«داعش»... الهرب أو الموت!

نشر في 16-08-2014
آخر تحديث 16-08-2014 | 00:03
تسيطر الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على المدن في سورية والعراق بوتيرة مقلقة، مما يدفع عشرات الآلاف من المسيحيين والأيزيديين إلى الهرب. بدأت الولايات المتحدة بتنفيذ ضربات جوية، إلا أن الإسلاميين يستغلون عدم الاستقرار في كلا البلدين. {شبيغل} تصف هذه المشاهد.
باستثناء بضعة عصافير تتحدى حر منتصف النهار القاتل، كانت الجبهة هادئة مع اختباء المقاتلين الأكراد في ظلال الجروف العالية. فجأة، تُسمع أجزاء من أذان يوم الجمعة على ضفاف نهر الفرات. {توحدوا، اقتلوا أعداء الإيمان}. كانت هذه كلمات مؤذن شوشتها مكبرات الصوت التي يعشقها المجاهدون. فبدت هذه العبارات مخيفة.

على طول النهر، احتشد مجاهدو داعش لشن الهجوم التالي. على بعد أمتار قليلة فوق التلال الجرداء التي تحرقها الشمس، يجلس الأكراد وهم يشعرون كما لو أنهم انتقلوا إلى موقع تصوير فيلم رعب.

يسأل مقاتل شاب كان قبل بضعة أسابيع يعمل أمين صندوق في متجر: {ماذا يريدون منا؟ يتابع هؤلاء الرجال المجانين الهجوم، ولا يتوقفون عن التقدم نحونا حتى بعد تعرضهم لطلق ناري. أصبت أحدهم مرتين، ولم يتوقف إلا بعدما أطلقت النار على رأسه. لا شك في أنهم مجانين. قدِموا إلى هنا ليموتوا}.

عودة إلى الحرب العالمية الأولى

كوباني، أو عين العرب باللغة العربية، منطقة كردية صغيرة في شمال سورية تقع على الحدود مع تركيا. منذ يناير، تحاصرها داعش لأن كوباني تقع مباشرة وسط الخلافة التي أعلنتها هذه الميليشيا الإرهابية. خلال يوليو، كان نحو ألف مقاتل متسلحين بالدبابات والأسلحة المضادة للطائرات ومدفعية الهاون يهاجمون كل ثلاثة أو أربعة أيام الأكراد المتحصنين في التلال. ولم يستطع الأكراد الصمود إلا لأنهم بدأوا، في مطلع هذه السنة، بحفر الخنادق وتشييد حصون لها سطوح إسمنتية. وتذكر الجبهات في هذه المنطقة محاور القتال خلال الحرب العالمية الأولى.

ولكن في أغسطس، هدأت هذه الجبهة في شمال سورية فجأة بعد مقتل نحو مئة مقاتل من الأكراد وخمسمئة من مسلحي داعش. فشعر المحاصرون أن هذا الهدوء غريب، إلى أن أدركوا أن القوة الجهادية الأساسية انتقلت إلى منطقة تبعد نحو 300 كيلومتر إلى الشرق في شمال العراق.

بعد فترة طويلة من الهدوء النسبي، فاجأ مقاتلو داعش بشن هجوم كبير. وفي غضون أيام، استولوا على مدن عراقية كان يحميها مقاتلو البيشمركة الأكراد. فاستولوا أولاً على مدينة سنجار التي تقع غرب الموصل على مقربة من الحدود السورية. ومن ثم سيطروا على مدينتي قرقوش وبرطلة المسيحيتين قرب الموصل. وبحلول يوم الجمعة، كان المقاتلون قد وصلوا إلى منطقة تبعد 30 كيلومتراً فقط عن أربيل، عاصمة منطقة كردستان العراقية.

اعتبر المجتمع الدولي السرعة التي أُرغمت بها قوات البيشمركة على الانسحاب غير متوقعة البتة، وكذلك عمليات التهجير الواسعة التي نفذها مسلحو داعش.

تدخل أميركي

أرغم هذا التقدم السريع الولايات المتحدة، بعد 11 سنة على بدء حرب العراق ونحو ثلاث سنوات على انسحاب جنودها الرسمي، على التدخل ثانية عسكرياً قبل بضعة أيام. فقد نفذت طائرات من طراز F/A-18 وأخرى من دون طيار هجمات جوية في شمال العراق، مستخدمة قنابل موجهة بواسطة الليزر لتستهدف مدفعية جوالة لمقاتلي داعش بغية وقف تقدم المقاتلين نحو أربيل. اتهم وزير الخارجية الأميركي جون كيري الإسلاميين بتنفيذ {أعمال عنف مستهدفة تحمل كلها علامات وإشارات الإبادة الجماعية المخيفة}. لذلك لا بد من وقفها، وفق كيري. بعد الأخبار والصور المحزنة التي يظهر فيها الأيزيديون والمسيحيون وهم يهربون، دان مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع هذه التطورات.

كان مقاتلو داعش قد وصلوا إلى سنجار قبل أسبوع تقريباً من يوم الأحد الماضي. ينتمي سكان هذه المدينة العراقية بغالبيتهم إلى الأيزيدية، دين قديم سبق الإسلام تعود أصوله إلى الزرادشتية ويعبد أتباعه سبعة ملائكة، أحدها ملاك طاووس، بالإضافة إلى الله. لذلك لاحقهم الإسلاميون المتشددون لأنهم يعتبرونهم {عبدة الشيطان}.

دافعت القوات الكردية عن المدينة لبضع ساعات قبل أن تنفد منها الذخيرة. ولكن لم نستطع التحقق من التقارير التي تحدثت عن قتل مسلحي داعش مئات أو حتى أكثر من ألف أيزيدي. لكن الخوف انتشر بين الناس نتيجة الصور وأشرطة الفيديو الوحشية التي نشرتها داعش على شبكة الإنترنت. فقد ظهر في بعضها ضحايا قُطعت رؤوسهم أو قتلوا رمياً بالرصاص. وهكذا حوّل هؤلاء المقاتلون أخبار وحشيتهم إلى سلاح.

هرب جماعي

هرب السكان في مواكب طويلة من الآليات إلى مدينتي دهوك وأربيل الكرديتين اللتين تقعان على بعد 200 كيلومتر إلى الشرق. ولكن لم يستطع الجميع النجاة. فمن لا يملكون آليات أو انتظروا طويلاً قبل الهرب لم يستطيعوا الهرب إلا إلى الجبال المجاورة، وهي صخور جرداء لا ماء فيها ولا طعام.

الأسبوع الماضي كان الآلاف محتجزين هناك بسبب الحصار الذي فرضه المجاهدون. وصف خضر درويش سليمان، أب عائلة يزيدية هاربة، عبر الهاتف الخلوي الوضع قائلاً: {في هذا المكان 700 عائلة، وقد مات ستة أشخاص بسبب العطش، ثلاثة منهم أولاد. لا يتوافر لنا أي ماء أو طعام، لا شيء مطلقاً}. قال إن الناس يخافون العودة إلى منازلهم. وأضاف: {يقتلوننا}. ويوم الجمعة الماضي، رمت طائرات من الولايات المتحدة وغيرها من الدول الإمدادات الإنسانية فوق الجبال، كما فعلت القوات الجوية العراقية سابقاً. ولكن في تلك المرحلة لم يعد بالإمكان التواصل مع سليمان عبر الهاتف.

في شهر يونيو، شهد الوضع في قرقوش، مدينة مسيحية تقع على بعد 30 كيلومتراً من الموصل، تبدلاً جذرياً. يعيش في هذه المدينة نحو 40 ألف مسيحي، وتضم 12 كنيسة ومسجداً واحداً ، سافر أحد مراسلي شبيغل إلى قرقوش وروى قصة سلام كيخوا، كاثوليكي في الحادية والثلاثين من عمره. لكن المنزل الصغير الذي كان يعيش فيه مع أهله عند مدخل المدينة بات اليوم مهجوراً. فقد هربت العائلة في الثامنة مساء الخميس الماضي. ففي تلك اللحظة سيطر المجاهدون أخيراً على قرقوش.

في الأيام التي سبقت ذلك، راح سلام ينشر قصصاً مخيفة على موقع فيسبوك من بلدات مجاورة أرسلها إليه أصدقاؤه. كذلك عمل مقاتلو داعش على ترهيب سكان قرقوش، قاطعين عنهم الكهرباء والماء. كتب سلام: {لا أريد أن أصبح لاجئاً وأضطر إلى العيش في بلد آخر لسنوات}. وأضاف أنه هو وعائلته أرادوا البقاء في مدينتهم قدر المستطاع.

أخبر سلام قصته عبر الهاتف من أربيل. كان صوته يرتجف من التعب ونقص النوم. حسبما أخبر، سقطت قذيفة قرب منزله. فرأى سلام الغبار يتصاعد وسمع الناس يصيحون ثم يهربون. قال: {سمعنا قتالاً محتدماً طوال اليوم. وبعد ساعات فرغت الشوارع بالكامل. سعت قوات البيشمركة جاهدة إلى الاحتفاظ بالمدينة. ذكر سلام: {كنا خائفين جداً، حتى إننا لم نستطع التنفس}. مع بدء انسحاب المقاتلين الأكراد في تلك الأمسية، راح الناس يتركون منازلهم. فركب سلام وأهله السيارة مع بعض جيرانهم. وهكذا هرب عشرات الآلاف من قرقوش. وقد استغرقت رحلتهم إلى أربيل ساعات عدة، قاطعين نحو 30 كيلومتراً.

يعيش سلام اليوم مع سبع عائلات أخرى في منزل قريب له في العاصمة الكردية. ويخبر أن كثيراً من العائلات العراقية المسيحية لا تملك مأوى. تمكن من التحدث إلى بعض المعارف الذين اختبأوا في مسجد قرقوش الوحيد. فأخبروه أن مقاتلي داعش رفعوا الراية السوداء فوق المدينة وأمروا المسيحيين المتبقين كلهم بالرحيل. يقول سلام: {الهرب أو الموت: ما من خيار ثالث}.

نصحت الحكومة البريطانية مواطنيها أخيراً بمغادرة أربيل بسبب تقدم مقاتلي داعش وبسبب القلق من أن تنفد سريعاً ذخيرة البيشمركة. في يونيو، أُمر المحاربون الأكراد ألا يُطلقوا النار إلا على المقاتلين القريبين منهم بسبب النقص في الذخيرة. لكن هذه المخاوف بدأت تهدأ اليوم بعدما ذكرت التقارير أن الولايات المتحدة تزوّد البيشمركة مباشرة بالسلاح والذخيرة. كذلك تفكر الولايات المتحدة في طرق ممكنة لإجلاء المحتجزين في الجبال خارج قرقوش.

أتاحت هجمات داعش في يونيو للأكراد، بادئ الأمر، فرصة السيطرة على مناطق يعتبرونها كردية، ما يعني اليوم أن طول جبهة قتالهم ضد المجاهدين يبلغ راهناً نحو ألف كيلومتر. في مقابلة مع صحيفة {واشنطن بوست} في نهاية يوليو، أعلن مسرور البارزاني، المسؤول عن الأمن والاستخبارات في حكومة إقليم كردستان، أن الأكراد طلبوا المساعدة من الولايات المتحدة، إلا أنهم لم يحصلوا {على رصاصة واحدة. هذه الحقيقة التي يجب أن يعرفها العالم. وهكذا تركنا لنحارب كل هؤلاء الإرهابيين ولنواجه كل هذه المشاكل بمفردنا}.

ضبط الحدود

لكن الضربات الجوية الأميركية على مواقع داعش خلال نهاية الأسبوع ويوم الاثنين (فضلاً عن شحنات الأسلحة) تشير إلى أن الوضع بدأ يتبدل. لكن {خلافة} داعش، التي أُعلنت في نهاية يونيو، تمتد اليوم من شمال غرب سورية إلى ما يبعد نحو مئة كيلومتر عن بغداد. وباتت الحدود بمعظمها بين البلدين تحت سيطرة داعش.

صحيح أن داعش تُعتبر من مخلفات تنظيم القاعدة والمجموعات الجهادية الباكرة، حسبما تشير في حملات الترويج لأعمالها، لكن أوجه الاختلاف بارزة. فداعش تعمل بطريقة إستراتيجية، ولها هدف واضح: أن تسيطر على المقدار الأكبر من الأرض، المال، الناس، السلاح، والبنية التحتية.

استغل الأصوليون حالة الجمود التي دامت أشهراً بين مختلف الفصائل السياسية في العراق. وقد ازداد هذا الوضع سوءاً بسبب رفض رئيس الوزراء نوري المالكي التنحي، رغم مطالبة الأكثرية في البرلمان بذلك. فأعاق عناده تشكيل حكومة جديدة في بغداد. علاوة على ذلك أثار المالكي استياء العرب السنة والأكراد في شمال البلاد نتيجة أجندته الطائفية التي تدعمها إيران وتهدف إلى وضع البلد تحت السيطرة الشيعية. ويوم الاثنين الفائت، نشر المالكي فرق النخبة في قوى الأمن في بغداد، مشدداً على مطلب أن يعيّنه رئيس البلاد الجديد لتشكيل الحكومة.

ما كانت قوات داعش لتتقدم لولا تلقيها الدعم من العراقيين السنّة. يذكر المستشار الأميركي السابق علي خضري أن آمال السنّة خابت، فقرروا {عقد صفقة مع الشيطان}. لكن مقاتلي داعش لم يفرقوا كثيراً بين مَن يقررون مهاجمتهم. ففي الموصل مثلاً، أُوقف مسؤولون عسكريون سابقون وكبار رجال حزب البعث من عهد صدام حسين (سني) أو اختفوا من دون أثر. وفي تكريت، تعرض قادة مجموعات إسلامية سنية، مثل جيش نقشبندي للترهيب أو للقتل.

لم يشأ الرئيس الأميركي باراك أوباما التدخل في العراق في ظل غياب حكومة جديدة في بغداد. لكن الضربات الجوية الأميركية على مواقع داعش لن تحل بالتأكيد الصراعات الأساسية في هاتين الدولتين، صراعات مهدت الطريق أمام بروز الدول الإسلامية السريع في المقام الأول.

سمح غياب حكومة قوية في العراق وسورية منذ بعض الوقت لداعش بالعمل بحرية في أجزاء كبيرة من المنطقة. يراقب العالم ما يحدث. إلا أنه يستمرّ في تجاهله لما يحدث في شمال سورية. ما زالت داعش تفرض الحصار على كوباني، وقد أقفل الأتراك الحدود أمام الأكراد الذين يحاولون الهرب. في الوقت عينه، لا يحرك المسؤولون الأتراك ساكناً لوقف المجاهدين الذين يسافرون من مطارات تركيا وإليها، فيما يتابعون انتشارهم في المنطقة.

* كريستوف رويتر | Christoph Reuter & كاترين كونتز | Katrin Kuntz

back to top