حجر الصبر
الغرفة صغيرة، مُستطيلة. جوُّها خانق على الرَّغم من جُدرانها المطليَّة بلونٍ فاتح، أزرق مُخضَرّ، وستارتيها المزيّنتين بتصاوير طيور مُهاجرة تجمّدت أجنحتُها المُحلِّقة وسط سماء صفراء وزرقاء، تتخلَّلها ثقوبٌ مُتفرِّقةٌ تنفُذ منها أشعَّة الشمس لتنتهي على الخطوط الهامدة لبساط شرقي مضلَّع. وفي أقصى الغرفة ستارةٌ أخرى، خضراء، من غير زخارف، تُخفي بابًا مسدودًا، أو حُجرة مُهملات.الغرفةُ فارغة، خالية من أيّ زينة سوى ما على الجدار الفاصل بين نافذتين حيث عُلّق خِنجرٌ صغير، وفوق الخِنجر صورةٌ شمسيّة، هي صورة رجل كثَّ الشارب. لعلَّه في الثلاثين من العمر. مجعَّد الشَّعر، ذو وجهٍ مربَّع، مُؤطَّرٍ بسالِفين مشذّبين بعناية. تلمع عيناه السوداوان الصغيرتان اللتان يفصل بينهما أنفٌ معقوفٌ كمنقار نسر. الرجلُ لا يضحك، غير أنّه يبدو كمن يكبتُ ضحكه، ما يُضفي عليه سيماء رجلٍ يسخرُ في قرارة نفسه من الشخص الذي ينظُر إليه في الصورة. وهي صورة أُخذت بالأسود والأبيض، ولوّنت تلوينًا حرفيًّا بأصباغ باهتة.
قُبالة تلك الصورة، أسفل جدارٍ، تمدَّد الرجلُ نفسُه، الأكبرُ سنًّا الآن، على فراش وضع على وجه الأرض. الرجلُ ملتحٍ، غزا الشَّيب لحيته، ونحل جسمه كثيرًا؛ فهو الآن جِلدٌ على عظم. شاحب. مليء بالتجاعيد. وبات أنفُه أكثر شبهًا بمنقار نسر. لم يعُد ذلك الرجل الضَّحوك، غير أنّه ما زال متحفظًا بسيماء الساخر الذي كانه. فمُه منفرجٌ. عيناه اللتان ازدادتا صغرًا غائرتان في محجريهما. نظرُه مُثبتٌ على السَّقف، وسط العوارض الظاهرة، المُسودَّة والمتعفَّنة. ذراعاه الساكنتان ممدودتان على طُول قامته. وتحت جِلدِه الشفّاف تتشابك عروقه، الشّبيهةُ بديدان لاهثة، مع عظامه البارزة. في معصمه الأيسر ساعةٌ آليَّة، وفي بنصره محبسُ زواج ذهبيٌّ، وفي ذراعه اليُمنى النَّحيلة غُرزت إبرةٌ متّصلةٌ بأنبوبة تحقنه بسائلٍ لا لون له يتقطَّر من كيس بلاستيكي مُعلَّقٍ فوق رأسه تمامًا. وما تبقَّى من جسده مُغطَّى بقميص طويل أزرق، مُطرَّز عند ياقته وكمَّيه. أمّا ساقاه المتُصلّبتان كوتدين فيُغطيهما شرشفٌ أبيض مُتّسخ.على إيقاع تنفُّسه تهتزّ يدٌ، هي يدُ امرأة، موضوعةٌ على صدره، فوق قلبه، ورأسُها بين رُكبتيها. وشعرُها الأسودُ، الحالكُ، الطويلُ، يُغطِّي كتفيها المُتمايلتين، تبعًا لحركة ذراعها المُنتظمة.في اليد الأخرى، اليد اليُسرى، تمسكُ مسبحةً طويلة سوداء، تُسبِّح بها، بهدوء، وبطء، بالوتيرة ذاتها التي تتمايل بها كتفاها، أو على إيقاع تنفُّس الرجُل. جسدُها ملتفٌ بثوبٍ طويلٍ، أحمر أرجوانيّ، مزيَّن عند الكُمَّين والحاشية ببعض الأشكال الزّخرفية الخفيفة من سنابل القمح وأزهاره.على مخدَّة من المُخمل وضع في مُتناول اليد كتابٌ، هو القرآن، مفتوحًا على صفحة الغلاف.تبكي فتاةٌ صغيرة. ليست في تلك الغرفة. لعلَّها في الغرفة المُجاورة، أو في الرَّواق.يتحرَّكُ رأسُ المرأة، متعبًا. ويتركُ ثغرة الرُّكبتين.المرأةُ جميلةٌ. عند زاوية عينيها اليُسرى تمامًا ندبةٌ صغيرة، من أثر جُرح، تُقلِّصُ بعض الشيء مدى أجفانها، وتُضفي على نظرها مسحةً من قلق غريب. وشفتاها المُكتنزتان تتمتمان بصوتٍ خافتٍ، وببطء، كلمةَ صلاةٍ واحدة.تبكي فتاةٌ صغيرةٌ ثانية. يبدو أنّها أقرب من الأولى، خلف الباب، بلا ريب.تسحبُ المرأةُ يدها من على صدر الرجل. تنهضُ وتغادر الغرفة. لا يُغيِّر غيابُها الوضعَ في شيء؛ فالرجل ما زال لا يتحرَّك، وما زال يتنفَّسُ بصمت، وبطء.أسكتَ وقعُ قدميَّ المرأة الطفلتين. مكثت بقربهما وقتًا طويلاً، إلى أن استحال المنزلُ، والعالمُ، إلى ظلال في رُقادهما؛ ثُمَّ عادت أدراجها. في إحدى يديها قارورة بيضاء، وفي الأخرى المسبحة السوداء. عادت لتجلس جوار الرجل، وتفتح القارورة، وتميل عليه لتقطر في عينه اليمنى قطرتين، وفي اليسرى قطرتين، من دون أن تترك مسبحتها، أو تكفَّ عن التسبيح.أشعَّة الشمس، المارّة عبر ثقوب السماء الصفراء والزرقاء التي على الستارتين، تداعب ظهر المرأة، وتُلامس كتفيها اللتين ما زالتا تتمايلان بانتظام، على إيقاع تساقط حبّات المسبحة من بين أناملها.من بعيد، من مكانٍ ما في المدينة، يُسمع دويُّ انفجار قنبلة. انفجار عنيف لعلَّه دمَّر بعض المنازل، وبعض الأحلام. يُردُّ على القصف بمثله. وتُمزّق الانفجارات المُضادة صمت الظهيرة المُطبق، وترجُّ زجاج النوافذ، من دون أن توقظ الطفلتين. إلاّ أنّها جمَّدت لبُرهة- البرهة اللازمة لإسقاط حبَّتين من حبّات المسبحة- كتفي المرأة. ثمّ وضعت قارورة القطر في جيبها. وتمتمت «القهّار»، وكرَّرت «القهار». وراحت تردّدُ الكلمة مع كلّ نفس من أنفاس الرجل. ومع كلّ كلمة تُسقط من بين أناملها واحدةً من حبّات المسبحة.أتمّت دورةً من التسبيح، أسقطت خلالها تسعًا وتسعين حبّةً، مردّدةً تسعًا وتسعين مرّةً «القهّار». نهضت لتعود إلى مكانها على الفراش، قبالة رأس الرجل، ولتضع من جديد يدها على صدره. وبدأت دورةً جديدةً من التسبيح.عندما أكملت للمرَّة الثانية ترديد كلمة «القهّار» تسعًا وتسعين مرّةً، ارتفعت يدُها عن صدر الرجل لترقى إلى عنقه. غاصت أصابعها أوّلاً في شعر لحيته الكثّة، حيث بقيت مدَّة نفس أو اثنين. ثم ظهرت لتمتدَّ إلى الشفتين، وتلامس الأنف، والعينين، والجبهة، ولتندسَّ أخيرًا في شعر رأسه الكثيف المُتَّسخ. «هل تشعر بيدي؟» قالت وقد أحنت جسدها، ومالت على الرجل، شاخصةً إليه.لا إشارة. قرَّبت أذنها من شفتيه. لا إشارة. ما زال على تلك الهيئة التائهة: فمٌ منفرج، ونظرةٌ شاردة بين عوارض السقف المُظلمة.زادت انحناءً لتهمس: «باسم الله، أعطني إشارةً لتُعلمني أنّك تشعر بيدي، وأنّك تحيا، وأنّك تعود إليّ، إلينا! إشارة فقط، إشارة بسيطة تمنحني شيئًا من القوّة، ومن الإيمان». ترتعشُ شفتاها، وتتوسَّلان: «كلمة فقط..» ثمَّ تلامسان أذن الرجل وتهمسان «أرجو على أيّ حال أن تسمعني». وتُلقي برأسها على المخدَّة.«قالوا لي إنّه في ظرف أسبوعين سيكون بإمكانك أن تتحرَّك، أن تُعطي إشارات.. لكنْ ها نحن في الأسبوع الثالث... أو تقريبًا. ولا شيء دائمًا». يستدير جسدها لتنقلب على ظهرها. ويشرد نظرها حيث شرد نظر الرجل، في مكان ما بين العوارض السوداء والمتعفّنة.«القهّار، القهّار، القهّار»تنهضُ المرأة ببطء. تحدِّق في الرجل بيأس. تضع يدها على صدره مجدّدًا «إن كان بوسعك أن تتنفّس فبوسعك أن تحبس نفسك، اليس كذلك؟ احبِسه!» تردُّ شعرها وراء رقبتها وتلحُّ: «احبسه مرّةً واحدةً فقط!» ومجدّدًا تُدني أذنها من فمه. تصغي إليه. تسمعه. إنّه يتنفّس.تغمغم وقد أسقط في يدها: «ما عدت أحتمِل».تتنهّد من غيظ، ثمّ تنهض فجأة، وتكرِّر بصوت مرتفع: «ما عدت أحتمل» خائرة القوى. «من الصباح إلى المساء أتلو أسماء الله الحسنى، ما عدت أحتمل!» تتقدّم بضع خطوات نحو الصورة، من دون أن تنظر إليها: «مضى على هذه الحال ستَّة عشر يومًا...»، تتردّد «لا...» وتعدُّ على أصابعها غير متيقّنة.تلتفت إلى الوراء مرتبكةً، وتعود إلى مكانها لتُلقي نظرةً على صفحة المصحف المفتوحة. تُراجع «ستَّة عشر يومًا... عليّ اليوم أن أتلو اسم الله، السادس عشر، القهّار. هذا هو حقًا، الاسم السادس عشر...» تفكّر في الأمر «ستّة عشر يومًا!» تتراجع. «ستَّة عشر يومًا وأنا أحيا على إيقاع تنفُّسك» تقول بعدوانيّة. «ستّة عشر يومًا وأنا أتنفّس معك» تحدّق في الرجل. «أتنفّس مثلما تتنفّس، أُنظر!» تأخذ نفسًا عميقًا، ثم تزفره متألِّمةً، على إيقاع تنفّسه. «حتّى وإن لم تكن يدي على صدرك يمكنني الآن أن أتنفَّس مثلك» تنحني عليه «وحتّى إن لم أكن بجانبك فأنا أتنفّس على إيقاع تنفّسك بالذات». تتنحَّى عنه «أتسمعني؟» ثمّ تأخذ في الصُّراخ: «القهّار»، وتستأنف التّسبيح، بذات الإيقاع دائمًا. وتخرج من الغرفة. وفي الرِّواق وخارجه يُسمع صوتها:«القهّار...» يبتعد الصوت.«القهّار...» يغدو خافتًا.«القهّار...» لا يدرك.يختفيمرَّت لحظات من الصمت. ثمَّ عاد صدّى «القهّار» يرتطم بالنافذة، ويتردّد في الرِّواق، وخلف الباب. دخلت المرأة الغرفة وتوقّفت على مقربة من الرجل، منتصبة. ما زالت أصابعُ يدها اليُسرى تُساقط حبّات المسبحة السوداء. «يُمكنني حتّى أن أقول لك إنّك تنفّست في غيابي ثلاثًا وثلاثين مرّة». قرفصت. «وحتّى هنا، في هذه اللحظة، وأنا أكلّمك يمكنني أن أحصي أنفاسك» رفعت المسبحة لتجعلها في المجال غير المحقَّق لنظرة الرجل. «أنظر، منذ وصولي، تنفَّستَ سبع مرّات». جلست على البساط ومضت تقول: «أيّامي ما عُدت أقسِّمها إلى ساعات، ولا الساعات إلى دقائق، ولا الدقائق إلى ثوانٍ...