غياب فؤاد عجمي... المنشقّ الأكثر إثارةً للجدل!

نشر في 24-06-2014 | 00:02
آخر تحديث 24-06-2014 | 00:02
رحل الأكاديمي الأميركي من أصل لبناني (جنوبي) فؤاد عجمي، بعد صراع مع داء السرطان عن عمر يناهز 69 عاماً.
وهو أحد المفكرين الأكثر إثارة للجدل في تحليلاته لعالم السياسة في الشرق الأوسط. ويتبدى ذلك في مقالات اتباع إدوارد سعيد في الرد عليه أو العروبيين المتشددين، وفي كثرة الاتهامات الموجهة إلى عجمي والتي توحي وكأنه كان متاهة ثقافية زئبقية، فثمة مَن يعتبره {سبينوزا الشرق الأوسط} لأنه خالف قناعات أهله وأبناء جلدته، وثمة أقلام تقول إنه سفير {قم} الإيرانية في واشنطن لمجرد أنه شيعي الأصل، إضافة إلى أنه يتهم بالعمالة والتبعية للنظام الأميركي.
عجمي هو منظِّر السياسة الأميركية للشؤون العربية كما يصفه كثيرون. بحسب جريدة ممانعة هو {ليكودي من جنوب لبنان}، وتعتبره صحيفة مصرية مرموقة {زعيم غربان الشر المستعربين‏!‏}، وتلحق باسمه صفة {صهيوني الهوى}. ويقول منتقدوه من الباحثين الأميركيين: {إنه مروج دعايات يحرص على التأنّق وحب الظهور في وسائل الإعلام، ويستطيع أن يبرهن على ما يذهب إليه المسؤولون بالنظريات السياسية والبراهين العلمية فوراً}. ونصح آدم شاتز، الكاتب والناقد في دورية {ذا نيشن} الأميركية، هوليوود بالرجوع إلى فؤاد عجمي إذا أرادت إنتاج فيلم عن حرب الخليج الثانية... وذلك كله، فإن كلماته طالما وجدت الطريق مفتوحاً إلى دوائر صنع القرار في الإدارة الأميركية.

وُلد فؤاد عجمي في 9 سبتمبر عام 1945 في بلدة أرنون الجنوبية اللبنانية. هاجر إلى الولايات المتحدة وهو في الثامنة عشرة من عمره، حيث أكمل دراسته وتخصص في العلاقات الدولية وأصبح أستاذاً معروفاً في الجامعات الأميركية.

 شغل منصب مدير برنامج دراسات الشرق الأوسط في كلية باول نايتز للدراسات الدولية المتقدمة والمعروفة اختصاراً بـ {sais}، والتي تتبع جامعة جون هوبكنز الأميركية المرموقة، وأضحى فعلاً أحد الذين يرسمون سياسة الولايات المتحدة الخارجية باختياره مستشاراً لوزيرة الخارجية السابقة كوندليزا رايس، وأحد أعضاء هيئة المديرين في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي.

منذ سنوات عدة، بدأ عجمي في الظهور المكثف في القنوات الفضائية كمحلل سياسي وخبير في العلاقات الأميركية بدول الشرق الأوسط والعالم العربي. لم تكن أهميته في أكاديميته بقدر ما كانت في مقدرته الكتابية وأسلوبه الأدبي الخاص والنزق والإنشائي. ولذلك برز اسمه في كبرى المجلات الأميركية. وفيما اتخذ البروفسور الآخر إدوارد سعيد جانب الدفاع عن العروبة وفلسطين والشرق الأوسط، راح فؤاد عجمي (مع كنعان مكية) يكتب عن الأميركيين كحلفاء وبدلاء، وبدا أميركياً أكثر من الأميركيين. لكن عجمي في بدايته مثل كثير من الشخصيات الثقافية والفكرية العربية، كان يميل إلى {الهوى الفلسطيني} ويقرأ مجلة {الهدف} اليسارية ويؤيد الناصرية بشكل مبطن، قبل أن ينقلب رأساً على عقب. وفي بعض دراساته بدأ يظهر الحس الأقلوي، فبيَّن الهوى الشيعي وحقوق الشيعة في العالم العربي، وتجلى ذلك في كتابه {الإمـام المختـفي موسـى الصـدر وشـيعة لبـنان} الصادر عام 1986، إلى أن بدأ الاهتمام يتوارى شيئاً فشيئاً خلف الأفكار السـياسـية البراقة واللامعة التي كان يقلدها بعض الكتاب العرب من كارهي القومية والعروبة والماضي، خصوصاً أولئك الذي خرجوا من اليسار اللبناني والقومية العربية. وتجلت نزاقة عجمي الأدبية والإنشائية في كتاب {بيروت مدينة الندم} الصادر عام 1988، وفي الأفكار السجالية في {قصر أحلام العرب} الصادر عام 1998، وهو الكتاب الذي وصف فيه فكرة القومية العربية بأنها مجرد دعوة إلى السيطرة السُّنية على المنطقة تتخفى في رداء علماني ناصري وبعثي. وقبل هذا الكتاب كان له {المحنة العربية} عام 1981... ويعتبر الكتابان الأخيران فتحاً في دعوة العرب إلى القيام بنقد ذاتي ودفن العروبة، والتخلص من عقلية أن مؤامرة غربية وراء صراعاتهم التي كان عليهم أن يحلوها بأنفسهم. وتزيد وطأة الكتابة ولهيبها لأن عجمي يتحدث عن {نهاية العروبة} وكثير من الأفكار التي يعتبرها بعض العرب استفزازاً له وتحدياً لهويته، وبدا عجمي في كل ما يقوله كأنه يمارس سياسة {المنشق} والكاره لأصل الشرق الأوسط وفصله.

ثوب الخيانة

 يذكر الصحافي السعودي داوود الشريان أنه سأل عجمي في حوار تلفزيوني عن سر هذه العدائية للعالم العربي والإخلاص للسياسة الأميركية فقال إن موقفه ينطبق عليه قول الكاتب جون كونراد {إن الحب قد يرتدي ثوب الخيانة}، أي أنه يبدو كمن يكره المنطقة لكنه يحبها إلى درجة تأييد الحرب عليها كما يقول الشريان. الأرجح أن ما فعله عجمي كان إشارة إلى مأزق الهوية. كان يريد أن {يؤمرك} الشرق الأوسط أو يجعل صورة الحياة السياسية في هذه البلدان كما هي في أميركا أو الدول المتقدمة. كان جوهر تفكيره أن أنظمة الطغيان العربية لا تتغير إلا بالقوة والتدخل الأميركي.

وزادت وتيرة العداء لدى كثير من الكتاب العرب لعجمي لأنه كان الطفل المدلل لبعض المحافظين الجدد في أميركا ومن بينهم رئيس البنك الدولي بول ولفويتز والمستشرق الأميركي دانييل بايبس الذي كتب مقالة عن كتابه {قصر أحلام العرب: أوديسة جيل}، ذكر فيها ثلاثاً من خصال كثيرة يتمتع بها عجمي: {أولاً، قدرته على سلق الأفكار من دون التضحية بتعقيدها، كأن يصف السياسة في الشرق الأوسط بأنها عالم يندر أن يجيء فيه الانتصار في غمرة الرحمة والاعتدال، أو أن يقول عن العروبة إنها هيمنة سنّية متسربلة في ثوب علماني. خصلة ثانية، ليست أقلّ أهمية، هي أن عجمي يتّصف باعتدال سياسي يبعده في آن عن امتداح طغاة العرب وعن العزف على أنغام نظريات المؤامرة المناهضة لأميركا، على العكس من كثير من العرب الأميركيين البارزين. أخيراً، يتمتع عجمي بنعمة التحرّر من العقدة العربية الشائعة تجاه غدر اسرائيل}. كانت هذه العبارات كافية ليصف الكتاب العرب عجمي بأنه {ذباب الخيل} و{صهيوني الهوى} و{ليكودي}.

وإذا كان لويس أطلق مديحه المسهب على عجمي لأغراض سياسية، فنجد المؤرخ البريطاني روجر أوين يكتب عن قصر أحلام عجمي قائلاً: {انتابني أثناء قراءة كتاب {قصر الأحلام العربي} ما يشبه ذلك الشعور الغريب بالمرور بموقف كنت مررت به قبلاً. فهو يقدم تصوره المألوف للإحباط والتخبط اللذين يسودان المشهد العربي، الذي يرسمه من زاويته المعهودة. ما السبب، إذاً، في الهاجس السلبي الإضافي الذي أثارته القراءة؟ أنه كتاب شخصي إلى حد كبير، ولأحاول الآن من جانبي تقديم جواب شخصي}. يضيف أوين في مقالته التي نشرت في جريدة {الحياة}: {عليّ القول من البداية أن توجسي لم يأت من الصياغة السيئة للكتاب، في امتلائه بالتكرار وافتقاره إلى الانسياب الأسلوبي الذي صرنا نتوقعه من عجمي. فضلاً عن أنه لا ينبع من عودته إلى تلك المقارنة المبالغ بها، والتي أصبحت مضجرة الآن، بين بيروت المنهكة أيديولوجياً بعد الحرب الأهلية، والقاهرة التي لا تزال ناشطة فكرياً رغم نضجها الذي وصل، ربما، إلى حد التواكل. مصدر التوجس، كما أعتقد، هو ما يشبه نبرة النميمة التي يرشح بها الكتاب، وكأنه كلام عن عائلة ما في بيتها، لكنها خارج الغرفة التي يدور فيها الكلام. ما قوّى من ذلك كان الانطباع عن اطمئنان المؤلف التام إلى قرائه، إذ يبدو وكأن كلامه إليهم لا ينطوي على أي مخاطرة، بل يقول لهم شيئاً يعرفونه تماماً ولكن لا يملون أبداً من العودة إلى سماعه. وهو يقوم بهذا الدور بكل {المرجعية} التي يملكها النمام، ذلك الشخص الذي كان أول من سمع ذلك الخبر السيئ، الشخص الذي كان هناك ورأى ما رأى}.

الأرجح أن كتاب عجمي المذكور لم يترجم إلى العربية، وإن تُرجم فهو لم يوزع، ويروي فيه سيرة نجوم القومية العربية وغلاتها بأسلوب مثير. اختار أن يكتب عن القومية العربية من بوابة الشعر بدءاً من جورج أنطونيوس صاحب {يقظة العرب}، مروراً بأنطون سعادة مؤسس الحزب القومي السوري والمتأثر بجبران خليل جبران، قبل أن نصل إلى الأزمنة الحديثة والمعاصرة حين يتحدث عجمي عن المأساة وراء انتحار خليل حاوي عام 1982 في خضم الاجتياح الإسرائيلي وما حمله الانتحار من تأويلات، ويعرج على موت بلند الحيدري في المنفى، وأحاسيس الهزيمة النكراء والنقد الذاتي في قصائد نزار قباني وأدونيس، وتواطؤ الشعر مع الحجارة في مثال محمود درويش. ويشير عجمي إلى أن أزمة العالم العربي لم تكن قط في الدكتاتورية الفردية أو الأنظمة المستبدة التي حكمت دول المنطقة، بل في مثقفيها الذين لم تتوافر لديهم الشجاعة الكاملة في أن يواجهوا لا النظام السياسي المستبد وحده، بل والنظم الثقافية والدينية والتقليدية التي كرست ثقافة الخوف والكراهية للآخر، والاعتداد النرجسي بتاريخ قومي وديني ماض. يقول عجمي: {من تلقاء أنفسهم، في الثكنات والأكاديميات... ابتنى العرب لأنفسهم قصراً من الأحلام... صرحاً فكرياً من القومية العلمانية والحداثة}.

المرحلة الأكثر إثارة للجدل في مسيرة عجمي كانت تنظيراته لحرب الخليج ضد صدام. كان، مع الكاتب كنعان مكية، أحد الأسماء {الاستفزازية}، فالمفكر الأميركي من أصل إيراني حميد دبشي يذهب في كتابة {بشرة سمراء، أقنعة بيضاء} (دار نينوى) إلى أنّ الهيمنة ما بعد الكولونيالية وجدت في الأسمر نسخة جديدة من الأسود، وأصبح المسلمون هم اليهود الجدد، وبزز ما يسميه دبشي {المخبر المحلي}، وهو من أصول إسلامية غالباً، أتى إلى أميركا للدراسة أو العمل، ثم قرّر أن يبيع بضاعته لمستخدميه، وفقاً لما يرغبون في سماعه، في سوق نشطة ومستعدة لشراء الوهم. يذكر دبشي من بين الأسماء العراقية كنعان مكية، وفؤاد عجمي، وسلمان رشدي، إضافة إلى الإيرانية آذر نفيسي، باعتبار أنهم {أصوات معارضة ضد بربرية الإسلام}، هذه هي الصورة التي يجري تصديرها أميركياً وأوروبياً، كطريقة جديدة لإنتاج المعرفة عن الشرق تحت الإكراه بالتهديد.

 كان عجمي ينطلق من أن أميركا يجب أن تشن الحرب ضد العراق من دون حذر كبير لأن العالم العربي يبدو عصياً على الإصلاح والتحديث. ويركز على أن أميركا يجب ألا تراهن على اقناع الشعب العربي بأنها حرب عادلة لأن ذلك الرهان سيكون وهماً، فالغالبية العظمى من العرب سترى الحرب على أنها تدخل إمبريالي في بلادهم لمصلحة إسرائيل ولتأمين سيطرة الولايات المتحدة على البترول العراقي، ولن يسمع أحد للقوة الأجنبية العظمى (أميركا). ويرصد عجمي أن التساهل تجاه صدام والدول العربية بعد حرب الخليج 1991، دفعت ثمنه أميركا بأن انتقل الإرهاب من العالم العربي إلى شواطئ الولايات المتحدة. وكان عجمي يعتبر أن تغير النظام في العراق سيكون منطلقاً لتغيير العالم العربي.

 كان فؤاد عجمي معروفًا بإجاباته الصاعقة، فمثلاً في رده، أمام لجنة العلاقات الخارجيّة في مجلس النوّاب، على سؤال عن {النفسيّة} الشيعيّة، قال: {الشيعة انتحاريّون والسنّة قَتَلة}. وقد أوضح موقفه من سياسة أوباما تجاه إيران، في حديث مع

الـ{سي. أن. أن}، حيث قال: {أميركا هي التي باتت تلهث وراء إجراء اتفاق حول الملف النووي الإيراني... مكمن السخرية هو أننا نحن من يبحث عن اتفاق، مشكلة الموقف الأميركي، وتحديداً موقف إدارة الرئيس باراك أوباما هو أنه خلال التفاوض يجب أن يكون المرء دائماً على استعداد لصرف النظر عن المفاوضات، ولكن الإدارة الأميركية غير مستعدة لذلك لأنها تبحث عن صفقة».

تمرّد سوري

آخر كتب عجمي التي ترجمت إلى العربية عنوانه «التمرد السوري»، يستهل الكتاب بعبارة «النظام مقابل الشعب»، مُقدماً وجهة نظر تاريخية مُفصلة عن التمرد الحالي في سورية ضد بشار الأسد. ويلقي الكتاب الضوء على الحقبة الأسدية وتسلسل الأحداث التي أدت إلى تلك الثورة، ويعرض العجمي خلفية تاريخية وإثنية للشعب السوري وكيفية صعود الأسد (الأب) إلى الحكم، مقدماً صورة واقعية للشعب السوري بتركيبته الدينية والعرقية المعقدة.

يصل عجمي في نهاية كتابه إلى الاستنتاج بأن الأسد سيظل متشبثاً بالحكم حتى النهاية، وسيواصل حربه ضد شعبه مهما كانت الخسائر ومهما بلغ عدد الضحايا، معتمداً في ذلك على دعم روسيا والصين ومساندتهما وإحجام المجتمع الدولي عن تقديم المساعدة للشعب السوري الذي يتعرض للإبادة الجماعية. ويوضح عجمي بهذا الصدد أنه لا يبدو أن هنالك نهاية قريبة لمعاناة الشعب السوري، وليس الأمر أحسن حالاً في ليبيا، كما أن المصريين لا يغبطون أنفسهم على ثورتهم ذات الثمانية عشر يوماً التي أطاحت بالرئيس مبارك، حيث لم تحقق تلك الثورة كل آمالهم باستثناء الإطاحة بالفرعون}.  

عجمي، الذي زار مخيمات اللاجئين السوريين في لبنان وتركيا، دعا الولايات المتحدة إلى أن توفر في أقرب وقت ممكن حماية جوية فوق منطقة يحظر فيها الطيران والسفر في سورية، والسماح للسوريين بالقتال لأجل مستقبلهم.

ماذا كان ليكتب فؤاد عجمي عن العراق الآن بعد تنامي الداعشية؟ وماذا كان ليقول عن الديمقراطية الموعودة؟ ربما كان سيزداد سخطه على الشرق الأوسط!

حزب الله من بيروت أو {طهران الصغرى}

يطالعنا الجدل بداية من الاسم، وهو {حزب الله}، ويزداد عمقاً بما يتضمنه، فهو يشير ضمناً إلى أن الآخرين ممن لا ينتمون إلى تنظيم النار والبارود هم حزب الشيطان. طبقاً للاهوت وممارسات {حزب الله}، لا يمكن التعامل برحمة مع المسلمين الآخرين، ناهيكم عن الكفار الذين لا يؤمنون بالدين الإسلامي. في دولة مثل لبنان فيها 18 طائفة دينية، لا بد من أن تثير هوية {حزب الله} الدينية إشكالية. ولا بد لمنظور حزب الله الديني من المناورة والمراوغة.

الطائفة الشيعية كبيرة في لبنان، وربما تكون الأكبر، مع أنه لا يمكن لأحد الجزم بذلك. والشيعة هم أفراد {حزب الله}، لكن ماذا سيفعل {حزب الله}، نهجاً وجماعة، بالطائفة السنية الموجودة بقوة في بيروت وصيدا وطرابلس الذين يعتنقون الدين الإسلامي أيضاً ويردون جميل (وحماسة) {حزب الله} من خلال النظر إلى مقاتليه على أنهم كفرة ومهرطقون ينفذون المشروع الإيراني في لبنان؟ كذلك ما الذي يمكن أن يفعله تنظيم حزب الله بالطوائف المسيحية: الموارنة والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك، وغيرهم؟

يجيد أبطال {حزب الله} المراوغة. إنهم كتائب ولاية الفقيه، وهي الفكرة الإيرانية التي تقوم على {غياب} الإمام الثاني عشر وزعامة قائد الجمهورية الإسلامية للمؤمنين والمواطنين اللبنانيين في الوقت ذاته. لا يدع هذا أي مجال للبس أو الغموض، فلولاية الفقيه الأولوية والأسبقية. ويلتزم الزعيم البارز لـ}حزب الله}، حسن نصر الله، التزاماً دينياً (فضلاً عن علاقات قديمة قائمة على المال والنفوذ) متمثلاً في ولائه للمرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي. ويعبر مفهوم ولاية الفقيه الحدود والبحر الأبيض المتوسط ليجد طريقه إلى بلاد علمانية لا تعرف بحماستها الدينية. لقد أرسى لبنان دعائم {الجمهورية الشقيقة}.

ولطالما سعى اللبنانيون إلى الحصول على رعاية قوى أجنبية. كما تأرجحت علاقة الفرنسيين بالكنيسة المارونية، وكانت للأميركيين محاولة للتدخل من خلال مدارسهم وبعثاتهم الدينية ووزن قوتهم خلال عقود الحرب الباردة بشكل جعلهم يحظون باحترام اللبنانيين بكل طوائفهم.

كانت للمسلمين السُنة دول عربية أكبر يمكنهم الاعتماد عليها، فهناك المصريون والسعوديون والعراقيون خلال سنوات صعود السُنة في بغداد، والكويتيون. ومنحت كل تلك الدول السُنة الشعور بالانتماء تجاوز حدود لبنان الضيقة.

ودخل الشيعة، الذين أكثرهم من الطبقة العاملة، اللعبة متأخرين، وكانت إيران، الدولة الشيعية الوحيدة في البلدان الإسلامية، بعيدة جداً بفعل المسافة واللغة. الأكيد هو أن بعض الشيعة المجتهدين عرفوا الحوزات الشيعية بمدينة قم في إيران وفي النجف بالعراق، لكن بوجه عام كان الشيعة مجموعة مضطهدة مغلوباً على أمرها. كانت مناطقهم في جبل لبنان وسهل البقاع والجنوب بائسة وبعيدة عن ألق بيروت وبريقها.

غيرت الحروب بين الإسرائيليين والفلسطينيين في السبعينيات، والثورة الإيرانية التي أطاحت حكم آل بهلوي، عالم الشيعة في لبنان. كانت رياح التغيير لصالح الشيعة، فقد غادروا قراهم الفقيرة وانطلقوا نحو بيروت الكبرى. وهرب البعض من فوضى الجنوب اللبناني وتبجح المسلحين الفلسطينيين. ومع أن الشيعة ما أحبوا الإسرائيليين فقد خسر الفلسطينيون تعاطفهم؛ إذ تزامن تدفق أموال النفط العربي والمكانة الثورية في دوائر اليسار العالمية آنذاك، مع تنكيل الفلسطينيين بسكان القرى الشيعة في الجنوب.

بدأ الشيعة، الطائفة التي كانت تفتقر إلى السلاح والجرأة، الطريق نحو التغيير. وبدأ السيد موسى الصدر، رجل الدين الإيراني المولد، الذي عرف طريقه إلى لبنان، في تنظيم صفوف الشيعة. وأعلن هذا الرجل، الذي كان يتمتع بحضور طاغٍ ويحظى بتبجيل رجال الدين الشيعة، أن {السلاح زينة الرجال}. لقد كان قدر هذا الرجل وحده أن يختفي في ليبيا عام 1978، وكان ضحية مسرحية رتبها معمر القذافي. وقد ألفت كتاباً عنه بعنوان {الإمام المختفي}. حول الإمام موسى الصدر، كما يدعوه أتباعه، المذهب الشيعي في لبنان من تقليد يقوم على النحيب والابتعاد عن عالم السياسة إلى النشاط الحركي. وتأتي بعده شخصية بارزة في عالم الشيعة هو آية الله روح الله الخميني. كان الخميني، الذي عاد إلى إيران من منفى دام فترة طويلة في العراق، فارسياً بكل تأكيد، لكنه كان شخصية إسلامية تنحاز إلى المظلومين، وكان بمثابة المنقذ. وهناك نبوءة للشيعة في القرن الثامن يعرفها جيداً أتباع المذهب الشيعي في كل مكان، وقيل إنها تنطبق عليه. وتقول النبوءة: {سيأتي رجل من قم وسيدعو كل المؤمنين إلى الطريق الصحيح. وسيجمعون له قطعاً من الحديد لا يمكن للرياح الشديدة أن تهزها. سيكون صارماً ويعتمد على الله}.

كانت الجماعة الحاكمة، التي تعمل بموجب هذا الحكم الديني الثوري الجديد، ذكية ونافذة البصيرة. لقد ظنوا أنهم قادرون على الإطاحة بدول الجوار العربية. وكان العراق دولة لديها أغلبية شيعية، لكنها كانت في قبضة نظام سني استبدادي.

محاولة الظفر بالعراق فشلت في البداية، فقدم لبنان بديلاً مثيراً، وهو مكان يمكن خطف الرهائن الغربيين فيه ومقايضتهم مع احتفاظ إيران ببراءتها.

للبنان حدود مع إسرائيل، وفيه أسس حصن تعليمي أميركي هو الجامعة الأميركية في بيروت، التي تعد درة التاج وتعود إلى أواخر القرن التاسع عشر. ومنح هذا الحكم الديني الثوري في طهران الدافع للتصدي لـ«الظالمين}. وكانت هناك مشاكل اقتصادية كثيرة بين الشيعة في لبنان. ولم يكن صعبا على إيران، الدولة الكبيرة التي تتمتع بثروة ضخمة من النفط، العثور على جنود مشاة في لبنان. وكان لديها {الخلاص} والمعونة الاقتصادية.

شكل الحرس الثوري الإيراني، في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، حركة {حزب الله}. وانضم الوافدون حديثاً إلى المدن من أبناء الطائفة الشيعية إلى هذه الحركة، التي ساعدتهم في التغلب على أوجه الخلل أو القصور التي تعود إلى عصر مضى.

لم يتطلب الأمر من {طهران الصغيرة} فترة طويلة للصعود في بيروت. كان التحول مذهلاً؛ فقد انتشر الشادور فجأة في كل مكان، مثلما انتشر الشباب الملتحون ورجال الدين المعممون ممن تمتعوا بنفوذ هائل. وتم ترويج فكرة {الاستشهاد} بين الشباب السهل الانقياد.

كان هناك وجود إسرائيلي في جنوب لبنان. هاجم مقاتلو {حزب الله} الثكنات العسكرية ونقاط التفتيش الإسرائيلية، التي كانت موجودة هناك، حيث استحوذ {شهداء} العمليات الانتحارية على سلطتهم. وجد الرجال الشباب (وأيضاً بعض النساء)، ممن كان من المحتمل أن ينضموا إلى الأحزاب اليسارية الرائجة في بيروت، ملاذاً لهم في صفوف {حزب الله}. وتشير تقديرات أخيرة إلى أن {حزب الله} وظف 40 ألف شخص ودرب 100 ألف فتى. وهذه الشبكة الاجتماعية، في دولة بالكاد تؤدي فيها الحكومة وظائفها الأساسية، منحت {حزب الله} تأثيراً ضخماً. كان لدى لبنان اتفاق طائفي غير مكتوب، ترك للجماعات مهمة الاعتناء بنفسها، وبسط سيطرتها.

لكن {حزب الله} قلب أساليب لبنان رأساً على عقب، وشق الشباب الذي يعاني فقراً مدقعاً طريقه نحو التمتع بسلطة وتأثير أكبر. يعتبر الأمين العام الحالي للحزب، حسن نصر الله آنف الذكر، بلا شك، أكثر زعماء التنظيمات تأثيراً. إنه يبني حكومات ويطيح أخرى، ويسيطر على محطة تلفزيونية، وهناك ثروة هائلة متاحة له. غير أن نصر الله، المولود في عام 1960، نهض من الفقر الطاحن. ولد وترعرع في ضاحية الكرنتينا، أكثر ضواحي بيروت بؤساً. وكان والده بائع فواكه وخضراوات. ولم يكن يعرف أي لغات أجنبية. وقد أمضى فترة وجيزة جداً من حياته في مدارس النجف. وفي لبنان القديم، كان سيصبح من بين المهمشين في لبنان. كانت الحرب المقدسة، وولاية الفقيه، عامل جذب جيداً بالنسبة إليه. يحظى حزبه بدعم إيراني، ويعمل في لبنان.

أخيراً، تخلى {حزب الله} عن حذره، فقد دخل الحرب في سوريا بين النظام الديكتاتوري لبشار الأسد والثوار السُنة. علاوة على ذلك، فإنه لا يخفي سراً الآن دوره في تلك الحرب الطائفية. وحتى الآن، التزم الصمت والخجل حيال مقتل مقاتليه في سوريا. كانت مراسم دفنهم سرية، وأشارت أنباء وفاتهم إلى أنه وافتهم المنية إبان أدائهم {واجب الجهاد}.

ولكن في يوم 30 أبريل، بعد رحلة قام بها زعيم {حزب الله} إلى إيران، ومقابلة مع مرشدها الأعلى، استحوذ نصر الله على دور في ميليشيته في تلك الحرب. وحذر الثوار السوريين من أنه ليس بمقدورهم الإطاحة بنظام بشار، وأن سوريا لديها أصدقاء في العالم لن يسمحوا بسقوطها في أيدي القوى الغربية والعربية السنية. وهنا تبددت الحاجة إلى الإخفاء. وكان نصر الله مستعداً للمخاطرة بقطع العلاقات مع السُنة في بلده على نحو لا يمكن إصلاحه.

لقد أدخلت معركة مدينة القصير، المنطقة النائية بمحافظة حمص، بالقرب من الحدود اللبنانية، قوة {حزب الله} الكاملة في الحرب السورية. وفي هذه الحرب التي لم يخف فيها أي سر، أول حروبنا على موقع {يوتيوب}، تعذر إخفاء الكراهية الطائفية. وفي مقاطع الفيديو المنشورة على الموقع، تم تصوير نصر الله وجنوده على أنهم {حزب الشيطان}، ونصر الله على أنه عدو الله وخادم للإيرانيين المذعورين. وعلى موقع التواصل الاجتماعي {فيسبوك} مقاطع فيديو منشورة لمقاتلي {حزب الله} الذين سقطوا في المعركة. ويعرب آباؤهم الثكالى عن فخرهم {باستشهاد} فلذات أكبادهم.

إن من سقطوا من الشباب من قرى قديمة عرفتها في صباي، ولو رجعنا لتلك الفترة، لوجدناهم صبية بسطاء يحاولون شق طريقهم في العالم. الآن، تم تقديسهم وتمجيدهم. لقد أوكل لهم {حزب الله} مهمة مقدسة، ومهد الطريق لكارثة.

مقالة بقلم فؤاد عجمي نشرت في {الشرق الأوسط}

مؤلفاته

- هدية الأجنبي: الأميركيون والعرب والعراقيون في العراق

- التمرد السوري

- المأزق العربي

- نهاية القومية العربية،

- قصر الأحلام لدى العرب،

- الإمام المغيّب موسى الصدر

وشيعة لبنان

- بيروت مدينة الندم

back to top