«12 عاماً من العبودية»...

نشر في 19-01-2014 | 00:02
آخر تحديث 19-01-2014 | 00:02
خيار الحرية الفكرية أصعب من أن يمتلكه «سيد»

يعتبر فيلم «12 عاماً من العبودية» واحداً من أهم الأفلام التي انتجت لعام 2013 عامة، وعلى رأس قائمة الأفلام التي ناقشت موضوع العبيد، الفيلم من إنتاج بريطاني أميركي مشترك، أخرجه البريطاني ستيف ماكوين، وهو الأوفر حظا هذا العام بإشادة النقاد والسينمائيين.
ماذا في عرض فيلم عن العبودبة قديما؟ ماذا في ذلك أمام كل ما نراه في العالم من ممارسات لأشكال مختلفة من العبودية الفكرية والجسدية والدينية والاقتصادية وغيرها؟ لماذا يشد انتباهنا ويحرك مشاعرنا فيلم عن حياة رجل أميركي اختُطِف ليكون عبداً على مدى 12 عاما، ويتعرض لكل أشكال الذل والتعذيب، ثم يعود بعدها إلى عائلته، وطبعاً بعدما ذهب عنه الكثير.

أصبحت فكرتي عن الأفلام الأميركية والبريطانية خلال الخمس سنوات الأخيرة، قاتمة بعض الشيء، وخصوصا تلك الأفلام التي تعرض قضايا انسانية أو وطنية من وجهة نظر «السياسة» هناك، «بروباغاندا» قاتلة تلك التي تحاول السينما الأميركية تحديدا أن تنال منا من خلالها، صورة دولة الحضارة الفائقة والإنسانية في أوجها، والمشرقة دائما وأبدا، ما زالت تستمر وتنمو وتستهزئ بعقولنا أمام ما يحدث في العالم أجمع.

قبل أن أشاهد فيلم 12 عاماً من العبودية للمخرج ستيف ماكوين في صالات العرض هنا في الكويت، كنت أتساءل «عما وراء الفيلم» ، كانت تخيفني فكرة إعادة صياغة العنصرية، وتحديدا في اللون والعِرق الآن، وفي هذا الوقت تحديدا، العالم لم يعد يحتمل أن يعيد التاريخ نفسه في حال وجود أجندة جديدة تثير هذه النزعة وتجددها وتغذيها من خلال وسائل الإعلام والسينما بشكل خاص، إنه عام البشرة السوداء بامتياز، ولا يعقل أن تكون جميع الأفلام التي أنتجتها هوليوود في 2013 عنهم من باب توارد الخواطر مثلا، بدءا من «كبير الخدم» ومرورا بفيلم «42»، بالإضافة إلى فيلم مانديلا رغم خروجه عن القاعدة من حيث مصدر الإنتاج ومصداقية العمل.

ولعل أهم أسباب هذه «الموضة» في إنتاجات هوليوود الأخيرة، فوز باراك أوباما بالرئاسة، مما يؤكد وجود توجهات على مستوى «رفيع» تريد أن تقول كلمتها في قضية لطالما سكتت عنها السينما على مر العصور.

وكان القرار الصائب بالنسبة لي، أن أشاهد الفيلم بدون ذلك كله، فيلم لستيف ماكوين قد يستحق المشاهدة، وفيلم من بطولة  شيواتل ايجيوفور يستحق المشاهدة أيضا، وفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية بطلها كتب تفاصيلها عام 1853 في نفس العام الذي تم تحريره فيه من عبوديته، بعد 12 عاما، وقبل 12 عاما من صدور قانون إلغاء الرق في الولايات المتحدة الأميركية عام 1865، كل ذلك يستحق المشاهدة أيضا.

منذ أول صفعة، أعترف بأنني نسيت كل تلك «الخزعبلات» التي لطالما حاولتُ إلصاقها بأفلام من هذا النوع، صفعة خرجت عن نطاق القانون، سبقت وقتها الافتراضي باستفزاز تماما كما صور الرائع ماكوين مشاهد العنف والتعذيب وانتهاك الإنسانية الخارجة عن جميع القوانين، ولا شك أن الصفعات التي لحقت بها لم تكن أقل وجعا منها.

عندما كان اسمه سولومون نورثوب، كان حرا مثقفا، يعزف الكمان، له زوجه (كيسلي سكوت) وطفلان، يسكن في شمال ولاية نيويورك، وعندما أصبح اسمه بلات، في لحظات، لم يُنْسِه مالكوه الذين باعوه واشتروه بالغالي والرخيص، إنسانيته وكرامته وعائلته ووطنه، رغم أن أحد مالكيه كان على يقين بأنه سينسى قريبا حتى أطفاله.

ورغم أن الفيلم صور جيدا مشاهد التعذيب الجسدي، للحد الذي أبقى صوت السياط عالقا في رأسي حتى بعد خروجي من الفيلم بساعات، إلا أن الأكثر جودة من ذلك كله، تلك اللحظات التي حكّ خلالها ماكوين جراح الصمت، ووجع الذكريات والكرامة الإنسانية التي انتهكت بكل أساليب الظلم والاستعباد.

كان على الذي يريد منهم (العبيد) أن يخرج حيا من الحفرة ألا يفهم، ولا يقرأ، ولا يفكر بأكثر مما يطلب منه سيده، كان عليه أن يكون ساذجا وقتما يشاء السيد، وذكيا وقتما يشاء أيضا، كان ممنوعا من الاستحمام بالماء النظيف والصابون لدرجة أن السيد ألقى بسياطه على جسد إحدى السوداوات التي خرجت دون إذنه وخاطرت بحياتها بسبب «صابونة» ذهبت لجلبها من مزرعة مجاورة لأنها لم تعد تطيق رائحتها الكريهة.

كان بلات ذكياً أكثر مما توقعه منه مالكوه، وكان رجلا إلى الحد الذي استطاع فيه أن يحصل، ولو على قدر بسيط من حسن معاملة بعضهم، كان يعلم في داخله أنه ولد ليكون حرا، لم يستسلم يوما، رغم كل ما مر به من إنكار العالم حوله لأصله ووجوده، لفكرة العبودية، عاد بعد 12 عاما لزوجته وأولاده الذين أصبحوا شبابا، ولم يقل لهم إلا كلمة واحدة تلخص ريعان إنسانيته بداخله: أنا آسف.

ستيف ماكوين كان انسانا بالدرجة الأولى لحظة اختطافه الفيلم، قبل أن يكون مخرجا، عدسة سينمائية زاويتها لم تخرج درجة واحدة عن الواقع الأليم، بأعلى معايير المصداقية والشفافية، كان لا بد لها أن تشهد كل هذا الجدل والاحتفاء العالمي والسينمائي بالفيلم، طاقم التمثيل لم يكن أقل من شيواتل ايجيوفور براعة، بدءا من مايكل فاسبندر، ومرورا ببنديكت كومبرباتش، وبول دانو، وبول جياماتي، وسارة بولسون، والفري وودارد، وانتهاء ببراد بيت صاحب «الطلة» السريعة في الفيلم ذات الأثر البالغ.

التصوير والموسيقى والمؤثرات الصوتية جميعها عناصر ساعدت كثيرا في تجسيد كل ما يريده ستيف ماكوين، الذي لخص كل ذلك باقتناصه أهم وأرفع جوائز الغولدن غلوب قبل أيام، وترشيحه لجوائز عن عشر فئات في الأوسكار القادم على الأبواب.

back to top