لوحة سليمان
توقف حديث (عمر)، فقد طال حديثنا ونقاشنا كثيراً حول القصة ومواضيع أخرى، شعرنا بالجوع وكانت الساعة في تلك اللحظة الثامنة مساءً، مرت عدة ساعات بسرعة وكان الاقتراح المتفق عليه منا جميعاً هو أن نخرج للعشاء في أحد المطاعم، ومن ثم نذهب لأحد المقاهي الباريسية بجوار الفندق، لم تقع القصة وقع التصديق الكُلي بل وقفت على نافذة (الخيال)، وكنت أحاول جاهداً التصديق وإقناع عقلي بما شاهدته من إثباتات، والتي سأورد البعض منها وما حصل فيها، إلا أنني أقف حائراً، فمن بين جميع البشر والملوك والأغنياء وعلماء الآثار ورجال الدين، كيف وصلت لوحة من كنز بلقيس إلى هذا الرجل؟ انتهى ذلك اليوم في الساعة الرابعة فجراً، وفي كل حين أسأل (عمر) عن القصة وعن موقف ما، وأقوم بربطه في ما قال سابقاً، محاولة مني لإثبات مصداقية ما يقوله.كانت رحلة ذهابنا في الغد إلى (أمستردام) عبر القطار، أنا والأصدقاء (محمد، فهد، سلطان)، وجرى الاتفاق والتنسيق بيني وبين عمر بأن التواصل سيبقى عبر التلفون، صحوت باكراً واستعدينا للذهاب لمحطة القطار، وما إن صحوت وأنا استرجع بعض ما ذكره عمر عن قصة اللوحة، ومن لحظة صعودي للقطار، أخرجت جهازي المحمول وقمت بالبدء في كتابة رؤوس أقلام حول القصة...
كان في مخيلتي أن القصة لن تحظى بالمصداقية عند طرحها لعدة أسباب، ومن هنا بدأت خطوة جادة في البحث عبر الشبكة العنكبوتية، وعن جميع ما يخص النبي سليمان وبلقيس وسلالة النبي سليمان، أيضاً قمت بشراء عدة كتب من تفاسير وقصص للأنبياء والتاريخ، وبحثت عن البلد إثيوبيا واستخلصت معلومات أثرت هذه القصة وأخذت مني من الوقت والجهد على مدى سنة تقريباً، قد تكون بعض أحداث القصة ضرب من الخيال أو أضيف عليها الكثير من الخيال الذي أضاف للقصة الكثير ليس لسبب غير (حاجة في نفسي).كان التواصل مع (عمر) متفرقاً أو شبه أسبوعي، كان في بعض الأحيان يتحدث بطلاقة، وفي بعض الأحيان متحفظاً جداً، وفي هذه الحالة أؤجل النقاش إلى وقت آخر، وفي بعض الأحيان يكون بين الحالتين فاضطر إلى فتح النقاش والسؤال عن بعض الحقائق، والتأكد من بعضها الآخر. وكانت المعطيات إجابات مقتضبة مختصرة اضطر إلى إعادة ترميمها والإضافة عليها ومحاولة طرحها بأسلوب فصيح بعيداً عن العامية. كنت حريصاً كل الحرص أن تخرج القصة بشكل جميل مقنع صادق متناغم، فأضفت المعلومة والأدب وشيئاً من الخيال (الصدق) والتغيير الجائز لأسباب اجتماعية.(تقرير وحدة الآثار والمتاحف عن اللوحة)هي عبارة عن لوحين من الزجاج الشفاف بطول 130 سم وعرض 70 سم، مثبتين على بعضهما ببروازين من الخشب مرسوم عليهما من الداخل أشكال أدمية وزخارف بديعة، ومصفوفة بداخل الرسوم أحجار كريمة وصغيرة جداً، متساوية في الحجم، ذات ألوان هادئة ويمكن مشاهدة اللوحة من الجهتين، وتظهر لمن يراها أول مرة أنها غير مهمة، فإذا دقق في النظر يرى العجب.تاريخ اللوحة غير معروف، ويقال إنها مهداة من نبي الله سليمان بن داوود إلى الملكة بلقيس ملكة سبأ، وإن الجن قاموا برسمها وصف الأحجار الكريمة عليها في ذلك التاريخ قبل ثلاثة الاف سنة تقريباً... الفصل الأولمنذ ما يقارب الشهر وفي أحد المطاعم بمدينة (الرياض) لقاء جمعني مع اثنين من الأصدقاء (محمد، وسلطان)، أصدقاء جمعتنا في السابق سنوات الغربة لطلب العلم في ذلك البلد المختلف عليه سياسياً واجتماعياً، والمتفق عليه أنه حفظ كرامة الإنسان المواطن، وقام على إعطائه حقوقه، وهي الولايات المتحدة الأمريكية المحبوبة المذمومة!!..كان ذلك اللقاء الجميل الممتع الذي أوقد نار الذكريات في تلك الأيام، تلك الذكريات المرة منها والحلوة، تأججت نار الشوق والحنين لتلك الفترة الزمنية، تعالت الضحكات والتذكير بالمواقف السابقة، الجميل والسيئ منها والمحرج، تلك الذكريات التي أحاطت رحلة المسيرة العلمية بالخلو من كل قيد يقيد الحرية الفكرية، أيضاً من كل قيود وطقوس اجتماعية والتي خلاصتها أنجبت أجمل المغامرات...وما كانت تلك النار لتهدأ في ذلك اليوم، حتى أطفأناها بالتنسيق والاتفاق لرحلة سياحية خارج السعودية، لعل وعسى أن يعيد شريط الزمن والذكريات نفسه، وبالفعل ودون تردد من الجميع، كان الاتفاق الوليد تلك اللحظة أن نلتقي في (باريس) بتاريخ 2/4/2012، وكان ذلك التاريخ يتزامن مع انتهائي من رحلة تعليمية إلى (لندن)، وأيضاً انتهاء مهمة سياحية!! لصديقي (محمد وسلطان) في إيطاليا؛ لذا تم تحديد الوقت والمكان...ذهبت إلى لندن قبل موعد لقائنا بحدود ثمانية أيام، وهناك أيضاً كان لدي موعد تم ترتيبه للقائي مع (خالد وسعود)، هم أقرباء لي وأصدقاء بل هم أخوة منذ الطفولة، الأقدار جمعتنا مرة أخرى بعد فراق طويل، هما متواجدان هناك لمهمة دراسية، وأقصد بالفراق الطويل بيننا هو لقاء في مثل تلك الأجواء (السفر)، قضينا عدة أيام جميلة، زمناً بعيداً لم يجمعنا سفر ومتعة، ربما لظروف الأسرة والدراسة والحياة، ضمت الرحلة كل شيء من أبواب المتعة، قمنا بزيارة عدة أماكن في لندن، نلتقي في الرابعة عصراً ونفترق في الرابعة فجراً...مرت الأيام بسرعة البرق، وهي عادة الأيام السعيدة سرعان ما تنجلي بهدوء ومتعة، بعكس التعيسة التي يميزها البطء، أتى يوم 1/4/2012 وكان الغد موعد اللقاء مع الأصدقاء في باريس، تسللت إلي الحيرة والتردد للذهاب من جهة، ومن جهة أخرى موعداً التزمت به لا مجال للاعتذار، حيث قمنا بترتيب حجز السكن وغيره، حاول (خالد وسعود) جاهدين ثنيي وإقناعي بالعدول عن قرار الذهاب وترغيبي بالجلوس، في نفس اللحظات اتصال من (محمد وسلطان) لتأكيد اللقاء غداً في باريس..!!كأنهما يستعمان لحواري مع (خالد وسعود) وكأنها رسالة لإزالة التردد، أجبت مرحباً وفي ثنايا حديثي مع (سلطان) أخبرني أنه انضم لصحبتهم صديق آخر وهو (فهد)، حصل وأن قابلته لمرة واحدة في السابق، وكان انضمامه للرحلة متأخراً، لكن مفيد ولا أنكر أنه أحد الأسباب بعد الله في كتابة هذه القصة...ترددت فعلاً في الذهاب، شحذت همة التفكير لإيجاد عذر مقنع أقنع به الزملاء، وأتخلص من الذهاب إلى باريس، ثم يقاطع هذا التفكير صوت يهمس في داخلي بلهجته النجدية متخذاً من المبادئ مرتكزاً له (أفأ تجحد ربعك وأنت معطيهم كلمة)...كانت الساعة الرابعة عصراً، كنت مستلقياً على سرير الغرفة في أحد فنادق لندن القريبة من شارع (Oxford)، وكان (خالد) مستلقياً على الصوفة يتابع أحد البرامج التلفزيونية البريطانية، كنت أتصفح الإنترنت، أبحر وأتنقل من صفحة إلى أخرى، حتى وقفت عند أحد المواقع الخاصة برحلات القطارات، دون قصد، وأتوقع أن هناك شيئاً ما في اللاوعي قادني لذلك. تنقلت في اختيارات الموقع، تصفحت الرحلات والأوقات، وجدت رحلة إلى باريس في الغد عند الساعة 3 عصراً، قمت باختيار الرحلة وإدخال معلومات الحجز، ودفعت المبلغ ببطاقة الفيزا، نسيت ما تم الاتفاق مع (خالد وسعود) لا شعورياً، هممت بترتيب حاجياتي ( وخالد) موجه أنظاره إلي مستغرباً وكأن ما أقنعاني به هو و(سعود) لم يكن، سألني مبتسماً: هل قررت الذهاب؟ أجبت نعم دون تبرير قرار سريع تم بلحظات، رغم أني كنت غارقاً في التفكير وكيفية التخلص من تلك الرحلة إلى باريس، ورغم المتعة الحقيقية التي وجدتها في لندن الباقية معي حتى لحظة كتابة هذه القصة..عند الساعة الثانية عشرة ظهراً من يوم الغد، أي قبل الرحلة بحدود ثلاث ساعات تقريباً، ذهبت إلى محطة القطار، أفضل الذهاب باكراً لعدة أسباب: أحدها لتحاشي أي إشكالية قد تقع كازدحام الطرق وغيره، أيضاً هناك متعة حقيقية ألتمسها في أغلب المحطات الأوروبية، الأجواء والأنشطة والمطاعم والمقاهي والمحلات التجارية الأخرى، تلك الأجواء تأخذك إلى درجة أنك تريد البقاء في المحطة لمدة أطول، منها لقراءة كتاب تحمله معك، وقد يحدث أن تتعرف على شخص ما من الجلوس، ممن هم من حولك، وتستكشف من خلاله معلومة جديدة عليك أو تنشئ صداقة معه، الحيوية التي تملأ تلك الأماكن جداً ممتعة، أتذكر في ذلك اليوم كان في المحطة عروض لسيرك مصغر متنقل وممتع، أيضاً كان هناك عرض للتسويق على كتاب مجاني قاموا بإهدائي نسخة منه، مر الوقت بسرعة، اقترب وقت الرحلة، وكان المؤشر هو فتح البوابات للدخول إلى القاعة التي تسبق ركوب القطار، أتت اللحظة وركبت القطار، كنت قد حددت اختيار المقعد عند الحجز والذي كان بجانب النافذة...