«رَمية من غير رامٍ»!

نشر في 13-12-2013
آخر تحديث 13-12-2013 | 00:01
التاريخ يخبرنا أن الحاكم الكيّس الفطن هو من يستمع إلى شعبه وينصت إليهم، لا من يصم أذنيه عن سماع أصواتهم ومطالبهم، ليستمع إلى طبقة منافقة تجيد ترداد كلماته أمامه كي تشبع غروره وترضي رغباته، حتى يأتي اليوم الذي لم يحسب له حساباً، تتجمع فيه كل الأصوات لتصبح صوتاً واحداً يصرخ فيه: «ارحل»، رمية يسددها شعب بأكمله، عن فن ومهارة ومقدرة، لا دخل للحظ أو المصادفة فيها هذه المرة!
 حمد نايف العنزي هوايتي هي لعبة "البلياردو"، أمارسها منذ 14 عاماً تقريباً، وقد وصلت إلى مستوى جيد بها، ليس المستوى الاحترافي، لكنه مستوى يؤهلني إلى أن أهزم أي لاعب ضعيف أو مبتدئ 10- صفر، بسهولة... وأريحية تامة!

هل هذه المقدرة على الفوز بسهولة دليل على عبقريتي ونبوغي وموهبتي في هذه اللعبة، أم دليل على فشل وغباء وقلة موهبة ذلك اللاعب المبتدئ الضعيف؟!

الواقع أنه لا هذا ولا ذاك، فكل الأمر أنني أعطيت هذه اللعبة الوقت الكافي من الممارسة والتدريب والمتابعة المستمرة للمباريات، والاستفادة من خبرات اللاعبين الكبار حتى أصبح الفارق شاسعاً بيني وبين أي لاعب مبتدئ، هذه حقيقة أدركتها منذ زمن بعيد، وأعطتني الثقة في القدرة على الفوز واللعب بشكل جيد دائماً، مع هذا، يحدث أحياناً، بطريق المصادفة أو الحظ أو بومضة ذكاء أن يقوم اللاعب المبتدئ الضعيف بتسديدة رائعة لا أستطيع رغم فارق المستوى بيني وبينه أن أقوم بها، حتى في محاولتي العاشرة... بعد المئة!

وقد سئل مرة أعظم لاعبي البلياردو في التاريخ إيفرين رييس عن بعض تسديداته العبقرية التي قام بها وكيف خطرت على باله، فقال إن معظم تلك التسديدات قد تعلمها خلال متابعته للاعبين السيئين، فهم قادرون أحياناً- ودون إدراك منهم- على تسديد كرات عبقرية لا تخطر على بال أفضل اللاعبين في العالم دون أن يعرفوا حتى كيف استطاعوا القيام بذلك، فالأمر كله عبارة عن حظ أو توفيق أو أي شيء آخر بعيد عن الموهبة والمعرفة والخبرة!

وقديماً قالوا: "رب رمية من غير رام"، أي قد يفتقد الرامي لأبسط مهارات الرمي، لكن رميته تستحق الثناء والتقدير، حتى إن كان الحظ وحده من تسبب بها!  

هذا الأمر، أو هذه الفكرة، أي ضربة الحظ، لو طبقناها بعيداً عن لعبة البلياردو، في حواراتنا ونقاشاتنا على سبيل المثال، لأصبحنا أكثر شعوب الأرض استماعا إلى الآخر، حتى لو لم تكن مؤهلاته العلمية أو خبراته أو قدراته تعادل ذرَّة مما لدينا، فقد يرى الأمور من زاوية لا نراها، ورغم بساطة أو سذاجة طرحه، فربما بمحض المصادفة أو بومضة ذكاء يفاجئنا بتسديدة تنبهنا إلى ما غفلنا عنه رغم طول التفكير والتدبير، فليس هناك من يدرك الأمور أو يحيط بها من جوانبها كافة، فكلنا كما قال أبو نواس: "حفظنا شيئاً... وغابت عنّا أشياء"!

وما ينطبق علينا كأفراد، ينطبق كذلك على الدول وحكامها، فمهما كانت النظرة "الحاكمة" لمستوى عامة الشعب متدنية وقاصرة، فإن هؤلاء العامة من الشعب لو أتيحت لهم الفرصة جميعاً أن يعبروا عن آرائهم بحرية، فإنهم بلا شك سيسددون الكثير من الرميات الرائعة التي سيستفيد منها النظام الحاكم، وإن جاءت مصادفة أو بالحظ أو بأي شيء آخر لا علاقة له بالمعرفة أو القدرة أو المهارة!

والتاريخ يخبرنا أن الحاكم الكيّس الفطن هو من يستمع إلى شعبه وينصت إليهم، لا من يصم أذنيه عن سماع أصواتهم ومطالبهم، ليستمع إلى طبقة منافقة تجيد ترداد كلماته أمامه كي تشبع غروره وترضي رغباته، حتى يأتي اليوم الذي لم يحسب له حساباً، تتجمع فيه كل الأصوات لتصبح صوتاً واحداً يصرخ فيه: "ارحل"، رمية يسددها شعب بأكمله، عن فن ومهارة ومقدرة، لا دخل للحظ أو المصادفة فيها هذه المرة!

back to top