الخيانة على أنغام التانجو

نشر في 12-11-2013
آخر تحديث 12-11-2013 | 13:01
 باسم يوسف أوزفالدو بولييزي هو من أشهر مؤلفي موسيقى التانجو في الأرجنتين والعالم، سطر هذا الرجل اسمه في تاريخ التانجو إلى جانب أسماء يعرفها جيداً عشاقُ هذه الموسيقى مثل فرانسيسكو كانارو وكارلوس دي سارلي، وإدجاردو دوناتو وغيرهم، توفي الرجل سنة 1995 عن عمر يناهز التسعين عاماً تاركاً وراءه ثروة من المؤلفات الموسيقية التي مازال يستمتع بها محبو هذه الموسيقى.

 يعني من الآخر كده راجل مبدع وزي الفل، حاجة كده زي عبدالوهاب.

طب استفدنا إيه بالموضوع ده؟

شوف يا سيدي:

مؤخراً تم الكشف عن وثائق سرية من أيام الحكم العسكري في الأرجنتين في السبعينيات، وقد تم تصنيف أوزفالدو بولييزي كعدو للدولة وخطر على نظام الحكم، لم يكن بولييزي وحده ولكن كان معه الكثير من المبدعين والفنانين أشهرهم أسطورة الغناء هناك "مرسيدس سوزا" (يعرفها جيداً من يتابع فن الغناء اللاتيني)، بولييزي ومرسيدس وغيرهما كانا من ضحايا توجيه التهم سابقة التجهيز.

والتهمة الجاهزة دائماً في هذه الحالة هي "معارضة النظام"، وهي تهمة لديها القدرة على التحول بسهولة ويسر إلى "التآمر على النظام" ثم تتطور ببطء إلى مراحل أكثر تقدماً إلى تهم مثل "العمالة والخيانة" وطبعاً العضوية البلاتينية المميزة في الطابور الخامس.

ويبدو أيضاً أن الأنظمة المختلفة تجد ضالتها في اتهامات الخيانة والعمالة في الفنانين والموسيقيين والمؤلفين، فهؤلاء مبدعون لأنهم يرفضون أن يُساقوا كالقطيع في حالات الهيستريا الجماعية التي يتسبب فيها مَن يدّعون الفضيلة والتدين والوطنية.

جوزيف مكارثي هو مثال آخر للتلاعب بعواطف الناس وإساءة استخدام دعاوى الوطنية والانتماء.

بزغ نجم السيناتور مكارثي في أوائل الخمسينيات وبالتحديد في غذاء على شرف ذكرى ميلاد إبراهام لنكولن سنة 1950، حين وقف ملوحاً بقائمة تحوي أكثر من مئتي اسم يعملون في الحكومة الأميركية اتهمهم فيها بأنهم شيوعيون.

ولما كان القانون الأميركي ليس فيه أي شيء يجرم الانتماء الفكري للتيار الشيوعي، تطورت هذه التهمة إلى زعزعة الاستقرار وإفساد القيم الأميركية وطبعاً التآمر على قلب نظام الحكم.

وجد السيناتور مكارثي ضالته في هوليوود، حيث استجوب العشرات من المؤلفين والمخرجين والممثلين بتهم الشيوعية، وظهرت القوائم السوداء التي بدأت بضم عشرة أسماء رفضوا هذه المسرحية الهزلية، فتم الحكم على اثنين منهم بالسجن، حتى هؤلاء الذين لم يتم إدانتهم تم تدمير حياتهم المهنية والاجتماعية، حيث أصبحوا منبوذين بين أصدقائهم ومجتمعهم، ورفضت شركات الإنتاج الكبرى في هوليوود توظيفهم مرة أخرى.

لا نستطيع أن نلقي اللوم كله على جوزيف مكارثي، فالحقيقة أن في أي مجتمع يوجد خوف ما، قلق ما، ينتظر، يتضخم في نفوس العامة، وكل ما يحتاج إليه هو شخص ما يضع ناراً هادئة تحت هذه المخاوف، فتنفجر في النهاية إلى هيستريا جماعية لا تسمع ولا تناقش ولا تقبل التفاوض.

يمكن أن يكون خوفاً على الوطن أو الدين أو القيم أو الهوية، لا يهم، فالآلية واحدة والاستراتيجية واحدة.

اخلق عدواً، شيطنه، أغرِقْ الناس في تفاصيل مؤامراتية، داعبْ مخاوفهم وضخِّمْها، ثم أطلقْ سهامَك على مَن تريد، سيكون الناس عندئذ جاهزين تماماً للهجوم، ولن تحتاج إلى بذل مجهود إضافي، فكل ما فعلتَه هو أنك قلتَ لهم إن هناك ساحرات شريرات في المدينة، ثم أشرتَ بإصبعك إلى الضحية، ثم تقوم الجموع الغاضبة بالباقي.

لن يسألك أحد على مصادرك، أو من أين أتيت بهذه الأسماء، أو ما هو دليلك الدامغ الذي لا يشمل أكثر من قوائم مكتوبة أو صفحات فيسبوك مضروبة أو مواقع إلكترونية بائسة أو صور تحمل ألف تفسير.

 لم يفكر أحد وقتها أن يسأل السيناتور مكارثي من أين أتى بالأدلة القاطعة التي على أساسها أخرج قائمة المئتي شخص.

ولا يسأل أحدٌ الآن على أي أساس يتم التشهير بخلق الله على شاشاتنا الفضائية ويتم اتهامهم بالخيانة والعمالة.

لكن كل هذا لا يهم.

فالحكم قد أصدر سلفاً وكل هذه الأشياء التافهة مثل "الأدلة" لا تعني شيئاً.

رجوعاً إلى السيناتور مكارثي، فقد ظل في حملته الشعواء أربع سنوات حتى ذاق من نفس الكأس، وتم انتزاع كل سلطاته بعد أن وُجِّهت إليه تهم بإساءة استخدام السلطة والتشهير بالشخصيات العامة.

استخدم السيناتور مكارثي كل التكتيكات التي نراها الآن على شاشات الإعلام من تهديد وتخويف واتهامات باطلة بدون سند، مما دفع آرثر ميللر إلى كتابة مسرحية عن ساحرات بلدة "سيلم" وكان بها إسقاط واضح على مكارثي، ما أدى إلى اتهام ميللر شخصياً بتهم لها علاقة بالشيوعية.

ولكن ما أنقذ آرثر ميللر هو حكم المحكمة العليا هناك سنة 1957 الذي قضى بحماية الشهود أمام جلسات استماع الكونغرس وحفظ المواطنين من التعرض للاتهامات الجزافية والتشهير بدون دليل.

ربما يكون هذا الحكم هو الحسنة الوحيدة لما فعله مكارثي، وربما نحتاج نحن إلى قانون مماثل، لأننا بصراحة مللنا تكرار نفس الأسماء في قوائم الجواسيس والعملاء، ومللنا تكرار نفس الوجوه التي تعيد إنتاج هذه الاتهامات بدون أي دليل أو سند.

وإلى حين يحدث ذلك فستستمر الجرائد والفضائيات تتغذى على لحوم الناس وستظل تقدمهم كقرابين لمحرقة الهيستريا الجماعية.

ليس هناك فرق كبير بين ممارسات نظام عسكري أو ديني أو فاشي ذي نكهة وطنية. فمن يدّعون التدين لا يقلون شراسة، بل يمكن أن يضيفوا تهمة الكفر وعداوة الدين إلى القائمة، وتذكّر عزيزي القارئ أن معظم العلماء والفلاسفة المسلمين الذين تُستخدم سيرتهم كدليل على أن الخلافة الإسلامية هي الحل، معظم هؤلاء المبدعين قد تم تكفيرهم والحكم بارتدادهم بل وقتلهم باسم الدين، (وهذا موضوعنا في مقال مقبل إن شاء الله).

لذلك إن كنت عالماً مسلماً أو مؤلفاً من هوليوود أو مؤلفاً لأجمل ألحان التانجو، فربما يتذكّرك التاريخ بسبب أعمالك وإبداعاتك، ولكن غالباً سيكتب عليك أن تعيش منبوذاً، مكروهاً متهماً بالخيانة والعمالة وربما الكفر.

 وابقى خلِّي التانجو تنفعك!

ينشر باتفاق خاص مع «الشروق» المصرية

back to top