بقارئه يموت ويحيا الكتاب!

نشر في 10-08-2014
آخر تحديث 10-08-2014 | 00:01
 د. ساجد العبدلي القراءة ميثاق سخاء بين المؤلف والقارئ؛ كلاهما يثق بالآخر ويعتمد عليه. "الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو" صاحب "اسم الوردة".

***

أتخيل الكتاب كائناً حياً، وكأي كائن حي، يمكن له أن يزهو ويسمو ويتألق ويزهر، وأن يتقهقر وينطفئ وربما يموت، حياة الكتاب تمر بمرحلتين فاصلتين هما الأساس؛ مرحلة الكتابة، ومرحلة القراءة، وكل ما سوى هاتين المرحلتين متفرع عنهما ولا قيمة له دونهما.

أتصور الأمر وكأن الكاتب "خيميائي" انكبّ على مزج عناصره الفكرية ومركباته الثقافية ومواده الإبداعية المختلفة ليجعل منها سحر كتاباته ونصوصه، وما إن صار كل المخلوط في الأوراق حتى تحول إلى السكون بانتظار قارئ قادر على فك الرموز. كل نص يظل حبيس الحالة الساكنة الخاملة إلى أن يصير إلى قارئ ما.

في اللحظة التي يقع فيها النص بيد القارئ فإنه يدخل في مرحلته الحياتية الفاصلة الأساسية الثانية، مرحلة القراءة، وحينها فإما أن يحلق به على امتداد آفاق المعنى بأجنحة فكره وفهمه وتأملاته فيبث في النص الحرارة والحياة مجددا، أو أن تستغلق عليه الآفاق فلا يلامس المقصود ولا يبلغ المراد، فيظل النص في حالة السكون الباردة، أو لعله يسيء فهمه ليتبدد أو يموت بين يديه، أو ألا يوافق ذائقته فيتركه وربما يزدريه!

إذن فالقارئ شخصية أساسية في كل نص بين يديه، بل هو الشخصية الأساسية في المرحلة الفاصلة الثانية، تماما كما كان الكاتب هو الشخصية الأساسية في مرحلة الكتابة، مرحلة النص الفاصلة الأولى، ولا يمكن لذلك لأي كاتب أن ينجح حقا إلا من خلال علاقته بالقارئ لأن القارئ هو من يعيد نصوص الكاتب إلى الحياة.

ويمكن أن نستنتج هنا كذلك أن القدرة على بث الحرارة والحياة في أي نص تختلف من قارئ لآخر وفقا لعوامل عديدة، ومن هذه العوامل قدرات القارئ اللغوية ودرجته الثقافية وقراءاته السابقة ونضوجه الفكري ومزاجه ونفسيته حين القراءة وغيرها، والقراء على مراتب وفقا لهذه العوامل. من القراء أولئك المحلقون على ارتفاعات عالية في سماء التفكر والتأمل والفهم والاستنباط والاستنتاج والاستفادة من النص الذي بين أيديهم، نزولا إلى مرتبة دنيا، حيث يقبع قارئ يموت ذات النص بين يديه لضعفه وعجزه هو لا ضعف النص وعجزه بالضرورة!

ومن زاوية أخرى، وبما أن هذه العوامل مختلفة بين جمهور القراء لا محالة كما ذكرنا، فمن البدهي أن ندرك استحالة وجود الكتاب المناسب لذائقة جميع القراء، بما فيها تلك الكتب التي تفوز بالجوائز أو تتصدر قوائم الكتب الأكثر مبيعا، لأن للكتاب الواحد تأثيراته المختلفة في جمهور القراء لاختلافهم، كما تبين، بل سأزيد بأن من الممكن- وهذا مُشاهد كثيراً- أن يكون لذات الكتاب تأثير مختلف في نفس القارئ إن هو عاد إلى قراءته بعد زمن اختلفت فيه تأثيرات العوامل المذكورة عليه، وإن نحن أضفنا عامل النسيان الطبيعي في كل الناس على هذه المعادلة، فيمكن القول إن كل قراءة لكتاب، ولو لنفس الكتاب بعد فترة من الزمن، هي تجربة تثقيفية مختلفة عما سبقها، ستكون غنية بالجديد دائما.

ولهذا فإن رأي شخص ما عن كتاب ما ليس سوى قطعة منه، ولن تنطبق بالضرورة على رأي غيره لواقع الاختلاف بين الناس.

على القارئ أن يصنع آراءه النهائية عن الكتب، وربما عن كل شيء آخر في هذه الحياة، عبر النظر فيها بنفسه مباشرة وليس من خلال غيره.

back to top