هستيريا ليلة كريسماس

نشر في 31-12-2013
آخر تحديث 31-12-2013 | 13:01
 باسم يوسف "يا خونة، كلكم خونة"

"خونة مين يا عبيد"

"عبيد؟ انتوا اللي عبيد، إمتى البلد تنضف بقى؟".

"لما تموتوا انتوا وأمثالكم يا ولاد ال...".

لم يكمل كلمته، فقد تم إغلاق فمه بقذيقة مكونة من طبق طائر عليه بقايا قطعة لذيذة من كيكة البلاك فورست.

تلا ذلك ثانيتان بالضبط من الصمت الرهيب، ثم.... صراخ وعويل وأيادٍ تمتد لتفتك بأهدافها.

ستوب.

يتوقف المشهد تماماً مثلما يحدث في السينما، كأن أحدهم ضغط زر التوقف، تدور الكاميرا لنرى معها الوجوه الغاضبة والعيون الجاحظة ووجه أحد الأشخاص ملطخاً بكيكة البلاك فورست. تستمر الكاميرا في الدوران مثل فيلم "ماتريكس" ونجد كل شيء، كل شخص، متوقفاً حتى تصل الكاميرا إلى وجه أستاذ سامي وزوجته منال.

الزوجان يشاهدان ما يحدث في ذهول. هما ليسا جزءاً من هذه المشاجرة الهستيرية، ولكنهما يقفان في منتصف الصالة بالضبط، وفي هذه اللحظة يسأل سامي نفسه: "كيف وجدت نفسي وسط هذا العك؟"

ستوب.

يضغط أحدهم زر الرجوع. تتراجع المشاهد بسرعة فائقة في الاتجاه العكسي. يعود شريط الفيلم من أوله.

مش من أوله قوي.

 يعود الشريط لنشاهد ما جرى منذ ثلاث ساعات بالضبط.

مشهد ليل خارجي.

ليلة الكريسماس، الساعة التاسعة مساء.

سامي يتحرك بسيارته من أمام منزله مع منال متجهين إلى مكان الحفلة.

 "أنا قلتلك ما بحبش الحفلات دي"، قالها سامي وهو يركن سيارته أمام الفيلا الفخمة.

سامي مالوش في الجو ده. كان يتمنى لو قضى الليلة مثل كل سنة أمام التلفزيون، وخاصة أن الليلة كان سيعرض فيلم أحمد حلمي الجديد.

أصرت منال هذه السنة أن يحتفلا بالكريسماس مثل "مخاليق ربنا". ولاحظت أن هذه السنة بالذات بالغ الناس في الاحتفال بكل مناسبة ممكنة. في أي فرصة لإجازة رسمية أو دينية أو حتى الهالوين، كانت دائرتها تصر على الاحتفال بها بشكل أكثر من المعتاد. يبدو أنها وسيلة لتفريغ حالة الغضب والإحباط السياسي الموجودة في البلد. لا يهم إن كنت مسلماً أو مسيحياً لتحتفل بأي من المناسبات الدينية. المهم أن نخرج من "الهم" ده.

دخل الزوجان إلى الفيلا. مشاهد احتفال معتادة من زينة وأضواء وشجرة وهدايا ذات أغلفة براقة.

لاحظ سامي فور دخوله أن الجو مشحون قليلاً. بنظرة واحدة حوله أدرك السبب، ثم همس في أذن زوجته: "هو جوز صاحبتك ده غبي ولا حاجة؟".

زوج صديقة منال، صاحب الحفلة، يبدو أنه حين قام بدعوة ضيوفه ولم يدرك أنه يحول حفلته إلى قنبلة موقوتة.

لم يتوقف صاحب الحفلة كثيراً عند الأسماء التي كان يقوم بدعوتها هو وزوجته، فالمهم هو أن "يتمنظروا" على أصحابهم على "الفيسبوك" حين ينشرون صور الضيوف النخبة من رجال الإعلام والصحافيين والفنانين والكتاب.

لاحقاً ستنفجر هذه القنبلة في وجه الجميع.

"البرادعي وعلى من شاكلته طابور خامس مافيش كلام".

"البرادعي هو أنضف واحد في البلد دي، قدامكم كتير عشان تفهموه".

كانت هذه بداية حوار سمعه سامي، وهو يمشي بهدوء متجهاً إلى مكان المشروبات. لم يحتج لأن يقف ويسمع الباقي، يعرف جيداً كيف تنتهي هذه النقاشات.

"بركة أنهم أخيراً اتصنفوا جماعة إرهابية".

"يعني حتلم مليون واحد في السجن؟".

"يعني نسكت وهما بيقتلوا فينا؟".

"بس مش ده الحل".

"إيه هو الحل طيب".

"ماكنش المفروض نفض اعتصام رابعة".

"ماتكلمنيش في اللي فات، كلمني في دلوقتي. جماعة مش قابلين بأي حاجة إلا رجوع مرسي ومش هاممهم ضحايا".

"إنت اللي دفعتهم لكده ما ينفعش تفضل قاعد في فقاعتك وتفتكر إن كل حاجة تمام".

"ناس بينادوا بانشقاق الجيش وعايزينها سورية ولا ليبيا، لو في مكاننا حيعملوا فينا أوسخ من كده. يا عم أنا مبسوط في فقاعتي، خليك انت في رومانسيتك اللي حتودينا في داهية، إحنا عايزين حلول مش كلام مثالي".

يعرف سامي أين تتجه هذه المناقشة أيضاً. يضغط بقوة على يد زوجته ويهمس لها بحسم: "أنا آخر مرة أسمع كلامك. دي شكلها حفلة نكد".

تحرك سامي وزوجته إلى مكان آخر في الصالة علّه يكون أكثر هدوءاً، ليستطيع الاستمتاع بطعامه. على الأقل الأكل لطيف. كيكة البلاك فورست التي يعشقها متوصي عليها صح.

في كل بقعة هناك مناقشة أكثر سخونة من التي قبلها، ولكنها لا تتعدى محيط دائرة من يشاركون في الحديث.

لكن يبدو أن هذا الهدوء المزيف لن يستمر طويلاً. فهناك رجال أعمال مرتبطون بنظام مبارك، وهناك فنانون وصحافيون يجاهرون بعداوتهم "للنشتاء" و"الحكوكيين" كما يسمونهم. وهناك مجموعة من "عاصري الليمون"، وهناك صحافيون ممن يتم اتهامهم علناً بأنهم طابور خامس من قبل إعلاميين وصحافيين يقفون على بعد أمتار قليلة في نفس الصالة.

كلها مسألة وقت.

تعلو الأصوات من بعض دوائر النقاش.

"يا عم شكلي إخوان إيه بس؟ أنت حتستعبط يا خالد؟ إشحال إحنا سكرانين مع بعض السنة اللي فاتت في نفس حفلة الكريسماس".

"مانتوا أصلكم الواحد مش عارفلكم دخلة. أنا أعرف واحد في الشغل معايا بقاله عشر سنين وماعرفتش إلا السنة دي إنه إخوان".

"كل ده عشان مش عايز السيسي يترشح؟".

"مش وقته الكلام ده، البلد في حالة حرب والناس بتموت. الجيش خط أحمر، مش وقته".

"يا عم أنا جيت جنب الجيش؟ ولّا قلتلك إن اللي بيحصل في سينا صح؟ أنا بنتقد موقف سياسي".

"نقضي على الخونة الأول والبلد تستقر، وبعدين انتقد زي مانت عايز".

"وده حيحصل إمتى إن شاء الله؟".

يأتي صوت نسائي من آخر القاعة: "مين الحيوان اللي جاب سيرة السيسي؟".

"آه أجيب سيرته، فيها إيه يعني، هو ربنا؟".

في هذه اللحظة التحمت الحلقات وتعالت الأصوات، وخرجت الكلمات من فم أصحابها مثل القذائف من كل مكان في الصالة.

"والله ماكنش ينفع معاكم إلا العادلي".

"ما البلد مارحتش في داهية إلا من أمثالكم يابتوع مبارك".

"يا عم مايصحش ده إحنا عِشرة عمر".

"بلا عشرة بلا قرف، أنا بكرة حكلّم رقم مكافحة الإرهاب وابلغ عنك، أصل لو انت مش إخوان فأنت أكيد موالس معاهم".

"ياللا يا خاين".

"ماهو العبيد اللي زيكم ماينفعش يعيشوا في حرية".

وهنا طارت كيكة البلاك فورست.

وفي أثناء طيرانها وقبل وصولها إلى الهدف تحول كل شيء إلى التصوير البطيء، مما أتاح لسامي أن يدور ببصره في كل أركان الفيلا متفحصاً الوجوه الغاضبة.

لم يعد طرفا النزاع هما النخب والإعلاميين والفنانين والصحافيين. كان الأعداء أقارب وأصدقاء عرفهم منذ سنوات بعيدة. كان هناك صراع متبادل بين زوج عصر على نفسه لمون وزوجته من حزب الكنبة، بين أب يقدس الجيش وابن يجاهر بعدائه لدولة العواجيز.

الغريب أن الصحافيين والإعلاميين والكتاب والفنانين على اختلاف أهوائهم، وبرغم مشاركتهم في الحديث والجدال من أوله، لم يكونوا في وسط الشجار. لاحظ سامي أن كل هؤلاء قد اختفوا فجأة من الحفلة. كأنهم لم يكونوا هنا من الأصل، وجد سامي أن الأهل والأصدقاء هم من ظلوا في وسط "العركة".

علاقات أسرية وصداقات تنهار أمامه في ثوانٍ بسبب نقاشات سياسية، لا تودي ولا تجيب.

كم من حالة طلاق سمع عنها، كم مرة سمع أن فلاناً لا يكلم أباه، أو أم مقاطعة ابنها. كم من بيت انهار بسبب نقاشات مثل هذه.

زر الإسراع إلى الأمام يُضغط لنشاهد الخناقة بالتصوير السريع.

ستوب.

مشهد ليل خارجي. في سيارة سامي أمام الفيلا.

"إيه سرحان في إيه؟ ياللا، سوق، حنتأخر على الحفلة "قالتها زوجته وهي تحاول إخراجه من حالة التوهان التي غرق فيها.

يفيق سامي من سرحانه. يكتشف أنه لم يتحرك من أمام بيته كل هذا الوقت. ينظر إلى ساعته يجدها التاسعة وخمس دقائق.

"الحفلة بدأت بقالها ساعتين، مايصحش، سوزي عمالة تكلمني وتقولي إحنا فين".

ينظر سامي إلى منال. عقله مازال تائهاً في مكان آخر.

"ياللا، ده فيه ناس مهمة ومشهورة هناك، عايزة ألحق أتصور معاهم".

هل جرى كل ذلك في عقله؟

نظر إلى زوجته وقال لها جملة واحدة:

"أنا مش رايح".

"إيه؟ انت بتقول إيه؟"

"أنا حافضل في البيت أتفرج على فيلم أحمد حلمي".

"إيه الكلام الفارغ ده، انت ازاي...".

"كلمة كمان وحتكوني طالق".

ترجل سامي من سيارته بكل هدوء متجهاً إلى بوابة منزله تاركاً وراءه منال في السيارة. كانت منال مصدومة لا تعرف ماذا حلّ بزوجها، ولكنها أيضاً لم تعرف معنى الجملة التي كان يرددها سامي وهو يتركها في السيارة:

"الناس اتجننت. بلا سياسة بلا قرف. الناس اتجننت".

ميري كريسماس أن أ هابي نيو يير يا جماعة.

(مستوحاة من أحداث حقيقية حدثت في ليلة الكريسماس، آه والنعمة)

ينشر باتفاق خاص مع «الشروق» المصرية

back to top