لماذا لم نرَ نظيراً لتاتشر أو ريغان في أوقاتنا العصيبة هذه؟

نشر في 10-04-2014
آخر تحديث 10-04-2014 | 00:01
كثُرَت التنظيرات بشأن دور تاتشر في الأزمات الراهنة ولاسيما الأزمة المالية العالمية الأخيرة، فهل ساهمت خطواتها الليبرالية في هذه الكارثة؟ أم أن ابتعاد العالم عن أفكار تاتشر وأطروحاتها الرئيسية، الموالية للسوق والرامية إلى إطلاق العنان لقوى السوق كي تتولى بنفسها معاقبة الإخفاق ومكافأة النجاح كيفما تشاء، كان أساس هذه الأزمة؟
 ذي تيليغراف قبل سنة، كنت مسافراً إلى لندن على متن قطار، وأنا أصحح بعض الأخطاء في السيرة الذاتية التي أعددتها عن مارغريت تاتشر، حين بلغنا تقاطع "شارينغ"، كنت قد أنهيت الصفحة الأخيرة من الكتاب "عن النصر في حرب فوكلاند"، وعندما ترجلت من القطار، وصلني خبر وفاتها.

كانت الليدي تاتشر قد أعلمتني مسبقاً أن وفاتها تحدد موعد صدور سيرتها الذاتية، وكنا مستعدين لذلك، فنشرنا المجلد الأول من هذه السيرة في عيد القديس جرجس، بعد بضعة أيام من جنازتها المؤثرة المذهلة. وفي السنة التي تلت، أدليت بخطابات وأجريت مقابلات إذاعية وتلفزيونية عن الكتاب فاق مجموعها أكثر من مئتين؛ لذلك تمكنتُ من تكوين صورة واضحة عمّا يثير اهتمام الناس بهذه الشخصية.

إليكم، بدون أي ترتيب، بعض الأسئلة التي تُطرح غالباً:

هل أعربَت عن ندمها؟ كيف كانت علاقتها مع الملكة؟ كيف ساهمَت في تبديل وضع المرأة؟ هل كانت أماً صالحة؟ هل أحببتَها؟ ما كانت طبيعة قيادتها؟ هل نجحَت في تحقيق ما طمحت إليه في بريطانيا؟ هل شكّل الدين جزءاً مهماً في حياتها؟ كيف كان العمل معها أو تحت قيادتها؟ ماذا كانت ستقول عن ديفيد كاميرون أو نايجل فراج اليوم؟ لمَ لم تجمعها علاقة طيبة بالأسكتلنديين؟ هل تعرفُ قصتها مع حكومتها ومع الخضراوات (علماً أن هذه إحدى دعابات برنامج Spitting Image، إلا أن كثيرين يعتقدون أنها حقيقة)؟

لا تُعتبر معظم هذه الأسئلة سياسيةً، وقد يبدو هذا غريباً في الظاهر، فقد كانت مارغريت تاتشر شخصية سياسية أولاً وأخيراً خصصت حياتها بأكملها للصراع السياسي. حتى إن البعض قد يدّعون أن صدمة خسارتها أي دور سياسي فاعل ساهمت في تراجعها الفكري والذهني المبكر (مع أنني لا أحاول هنا تقديم وجهة نظر طبية محترفة). فقد تحوّل عقلها إلى ما يشبه محرك سيارة تستطيع الضغط على دواسة السرعة فيه من دون أن تتمكن من تغيير السرعات.

لكن هذه الأسئلة تكشف مدى تغلغل تاتشر في الوعي الوطني (حتى العالمي) التاريخي/الأسطوري، فلا أهمية كبيرة لمعظم السياسات، وتبدو راهناً غير ذات شأن بالنظر إلى مستوى تراجع اكتراث الناس بها، ولكن من الممكن اليوم لبعض التغيير أو لشخص ما، أو لبعض التغيير المتمثل بشخص ما أن يحدث تبدلاً كبيراً وحقيقياً، فيسمو فوق الأحداث بحد ذاتها، ويتحول إلى ملكية عامة لكل البشر.

من هذا المنطلق، تبدو مكانة تاتشر في التاريخ آمنة، ويعود ذلك إلى جنسها، ووجهات نظرها، وقصتها المؤثرة، وما قد ندعوه "مبتكراً" فيها، لا يهم ما إذا كان الناس يحبونها أو يكرهونها، فقد ماتت، إلا أن وجودها صار اليوم أكثر رسوخاً مما كان عليه خلال حياتها. قد تشكّل المناسبات التي تذكرنا بالماضي (مثل موت نيلسون مانديلا أو الذكرى الثلاثين لإضراب عمال المناجم) لحظات تتيح لشبكة BBC وغيرها السعي إلى تشويه صورتها، صحيح أن هذه التقارير تسيء أحياناً إلى سمعتها (تخيلوا حالة هذا البلد اليوم لو أنها لم تهزم آرثر سكارغيل)، غير أنها لا تقلل من أهميتها.

أحاول عادةً الإجابة مباشرة عن كل الأسئلة الواردة أعلاه، باستثناء ما يتعلق منها بكاميرون أو فراج، وأرفض الإجابة عن أسئلة افتراضية ("ما كانت تاتشر لتقول...؟") لأنني بكل بساطة لا أعرف الجواب. فالسياسيون يعملون عادةً وفق ما تمليه عليهم المراحل التي يعيشون فيها ويعبّرون عن واقعها، ولا يختلفون عن نظرائهم في تلك المراحل في اللباس والكلام (مع أن اللافت للنظر أن وينستون تشرشل وتاتشر كليهما اعتُبرا دوماً قائدا قديم الطراز، ما ساعد الناس على الأرجح في تقبّل تشددهما بسهولة أكبر)، لذلك لا يمكننا تحديد طريقة تفاعلهم وآرائهم في وقتنا الراهن.

علاوة على ذلك، إذا رغبنا في الإجابة عن السؤال "ما رأي تاتشر في حزب الاستقلال البريطاني؟"، فعن أي تاتشر نتحدث؟ أنقصد تلك التي شجعت التصويت للبقاء في السوق الأوروبية المشتركة عام 1975، رئيسة الوزراء التي طالبت في خطاب بروغي عام 1988 بأوروبا أوسع وأقل تشدداً، أم السيدة المسنة التي عبّرت في المجالس الخاصة عن تأييدها للتخلص من هذه الفكرة برمتها؟

نتيجة لذلك، أحاول أن أُبقي أجوبتي مبهمة، فأقول من جهة أن تاتشر كانت تعارض بشدة الوحدة الأوروبية، إلا أنها رفضت من جهة أخرى كل ما قد يسبب انشقاقاً في الحزب المحافظ، كذلك أشير إلى أن أتباع سياسة تاتشر، الذين يعتبرونها نموذجاً واحداً لا يتبدّل في السياسة والأسلوب والعقيدة، يسيئون إلى بطلتهم هذه، خصوصاً أنها كانت من رواد التغيير، لا الجمود، لذلك لا يمكن انتقاد كاميرون بالضرورة لأنه لا يشبهها.

لكن هذا لا يعني أيضاً أن تاتشر ما عادت ملائمة لعصرنا الحالي. على العكس، تُعتبر ملاءمتها هذه السبب وراء كل هذا الاهتمام بها، على سبيل المثال نرى في الكتلة السوفياتية السابقة حماسة كبيرة لمواقفها من الحرية، وينطبق الأمر عينه على الولايات المتحدة، وفي كل دول العالم، خصوصاً الشرق الأقصى، تدرّس تاتشر كنموذج نسائي يُحتذى به، أما في دول أوروبا الغربية، التي واجهَت صعوبة في التعاطي مع تاتشر خلال عهدها فتدور مناقشات عدة حول ما يمكن تعلمه من قيادتها، وقد فوجئت كثيراً خلال تقديمي محاضرة قبل بضعة أشهر في هولندا بجوها الجدي والمعتدل، حين اكتشفت الفكرة العامة السائدة عنها، وإذا رغبتم في معرفة سبب كل هذا الاهتمام الكبير بها، يكفي أن تشاهدوا لقطات عنها على موقع YouTube، فستلاحظون بالتأكيد مدى تأثيرها الذي يبدو أحياناً غريباً.

لكن ما يفاجئني حقاً إخفاق السياسيين الحاليين في استخلاص العبر من مثال تاتشر، بدا هذا مبرراً خلال مدة طويلة بعد سقوطها عام 1990، فقد ألقت بظل طويل رغب القادة الصغار في السن الهرب منه، بالإضافة إلى ذلك، شكّلت سياسات عهد توني بلير (علماً أن هذا الأخير كان ذكياً كفاية ليتعلّم منها الكثير) سياسات وفرة، ولا يتلاءم مثال تاتشر مع أوقات مماثلة، فما كانت لتصبح زعيمة حزب المحافظين أو رئيسة للوزراء لولا الأزمات. ولكن بدءاً من اللحظة التي تجمدت فيها الأسواق المصرفية في أغسطس عام 2007، غرق العالم في أزمة مالية (لتليها بعد حين أزمة اقتصادية وسياسية) لم يخرج منها بعد.

كثُرَت التنظيرات بشأن دور تاتشر في الأزمات الراهنة ولاسيما الأزمة المالية العالمية الأخيرة. فهل ساهمت خطواتها الليبرالية في هذه الكارثة؟ أم أن ابتعاد العالم عن أفكار تاتشر وأطروحاتها الرئيسية، الموالية للسوق والرامية إلى إطلاق العنان لقوى السوق كي تتولى بنفسها معاقبة الإخفاق ومكافأة النجاح كيفما تشاء، كان أساس هذه الأزمة؟

بغض النظر عن الجواب، يبدو غريباً أننا لم نشهد في هذه الأزمنة المضطربة ظهور قائد آخر مثل تاتشر، فلم يستطع أي قائد جديد كشف خبايا هذه المشكلة، محللاً بجرأة مواضع الخطأ ومحدداً بحزم الحلول. بدا للوهلة الأولى أن باراك أوباما قد يسدّ هذه الحاجة، ولكن اتضح لاحقاً أنه لا يبدي اهتماماً كبيراً بالمسائل الاقتصادية.

أما كاميرون، فقد أخذته هذه الأزمة على حين غرة، فقد أصبح زعيماً بمناداته بسياسات "أيام الازدهار"، لذلك لم يكن مستعداً لموجة التسونامي تلك، في المقابل، عمد إيد ميليباند إلى دراسة أسلوب تاتشر المحوِّل بصفته زعيماً للمعارضة، وسعى بدقة إلى إعادة تحليل مشاكلنا الاقتصادية، لكنني أخشى أنه غير أهل لذلك سياسياً، وشخصياً، وفكرياً. نتيجة لذلك، تمكن كاميرون أخيراً من التفوق عليه في هذا المجال.

لم نحظَ بعد في الغرب بنسخة عصرية من الابتكار الجريء الذي شهدته أواخر السبعينيات مع تاتشر ورونالد ريغان. وما السبب؟ ربما أستطيع تأليف كتاب عن ذلك، إلا أنني أعمل راهناً على المجلد الثاني عن تاتشر.

تشارلز مور

back to top