أوروبا والقيم غير الخطابية

نشر في 08-11-2013 | 00:01
آخر تحديث 08-11-2013 | 00:01
في قلب المشروع الأوروبي يكمن الالتزام بالسوق المشتركة، ومبدأ التبعية، و»الحريات الأربع»، فضلاً عن الحريات التقليدية الأخرى مثل حرية التعبير والدين. ومن الواضح أن هذه القيم عالمية؛ فهي ليست حِكراً على النموذج الأنجلو سكسوني أو الألماني.
 ليزيك بالسيروفيتش إن المناقشة الدائرة حول مستقبل أوروبا مُثقَلة ببلاغة خطابية مضللة ومشحونة عاطفياً، حيث تحجب الأحاديث الغامضة عن "المزيد من أوروبا" المناقشة المثمرة حول المشاكل الحقيقية التي تواجه البلدان الأوروبية، ووراء هذه اللغة المشحونة تكمن تساؤلات جوهرية لم يجب عنها أحد بشكل مقنع حتى الآن. فماذا تستلزم "أوروبا الفدرالية" على وجه التحديد؟ وهل يُعَد مصطلح "التضامن الأوروبي" كناية عن اتحاد التحويل الذي تعارضه ألمانيا، أم عن عمليات الإنقاذ الضخمة من قِبَل البنك المركزي الأوروبي؟

إن مثل هذه اللغة الخطابية تعكس عادة تحيزاً للمركزية، حيث يتم تصوير السعي إلى تحقيق هدف "المزيد من أوروبا وكأنه السبيل الوحيد الذي يضمن تمكين الاتحاد الأوروبي من المنافسة اقتصادياً مع البلدان المركزية سياسياً مثل الولايات المتحدة والصين، ولكن هذا يخلط بين القدرة التنافسية الاقتصادية والقوة العسكرية، فلكي نجني ثمار التكامل الأوروبي، فلابد أن يتحقق من خلال التفاعلات الفردية والاقتصادية، ولابد من ناحية أخرى أن يتم تيسيره من خلال إزالة الحواجز التنظيمية.

إن النهج المركزي يتجاهل التناقضات الهائلة في الأداء الاقتصادي بين بلدان الاتحاد الأوروبي- ويتجاهل حقيقة مفادها أن البلدان الأوروبية الأصغر حجماً أقرب إلى تحقيق النجاح الاقتصادي من البلدان الكبرى، ففي منطقة اليورو، كان نمو الناتج المحلي الإجمالي التراكمي منذ عام 2008 يتراوح بين 23.6 بالسالب في اليونان إلى 5.2% في سلوفاكيا؛ وخارج منطقة اليورو كان يتراوح بين 4.1% بالسالب في المملكة المتحدة إلى 12.5% في بولندا، فكان النمو الاقتصادي الذي تحقق في بولندا وسلوفاكيا ودول البلطيق وبلغاريا والسويد وألمانيا أسرع من نمو الولايات المتحدة، في حين سجلت المجر والدنمارك وأغلب بلدان منطقة اليورو نمواً سلبيا.

وتمتد جذور هذه الاختلافات إلى الفوارق بين السياسات الوطنية، الأمر الذي يسلط الضوء على الخلل الجوهري في الزعم بأن الحلول لمشاكل البلدان الأوروبية تكمن أساساً على مستوى الاتحاد الأوروبي. في الولايات المتحدة، لا تتولى الحكومة الفدرالية المسؤولية عن حل المشاكل الفردية للولايات؛ فقد تحملت الولايات الأشد تضرراً بالأزمة تكاليف إصلاحاتها بنفسها.

وعلى نحو مماثل، لا توجد حلول "أوروبية" لمشاكل إيطاليا على سبيل المثال. فإيطاليا تحتاج إلى حلول إيطالية، تماماً كما تحتاج اليونان إلى حلول يونانية، والبرتغال إلى حلول برتغالية، وهلم جرا. فلا ينبغي للترتيبات الأوروبية أن تضعف الحوافز التي قد تدفع البلدان إلى التصدي للتحديات التي تواجهها، وهذا يعني توخي الحذر الشديد عندما يتعلق الأمر بإنقاذ اقتصادات منطقة اليورو.

وتميل المناقشات الحالية أيضاً إلى تجاهل- بل حتى تشويه- القيم التي يفترض أن تخدمها الترتيبات المؤسسية الأوروبية. إن "المزيد من أوروبا" ليس هدفاً في حد ذاته، ففي نظر أي مؤمن بالقيم الأوروبية التقليدية، تشكل الحريات الفردية- بما في ذلك الحرية الاقتصادية- وما يرتبط بها من مسؤوليات المعيار المطلق لتنمية وتقييم المؤسسات، من المستوى المحلي الى المستوى الأوروبي.

وفي قلب المشروع الأوروبي يكمن الالتزام بالسوق المشتركة، ومبدأ التبعية، و"الحريات الأربع"، فضلاً عن الحريات التقليدية الأخرى مثل حرية التعبير والدين. ومن الواضح أن هذه القيم عالمية؛ فهي ليست حِكراً على النموذج الأنجلو سكسوني أو الألماني.

وعلاوة على ذلك فإن دمج هذه القيم في الترتيبات المؤسسية الأوروبية لا يحتاج إلى تضحيات من حيث نمو الناتج المحلي الإجمالي في الأمد البعيد أو تشغيل العمالة، فقد أثبتت الخبرة، على العكس من ذلك، أن التحرر الاقتصادي وعدم التسييس (بما في ذلك تقليص حصة الإنفاق العام) من الأمور التي تشكل أهمية بالغة لتحقيق التعافي الدائم.

ولكن لا توجد طريقة للتكهن بما إذا كان زعماء أوروبا سوف يتبنون هذه الاستراتيجية، ففي نهاية المطاف، يعتمد مستقبل الاتحاد الأوروبي بالكامل على السياسات التي تنتهجها البلدان الأعضاء، والتي تعتمد بدورها على أوضاعها السياسية المتنوعة والمتغيرة.

والأمر المؤكد هنا هو أن تأخير الإصلاحات المطلوبة بشدة سوف يكون أكثر من خطير؛ فهي ينبئ بالكارثة بالنسبة إلى منطقة اليورو. والواقع أنه في ضوء الديون العامة المتراكمة في أوروبا والشيخوخة السكانية السريعة، لن يخدم الحفاظ على الوضع الراهن إلا كسبب لاشتداد الأزمة الاقتصادية، وتهديد قدرة اليورو على البقاء. وحتى إذا استمرت المؤسسات الأوروبية مثل البنك المركزي الأوروبي في توسيع نطاق عمليات الإنقاذ، فإنها لن تتمكن من التعويض عن نقص الإصلاح، لكنها سوف تتسبب مع ذلك في تفاقم الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في منطقة اليورو، مع طعن الأوروبيين على نحو متزايد في شرعية مثل هذه العمليات.

وعلى هذه الخلفية لابد أن يجري تقييم المخاطر الكامنة في أشكال الإصلاح المختلفة، ورغم جوقة الأصوات التي تدين التقشف، ومرونة سوق العمل، وما إلى ذلك، فهناك فرصة معقولة أن تكون هذه هي الإصلاحات التي ستتبناها بلدان أوروبا. والواقع أن البلدان التي تعاني مشاكل في الاتحاد الأوروبي كانت تتحرك في هذا الاتجاه، وكان نجاح إصلاحاتها متناسباً إلى حد كبير مع السرعة التي تبنتها بها. وتُظهِر الأمثلة التي تقدمها بولندا وأستونيا والسويد وألمانيا، بين بلدان أخرى، أن الإصلاحات المبكرة من الممكن أن تسفر عن تحقيق فوائد اجتماعية ضخمة.

إن مستقبل أوروبا سوف يتحدد في نهاية المطاف من خلال التوازن بين الضغوط السياسية المتنافسة، وخاصة على المستوى الوطني. وبالنظر إلى ما آلت إليه الحال الآن، فسوف يتبين لنا أن المقاومة شديدة للإصلاحات القائمة على الحريات فضلاً عن الضغوط التي تدفع البلدان إلى اتباع السياسات الدولية (سيطرة الدولة على النظامين السياسي والاقتصادي). وإذا فشل المؤمنون بالقيم الأوروبية التقليدية في ضمان إيصال أصواتهم هم أيضا، فإن الخطابة الضبابية سوف تستمر في حجب المناقشة البناءة للمشاكل التي تواجه الاتحاد الأوروبي- وسوف تستمر السياسات المضللة في تقويض آفاق أوروبا.

* محافظ البنك المركزي البولندي الأسبق، ونائب رئيس الوزراء ووزير المالية في أول حكومة بولندية بعد الشيوعية، وأستاذ الاقتصاد في مدرسة وارسو للاقتصاد حاليا.

«بروجيكت سنديكيت-عالم أوروبا» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top