«الأُفق} لباتريك موديانو... صندوق ذاكرة الحب

نشر في 09-06-2014 | 00:01
آخر تحديث 09-06-2014 | 00:01
في إحدى مقابلاته قال الروائي الفرنسي باتريـك موديانـو إنه يرى {الحياة عبارة عن مجموعة من الصور القديمة في صندوق الذاكرة}، ويكتب {كسـائق يقـود فـي الضباب}. والحال أن قوله ينطبق على قراءة روايته {الأفق} المترجمة حديثاً لدى دار {ضفاف} اللبنانية ومنشورات {الاختلاف} الجزائرية، بترجمة توفيق سخان.
تكمن الضبابية والسرمدية في رواية {الأفق} لباتريك موديانو في أنه يكتب عن لا شيء، وربما عن لا أحد.

 لا يستسيغ الكاتب كثرة الحديث، فهو يدهش من هؤلاء الناس الذين يجيدون الكلام، ويكتب ليكتشف ذاته، أو يكتب عن صورة ويستلهم واقعه وحياته الشخصية، ويمزج بين السيرة والأحداث، وتخيله كله مبني على تنشيط ذاكرة التخطيط والأمكنة التي تكاد تكون لامرئية.

 يرصد الكاتب حركات وسكنات الشخصيات التي تأهل بها الأماكن، شبحية أو عابرة أو مستلة من خرائط وزواريب وأمكنة، هذه المشهدية في رواية تخلو من الأحداث لصالح السرد، تحتاج إلى صبر في القراءة، وتدقيق في كل جملة عن مدينة باريس المحكومة بالغفلية والفردية المطلقة.

أراد المؤلف روايته عاطفية بعد سلسلة أعمال له جمع فيها دائماً مسألتين: البحث عن الهوية (الضائعة) مقرونة بقضية عصرية وهي الشعور الإنساني الفردي بضعف الإنسان أمام الفوضى والعبثية والاستهلاك في زمن الرأسمالية. يعطي موديانو في روايته أهمية قصوى لتفاصيل الحبكة وألاعيب الخيال، يجعل القارئ في تقص وصبر وملل للولوج في متن الرواية، شخصياته تعيش في إيقاع المطاردة والخوف، والريبة، والانكفاء على الذات، والبحث طبعاً عن ملاذ لا يوجد.

هكذا يتأرجح نص موديانو من السرد السرمدي الضبابي العاثر و{صندوق الذاكرة} الإيحائي الشذري، فهو يقول في {الأفق}: {توازي هذه النتف من الذكريات سنوات عمرك وقد شقت مقاطع الطرقات مسار حياتك وشرعت أمامك المخارج تلو المخارج لدرجة تشعر بحرج الاختيار بينها. كانت الكلمات التي يملأ بها دفتر مذكراته تشير إلى المقال المتعلق بـ{المادة المظلمة} والذي كان بعث به إلى دورية تعني بمجال الفلكيات. خلف الأحداث المحددة والوجوه المألوفة يقبع إحساس بكل ما صار لاحقاً مادة مظلمة: لقاءات قصيرة، مواعيد لم تتحقق، رسائل ضائعة...}.

قصص شاحبة

 يستعيد المؤلف مقاطع ربطته بأفراد، كل منهم يعيش ويملك قصته الخاصة، الغامضة، الشاحبة، والواقعة على طرف قصي من المجتمع، لأن أصحابها، مثل مارغريت لوكوز وميروف وبويافال وبروتيل، والسارد نفسه بوسمان، إنما يعيشون حياة خلفية وباهتة ورتيبة، بلا طموح، خارج الضغط الاجتماعي واليومي والاستهلاكي والفردي في مدينة باريس التي قال عنها موديانو: {باريس التي عشت فيها والتي أدرج طرقاتها في كتبي لم تعد موجودة. لست أكتب إلا كي أستعيدها. ليس في الأمر أي نوستالجيا، {فأنا لا أتحسر على الذي انوجد من قبل. غير أنني ببساطة، جعلت من باريس مدينتي الباطنية، بلدة {الحلم}. يتلاشى فيها الزمن وتتراكب فيها العصور. وحيث يتجسد ما سماه نيتشه بـ{العود الأبدي}. من الصعب جداً علي إذاً أن أغادرها الآن. إن ذلك ما يجعلني أستشعر مراراً بأنني لا أحب أن أكرر نفسي وأن لا أراوح مكاني}.

موديانو الذي اهتم في رواياته بالأشخاص الذين يبحثون عن جذورهم الضائعة، اختار في روايته «الأفق» أن يكتب عن قصة حب تمتد في ثنايا النص بشكل متواتر ومتصاعد، البطلان جان بوسمان ومارغريت لوكوز في العشرينات من العمر يعربان عن ضياعهما في بداية الرواية في باريس في مرحلة قلقة متوترة وماضية وهي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يقعان في الحب في لحظة لقائهما الأول، وفي الوقت نفسه كان يدركان أن حبهما سيكون مستحيلاً، هذا الحب ينقطع بطريقة فجائية في ظروف قاسية صعبة، لكن يستمر في الذاكرة داخل كل واحد منهما. وبعد أربعين عاماً وحيث لم يعد يوسمان يقوى على فراق مارغريت، يذهب للبحث عنها في مسقط رأسها علها عادت الى هناك، ولتبدأ حياة أخرى وفصولاً جديدة هي فصول صندوق الذاكرة.

سيرة

وُلد موديانو عام 1945 ونشر روايته الأولى {ميدان النجم} وهو في الثالثة والعشرين. حصلت رواياته على أهم الجوائز الأدبية في فرنسا وخارجها. نشر موديانو في خلال السنوات الأربعين الماضية قرابة عشرين رواية من بينها: {دائرة الليل- 1969، شوارع الحزام- 1972 (جائزة الأدبية الفرنسية)، المنزل الحزين- 1975 (جائزة المكتبات)، كتيب العائلة- 1977، شارع الحوانيت المعتمة- 1978، شباب- 1981، أيام الأحد- 1984، مستودع الذكريات- 1986 ، دولاب الطفولة- 1989، سيرك يمر- 1992، محلب الربيع- 1993، بعيداً عن النسيان- 1994، دورا بروريه- 1997، مجهولون- 1999، الجوهرة الصغيرة- 1999، حادث مرير- 2003، مسألة نسب- 2005، في مقهى «الشباب» - 2007. وترجمت مجموعة من أعماله إلى العربية في بيروت والقاهرة.

وكان باتريك موديانو قد حاز أبرز الجوائز الأدبية في فرنسا: جائزة غونكور في العام 1978 وجائزة الأكاديمية الفرنسية الكبرى للرواية في العام 1972 وجائزة روجيه نيمييه في عام 1968.

back to top