أختك مهنية ماتت

نشر في 24-12-2013
آخر تحديث 24-12-2013 | 13:01
 باسم يوسف لم يكن ما قرأته قطعة من الهراء المعتاد على "فيسبوك"، ولم تكن "اشتغالة" على أحد المنتديات المضروبة، بل كانت مقالة محترمة بقلم الكاتب الكبير.

هناك بعض الأسماء التي يكفي وجودها على أي مقال لتأخذ "ختم الصلاحية"، فلا يمكن أن يضحي الكاتب والصحافي الكبير بتاريخه بأن ينشر "أي كلام وخلاص".

لكن ما بين "ختم الصلاحية" وما قرأته، "احترت أصدق مين"؟

فها هو الكاتب يسرد بتفاصيل دقيقة حقيقة ما جرى بين وزير الخارجية الأميركي وحاكم دولة عربية كبرى.

ويا لها من تفاصيل!

فالوزير يخبر الحاكم بمعلومات خطيرة عن قطر والإخوان وعلاقتهم بإسرائيل، وتابع المقال كيف تململ الوزير وكيف تنحنح الحاكم، وكيف سرد المقال بدقة بالغة ما قاله وزير الخارجية الأميركي من أول "اسمح لي أقولك سر خطير" إلى المكالمات السرية بين أوباما وأمير قطر وأردوغان، إلى كيف تسلل وزير سوري إلى الأردن في زي امرأة، إلى تفاصيل آخر حلقة من "سبونج بوب".

المقال كان "ناقصله تكة" ويدخل مع الوزير الحمام!

لم يكن المقال سرداً عاماً لما حدث بين الطرفين، معلومات عامة يعني، ولكنه كان سيناريو بالكلمة والحرف بعبارات مختارة من سيناريو لأسامة أنور عكاشة.

أنا هنا لا أشكك في مصداقية الكاتب الكبير، ولا أتهمه بالكذب، لكن المشكلة أن الكاتب الكبير ورفاقه من أساطين الصحافة العربية هم أول من علمونا أن الكاتب إذا كتب شيئاً ما لقرائه فيجب أن تكون لذلك مصادر، قرأت المقال من أوله لآخره "إني ألاقي مصدر واحد".... أبداً.

كل ما هو مكتوب ان "فيه واحد ثقة" قاله هذا الكلام.

مين المصدر الفاضي اللي حيفرغ كمية الكلام الأهبل ده؟

طب أمال كنا زعلانين من الإسلاميين ليه بقى؟

ما كان الواحد من دول شغال ليل نهار في برامجهم: "قيل لي"، و"قالي وقلتله".

وكمان إحنا زعلانين ليه؟ كفاية إن الآلاف قرأوا المقالة وصدقوا فعلاً هذا الحوار الحميمي بين وزير الخارجية الأميركي وحاكم الدولة العربية، وتداولوا في ما بينهم حواديت ألف ليلة وليلة التي حفل بها المقال.

المشكلة أنه للاسف أصبح مقبولاً في الصحافة العربية مثل هذا النوع من الكتابة الذي ابتدعه "كاتب كبير" أيضاً في الستينيات، فأصبح "الفتي" أسلوب حياة لكثيرين ممن تصدروا مشهد الكتابة في الصحف المصرية.

فهناك جيل بالكامل كبر وترعرع وهو يسمع القصص الخزعبلية عن كيف وضع السادات السم في فنجان القهوة لعبدالناصر، وكونك تحكي الموضوع ده فيا إما السادات قالك، أو عبدالناصر رجع من الموت وقالك، أو إنك كنت أنت شخصياً مستخبي في كنكة القهوة.

وهذا الكاتب الذي يفحمنا كل شهرين بكتاب جديد عن أسرار المخابرات والرئاسة والجيش، وبقدرة قادر يتواجد في الوقت والمكان المناسبين ليستمع لما قاله مبارك وطنطاوي وعنان ومرسي، هذا إلى جانب قدرته الفائقة على أنه يتحط على مبارك ينور، يتحط على مرسي ينور، يتحط على أي حتة ينور، ده غير انه "سيجبر وزير الدفاع نفسه على الترشح غصب عنه"، ألف ألف ألف مبروك.

وعندك الكاتب الآخر الذي يخرج علينا كل شوية بخطط المخابرات الأميركية، ويكشف لنا ما تحيكه وكالات الاستخبارات حول العالم لنا، وأتذكر جيداً وقت قضية المنظمات الحقوقية حين هرب الأميركان، فخرج الصحافي الكبير على المشاهدين وهو يؤكد أن لديه معلومات مؤكدة أن الجيش الأميركي كان سيقوم بعملية إنزال بطائرات الهليكوبتر فوق سطح السفارة الأميركية ليجلي العاملين بهذه المنظمات، ولذلك اضطر من في السلطة أن يرضخوا ويوافقوا على تهريبهم حتى لا تحدث مثل هذه الفضيحة، طبعاً الكاتب الكبير ظن أنه بذلك يخدم المجلس العسكري بسرده لهذا السيناريو الأهبل حتى يقول الناس: "الحمد لله أن أميركا ما حطتش علينا".

واخدلي بالك انت؟ يعني طيران هليكوبتر يخترق المجال الجوي المصري عادي كده، ويعدي على الدلتا وعلى منظومات الدفاع الجوي، عادي برضه، ثم تصل هذه الطائرات معززة مكرمة إلى وسط البلد، ثم تقوم بعملية إنزال عادي كده على سقف السفارة، ويطلع بيهم برة مصر، وإحنا لا مؤاخذة قاعدين كيس جوافة.

لا وإيه كمان؟ المجلس العسكري وقتها يا حرام اضطر لهذا الحل المهين حتى لا تهان مصر بعملية الإنزال، مع ان هذا السيناريو المنبطح أكثر إهانة للبلد ولمن يحكمها، ولكن يبدو أن الكاتب الكبير "ما حسبهاش كويس"، لكن معلش، هو فيه حد مركز والا فاكر الحواديت دي؟

أنا ليس لدي مشكلة أن يكون كل هؤلاء عالمين ببواطن كل الأمور، ربنا يزيد ويبارك يا سيدي... لكن عندي سؤال: كل القصص اللطيفة التي يتداولها هؤلاء الخبراء عن أميركا وأوباما والمخابرات: هل فاتت هذه القصص على الصحف ووسائل الإعلام وجهات الرقابة الأميركية، لتصل في النهاية إلى صحفنا وكتابنا من ضمن كل الخلق في العالم؟

هل تذكرون موضوع خيرت الشاطر الذي باع سيناء مقابل ثمانية مليارات دولار؟ هل تذكرون المعلومة الموثقة بأن أخو أوباما إخوان؟ هل تذكرون المعلومات الموثقة التي خرجت من قاعدة ألمانية حيث جرى اجتماع بين الدول العظمى، ونشرت الصحف تفاصيل المؤامرة بنت الحرام التي كانت تحيكها هذه الدول لمصر؟ وكيف أفردت الصحف "المحترمة" وبرامج التوك شو "المحترمة" المساحات الواسعة لمناقشة هذه المؤامرة الدنيئة، ثم بعد أيام معدودة نسينا المؤامرة الدنيئة، وجلس قادة مصر مع ممثلين من هذه الدول التي تتآمر علينا، ولا كأن فيه حاجة.

ما يستفزك أو ربما يشعرك بالفخر لو أنت مصدق، أنه لم تستطع لا النيويورك تايمز ولا الواشنطن بوست ولا السي إن إن ولا أي من وسائل الإعلام الأميركية أن تحصل على هذه المعلومات، وحصل عليها الصحافيون الأبطال الأشاوس في الصحف المصرية، وتناقلها المذيعون المهنيون "السوبر" في قنواتنا المصرية.

هل تذكرون نجوم التوك شو المصريين الذين كانوا ينقلون تصريحات عن الإخوان ومرسي وزوجة مرسي وعزة الجرف، ولكنهم ينقلونها من حسابات تويتر مزيفة؟

هل تابعت تفريغات المكالمات المنسوبة لمرسي وباقي قيادات الإخوان؟

طيب هل سمعها حد فينا؟ وإذا كانت هذه المكالمات تصف بتفاصيل دقيقة خيانة هؤلاء، لماذا لا يتاح للشعب المصري أن يطلع عليها، فإذا سمح للصحف أن تنشر تفريغ التسجيلات إذاً فليس هناك مانع من نشر التسجيل نفسه.

أتذكر الآن البرنامج الشهير الذي كان ينقل أحداث ثلاثين يونيو لحظة بلحظة، وأحد المذيعين في الاستديو مصمم على أن يقرأ تغريدات مثيرة للضحك من حساب منسوب لمحمد مرسي، والكاتب الصحافي جالساً أمامه يحاول أن يشرح له أن هذا حساب ساخر، ولكن المذيع المخضرم يصر على أن يقرأ هذه الترهات على أنها حقيقية.

الآن التربة صالحة لأن تكبر وتترعرع هذه الكائنات المسماة بالخبراء الاستراتيجيين، ويبدع الصحافيون الذين تربوا في نفس مدرسة الكاتب الكبير بتاع فنجان القهوة المسموم، ولا يفكر أحد في أن يراجع المصادر أو يطلب منهم إثبات الهراء الذي يتفوهون به.

أنا هنا أطلب منك عزيزي القارئ أن تراجع كل المعلومات التي قرأتها على "فيسبوك"، أو قرأتها على المواقع التي تظن أنها إخبارية، أو سمعتها من المذيعين الذين يقرأون أخبارهم من هذه المواقع، كم خبراً اتضح أنه صحيح؟ كم خبراً أكدته مصادر الأخبار العالمية؟

الإجابة عن هذا السؤال بكل صراحة هي "لا يهم"، لأن هذه الأخبار تريح أعصابك، لأنها ضد من تكرههم، فلا داعي لأن نتأكد منها أو من مصادرها.

وهي نفس الخطيئة التي كان يمارسها الإسلاميون من قبل، فهم لم يتورعوا عن استخدام الشائعات والأكاذيب من أي مصدر طالما خدمت أغراضهم.

والآن ذهب الإسلاميون وبقيت الإشاعات لكن في الاتجاه العكسي.

ليس هذا المقال دفاعاً عن الإخوان أو الجزيرة أو قطر، لكنه دعوة لاحترام عقولنا، الإخوان بغبائهم وبدون أي مساعدة منا فقدوا مساندة من انتخبوهم، وفقدوا شعبيتهم بين البسطاء، انت لا تحتاج للكذب لإثبات وجهة نظرك، أنت لا تحتاج لأن تأتي بأخبار مضروبة من مواقع مضروبة، لأن كذبك سينكشف إن عاجلاً أو آجلاً، وتخسر معها قضيتك، وحينئذ سيراجعك الناس في كل شيء قلته عن الإخوان، وسيكذبك الناس حتى في المعلومات الصادقة التي قلتها، وستفقد مصداقيتك ولن يصدقك الناس بعدها.

ربما يتبادر إلى ذهنك هذا السؤال: "وانت مين انت عشان تعدل على أسيادك وانت ابن امبارح في الصحافة؟".

تصدق بالله؟ عندك حق.

أنا لا صحافي ولا دخلت كلية لأكون مذيعاً، في الواقع، وحتى الآن لا أعرف سبباً لتمسك جريدة الشروق بكتابتي مقالاً فيها، وأنا أجهل أبسط قواعد الصحافة.

لكنني هنا أتكلم كمشاهد، كقارئ، كبني آدم عادي، ربما لا أفهم أي شيء عن المهنية التي ماتت، والقواعد الصحافية التي أصبحت لا تعني شيئاً، بل ويهاجمني البعض أحياناً بمقولتهم المشهورة إن أنا أراجوز، أنا موافق، لكن العيب كل العيب أن يكتب الكاتب الكبير اللي هو مش أراجوز مثل هذا الهراء، وأن يقدم الإعلامي القديم المخضرم اللي هو مش مهرج مثل هذا العبث.

أنا لا صحافي ولا إعلامي ولا يحزنون، لكن بصراحة محبش حد "يستكردني".

ينشر باتفاق خاص مع «الشروق» المصرية

back to top