الرقص الشرقي... بين نابليون وزمن النهضة

نشر في 09-02-2014 | 00:02
آخر تحديث 09-02-2014 | 00:02
No Image Caption
بين الحملة الفرنسية على مصر (1798) وعصر النهضة العربية، لم يكن الرقص الشرقي تبلور بالمشهد الذي نعرفه اليوم، حيث كان لا يزال خارج إطار الصورة تحت مسمى رقص الغوازي أو الرقص البلدي، وقليلات كن نجمات الرقص الشرقي، إلى جانب رواج «رقصة النحلة»، بمزيج من الخلاعة والرقص الشرقي. واللافت في هذه المرحلة ليس الرقص بحد ذاته، بل نظرة الغربيين إلى الجسد الشرقي (الراقص) ونظرة الشرقيين إلى الجسد الغربي والثقافة الغربية.
في أواخر القرن الثامن عشر، كانت مصر ضعيفة سياسياً، ومنقسمة، وترزح تحت نير الحكم العثماني، يسيطر عليها عملياً المماليك، فجاءت حملة نابليون، وكانت للراقصات والغوازي حكايتهن. ورغم أن الرحالة الغربيين انبهروا بالرقص الشرقي فإن أحد أعضاء حملة نابليون كتب: «رقصهن كان فاضحاً بذيئاً مثيراً للشهوات».

 ومع الحملة الفرنسية على مصر أصبح البغاء منظماً إلى حد ما، وقد جلب الفرنسيون معهم 300 امرأة للتنفيس عنهم.

بعض الجواري المصريات كنّ يملن إلى الفرنسيين، وقد وصف المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي تلك النساء بـ»أهل الأهواء من النساء الأسافل والفواحش». ثمة من يقول إن بعض النسوة وجدن في الحملة فرصة للتحرر من قيود نظام الحريم والهروب من أسر الرجل الشرقي.

رقص الغوازي

في أوائل القرن التاسع عشر، ألف الرحّالة البريطاني إدوّارد لين كتابه عن {أخلاق وعادات المصريين المحدثين}، وتتبّع أصول رقص {الغوازي} حتى العصر الروماني، وذكر أن رقصهنّ كان مطلوباً أمام الضيوف الرجال في الأعراس.

أما الصنف الآخر من الراقصات فهن مؤديات الرقص الشرقي (هز البطن) في النوادي الليلية الحديثة. ويعتبر هذا الرقص آخر مرحلة من تطور رقص الغوازي. فالراقصة الشرقية تلبس الأستار الشفافة.

وكانت العوالم يرقصن سافرات الوجوه في الشوارع العامة وفي ساحات المنازل وفي بعض المناسبات، كالاحتفال بمولد طفل أو زواج، ولا يرحب بهنّ في الحريم حسن السمعة وهن أكثر النساء خلاعة.

نفى محمد علي باشا العوالم خارج القاهرة، وفي عام 1834 منعهن من الرقص في الشوارع وفرض على مخالفة ذلك عقوبة خمسين جلدة. وينتبه محمد علي إلى أن إيفاد بعض الطلبة للدراسة إلى أوروبا جلب معه عادات جديدة غير مناسبة، حسب تفسيره: هكذا يوجه ملاحظاته إلى أحد وزرائه بوجوب التنبه إلى بعض العادات التي جلبها بعض الأفندية معهم، أي الذين تعلموا في أوروبا: {لا يتورعون عن جر زوجاتهم معهم إلى أسواق الاسكندرية، وأن المصلحة تقضي بتأنيبهم وتنبيههم إلى أن مصر بلاد إسلامية لا أوروبية، لا يباح فيها هذا السلوك} (المخطوطات الملكية المصرية، جمعها وحققها: أسد رستم، منشورات المكتبة البوليسية، مجلد 3، ص 92).

 الحملة الفرنسية

جاءت الحملة الفرنسية وطُرح الغرب على العرب كإشكالية ثقافية حضارية، فهو الغازي والمتقدم علمياً وحضارياً، وقد تباينت ردود الفعل المصرية على هذا الغزو، فمنهم من كان يطمح إلى السلطة ويراهن على أن نابليون سيسانده كالشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ حسن البكري الذي عشق نابليون ابنته، ومنهم من تمتع بحسّ نقدي، كالمؤرّخ عبد الرحمن الجبرتي الذي أعجب بالتقنيات الفرنسية، لكنه شجب السلوك الأخلاقي للفرنسيين والفرنسيات الذين حوّلوا حديقة الأزبكية {للمجون والخلاعة، وتلك هي طبيعة الفرنسيين}. ومنهم من رأى أن الفرنسيين يحملون حضارة وعلوماً قد يفيد منها المصريون، ودعوا إلى أخذ المعرفة، ولو من غير المسلمين كالشيخ حسن العطّار، ومن ثم تلميذه رفاعة الطهطاوي.

قبل بونابرت، لم يسبق أن اجتاح عسكري بلداً أجنبياً بجيش من المثقفين، وبحسب بعض النقاد، يندرج اصطحاب جيش من المثقفين إلى مصر في إطار جعل المصريين يتلمسون التفوق العلمي الغربي، أي استحالة انتصارهم على الغرب، لا لأنهم لا يملكون وسائل الانتصار وأدواته العسكرية المبنية على الإرادة والافتخار الحضاري، بل لأنهم لا يملكون المعرفة الغربية التي تجعل من التفوق المادي قدراً يصعب نفيه. إنه الانتصار والتفوق الثقافي إذاً.

أبدى الجبرتيّ إعجابه بتقدّم الفرنسيين العلميّ والمعرفي ولكنه في الوقت ذاته استهجن تحرّر النساء الفرنسيات وسفورهن ومخالطتهن للرجال، وخطر هذه المخالطة على الأخلاق. وبهذا دشّن الجبرتيّ العلاقة الإشكاليّة بين العرب والغرب في الفكر العربي الحديث: {الانبهار بمنجزات الغرب العلمية والتوجّس في الوقت ذاته إزاء حداثته العقلانية والاجتماعية}.

يقول الجبرتيّ في مؤلفه {عجائب الآثار}: {لما حضر الفرنسيس، أي الفرنسيون، إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم، كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم وهنّ حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة، ويسدلنّ على مناكبهنّ الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة، ويركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقاً عنيفاً مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية وحرافيش العامة، فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء الأسافل. فلما وقعت الفتنة الأخيرة في مصر وحارب الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات صرنّ مأسورات عندهم، فزيوهنّ بزي نسائهم وأجروهنّ على طريقتهنّ في كامل الأحوال، فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية وتداخل مع أولئك المأسورات غيرهن من النساء الفواجر}...

تخليص الإبريز

وشغل الرقص تفكير المفكر النهضوي رفاعة الطهطاوي الذي عيّنه الوالي محمد علي باشا إماماً لأول بعثة أرسلها للدراسة في باريس (1826)، فقد راقب حضارة الغرب عن كثب، وأثناء إقامته في باريس، تابع بدقة الأحوال الباريسية، وتعرّف إلى المؤسسات والعادات السائدة والسلوكيات في المجتمع، وبعد عودته إلى مصر، نشر كتابه الشهير {تخليص الإبريز في تلخيص باريز} (1834) الذي ضمّنه ملاحظاته على حضارة البلدان الغربية.

ويحدثنا الطهطاوي عن فوائد الرقص: {وقد قلنا إن الرقص عندهم من الفنون، وقد أشار إليه المسعوديّ في تاريخه {مروج الذهب}، فهو نظير المصارعة في موازنة الأعضاء ودفع قوى بعضها إلى بعض. فليس كل قويّ يعرف المصارعة، بل قد يغلبه ضعيف البنية بواسطة الحيل المقررة عندهم، وما كل راقص يقدر على دقائق حركات الأعضاء، وظهر لي أن الرقص والمصارعة وجعلهما شيئاً واحداً يعرف بالتأمل، ويتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس وكأنه نوع من العيافة والشلبنة، لا من الفسق، فلذلك كان دائماً غير خارج عن قوانين الحياء، بخلاف الرقص في أرض مصر لا يشم منه رائحة العهر أبداً، وكل إنسان يعزم امرأة يرقص معها، فإذا فرغ الراقص عزمها آخر للرقصة الثانية وهكذا، وسواء كان يعرفها أولاً أم لا، وتفرح النساء بكثرة الراغبين في الرقص معهن، ولا يكفيهن واحد ولا اثنان، بل يحببن رؤية كثير من الناس يرقصون معهن لسآمة أنفسهنّ بالتعلق بشيء واحد}.

ويسترسل الطهطاوي شارحاً قواعد الرقص وآدابه وأصوله: {وقد يقع من الرقص رقصة مخصوصة يرقص الإنسان ويده في خاصرة من ترقص معه، وأغلب الأوقات يمسكها بيده، وبالجملة فمسّ المرأة أياً ما كانت في الجهة العليا من البدن غير عيبٍ عند هؤلاء النصارى، وكلما حسن خطاب الرجل مع النساء ومدحهن عدّ هذا من الأدب}.

وملاحظة الطهطاوي تختصر النظرة الحضارية للجسد والمصالحة معه بين الرجل والمرأة، فليست كل حركات الجسد مبعثاً لأعمال فاحشة، وكان من ثمرات الفكر الطهطاوي أن التمثيل والغناء في عهد الخديوي إسماعيل صارا مرعيين من جانب الدولة: {ولما كان إسماعيل باشا نفسه، ميالاً بطبيعته للفنون الجميلة، وفي طليعتها الموسيقى والغناء، لم يكن غريباً أن يشتهر عصره بالمرح. لذا أنشأ في القاهرة المسرح الكوميدي بالأزبكيّة، وقد شرع ببنائه في نوفمبر 1866 واحتفل بافتتاحه في 3 يناير 1868، ثم دار الأوبرا (1869) لمناسبة حفلات افتتاح قناة السويس}.

 ولم يفت إسماعيل أن يعهد إلى الموسيقي الإيطالي فردي تأليف موسيقى {أوبرا عايدة} كتبها العلامة مارييت باشا، وقد مثلت للمرة الأولى في القاهرة في 24 ديسمبر1871، ومنذ ذلك الحين أخذت الحكومة تجلب الفرق الأجنبية وتغدق عليها المال. وبعد افتتاح {قناة السويس} بدأ قدوم السياح لزيارة مصر، وبالتالي تطورت الملاهي الليلية التي أصبحت تجذب زبائن من غير المصريين.

شارع محمد علي

ارتفع الاهتمام بالراقصات للاستعانة بهن في الحفلات التي يقيمها القناصل والحكام، وتلك المقامة على العوامات النيليّة، وقوبلت تلك {الهوجة} الفنية باعتراض وصدّ من السلطات الدينية، حتى وصل الاحتلال الإنكليزيّ في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وعمل على زيادة السيطرة على الاحتفالات بحيث كان يتم تنظيمها من دون الحدّ منها أو إخضاعها للرقابة، فعادت الموالد واقتصرت على الاحتفالات الدينيّة، مع منع النشاطات غير {الأخلاقية} في الكباريهات، وأقيمت فيها أول قاعة في القاهرّة تحت اسم {الدورادو} لعرض رقصات وطنية مصريّة أطلق عليها في ما بعد {الرقص الشرقيّ».

لا يمكن الحديث عن الرقص الشرقي من دون التطرق إلى المشهد المديني الذي لامس شارع محمد علي، وظهر في منتصف الثمانينيات من القرن التاسع عشر، في عهد محمد علي باشا الذي أوجد البناء والعمران الحديث في القاهرة. انتهى إعمار الشارع عام 1870.

يبحث العربي أحمد رجب في كتابه {شارع محمد علي} (دار الفاروق للنشر) بوصفه الشارع الذي يقع في منطقة تاريخية تعاقبت عليها عصور تاريخية مختلفة ويربط بين نسيجين عمرانيين مختلفين.

 كانت ولاية محمد علي نقطة تحول مهمة في تاريخ مدينة القاهرة، لكنها مع ولاية إسماعيل اكتسبت بنيتها التحتية المتينة. وألحقت بشارع محمد علي دار الكتب الخديوية، كذلك اشتهر بالفرق الموسيقية النحاسية كـ {فرقة حسب الله} الذي كان يعمل في موسيقى الحرس الخديوي، ثم تركها وكون أول فرقة لموسيقى الأفراح. عند افتتاح شارع محمد علي ذُكرت العبارة التالية: {القاهرة مثل الزهرية التي انتصفت إلى شطرين ولا يمكنالتحامها من جديد}.

back to top