاكسة، لا يعطي معظم المحفزات النفسية المفعول المنشود. حتى الفترة الأخيرة، سمحت التنظيمات المتساهلة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للمصنعين بإطلاق ادعاءات غريبة من دون توفير أي بيانات تدعمها. بدأ هذا الوضع يتغير لأجل حماية المستهلكين من الحملات الدعائية المخادعة، لكن يُشار إلى أن نسبة صغيرة من الجراثيم التي خضعت للاختبار ترافقت مع آثار سلوكية وعصبية إيجابية. يفشل بعض الجراثيم في تجاوز مرحلة التخزين في متاجر الأغذية الصحية أو يتم التخلص منها بسبب الحموضة في المعدة. وحتى لو صمدت بعد مرورها بالأمعاء، قد تصبح مجرّدة من المنافع الصحية.

في القرن العشرين، تمحور تركيز البحوث الميكروبيولوجية حول إيجاد طرق للقضاء على الميكروبات عبر المضادات الحيوية. خلال هذا القرن، تحول محور التركيز بعض الشيء بعد الاعتراف بمنافع الجراثيم الصحية ، ولا يقتصر الأمر على مستوى جهاز المناعة فحسب بل الصحة النفسية أيضاً. في الدول الأكثر ثراءً اليوم، يبقى أثر الضغط النفسي على الصحة كبيراً بقدر التهديد الذي تطرحه الجراثيم الضارة. المحفزات النفسية لديها إمكانات ضخمة.

مجهريات البقعة وخصائص الشخصية

تبين أن زرع الميكروبات البرازية المأخوذة من فرد سليم عند المتلقي هو علاج فاعل لالتهاب «كلوستريديوم» الخطير. بعد نجاح هذه المقاربة، تركّز الانتباه على الميكروبات البرازية لمعالجة الاضطرابات المعوية والمناعية والأيضية، لكن هل يمكن أن تكون الميكروبات البرازية مفيدة لمعالجة المشاكل العصبية والنفسية أيضاً؟

استنتجت دراسة أجراها باحثون في كندا أن الفئران القلقة لديها مجهريات مختلفة مقارنةً بالفئران العادية، وأن زرع مجهريات البقعة في الفئران الطبيعية يجعلها قلقة والعكس صحيح.

إذا استطعنا ترجمة هذه الآثار عند البشر، فقد تنعكس على تطور العلاجات المبنية على الميكروبات لمعالجة الاضطرابات النفسية. يعني ذلك أيضاً أن واهبي الميكروبات البرازية قد يحتاجون إلى الخضوع للفحص للتأكد من عدم إصابتهم بأي مشاكل نفسية أو أمراض مُعدية.

back to top