زاوية النسيان
إنهم آتون. دقائق معدودة ويطلّون. دقائق معدودة ويضجّ الدار بهم. أسمع زمامير السيارات المواكبة. زمامير الفرح، يقولون. إنّها، بالأحرى، زمامير الضحك على الذقون. وأنا جالس هنا، على كرسي مخملي، أنتظر قدومهم. أبدو كمهرّج بهذه الكرافات التي تتدلى على طول صدري. لا أذكر حتى من عقدها لي وشدّها حول عنقي. حمية بعض {الغيورين} هي التي هبت على الأرجح لتهتمّ بي وترتّب شكلي، حتى يبدو مظهري لائقاً وأنا أستقبل ابني، العريس الأبله وعروسته الساقطة، وهما يدخلان بيتي.زواج ابني المفاجئ هذا، جاءني كبلاء حقيقي في آخر عمري. كنت أنتظر أي تصرّف منه إلا هذا الزواج، هذا الزواج العار. ضحكوا عليه، وزوّجوه من هذه الساقطة. ساقطة بكل ما للكلمة من معنى، وابنة ساقطة..
دقائق معدودة وتصبح في بيتي، تدخله من بابه الواسع، وتتربّع فيه، وعليّ أن أستقبلها بوجه بشوش وأنا في أبهى أناقتي، وأن أحتفي بقدومها وأتظاهر بأني سعيد.ما هذه المصيبة التي جلبها لي ابني الأخرق، إنها كأس مرّة عليّ أن أتجرّعها، فمن يبعد عنّي هذه الكأس يا الله؟!أصوات الزمامير تقترب، جدران البيت ترتجّ على إيقاعات الطبل والزمر. لقد أصبحوا حتماً في الساحة الخارجية لبيتنا الأثري الكبير.هذه هيصة العرس، ومن واجب كل مدعو أن يبدو فرحاً في هذه المناسبة ويشارك بأية طريقة كانت في بث جو الفرح حوله، حتى ولو اضطره ذلك إلى أن يتصرف كالمجانين. إنهم يشاركون ابني فرحته، كما يدّعون، الدجالون، المنافقون، لكن أقسم بأنهم يضحكون في سرّهم على هذا العرس المهزلة.أسمع زغاريد، من يزغرد؟ هل يستحق هذا العرس الزلاغيط؟. هذا ليس عرساً. هذا مأتم بالنسبة لي. هذا يوم أسود، لعين في حياتي. أشعر، وأنا انتظر على الكرسيّ المخملي دخول هذه الكارثة إلى بيتي بأن ناراً تشتعل في صدري، تحرقني، وأنا أشاهدها، عاجزاً عن فعل أي شيء لمنعها من الدخول، ومطلوب مني فوق كل ذلك أن أرحّب بها وأستقبلها مبتسماً، ولكن ماذا عساي أن أفعل؟ هل أقتل نفسي؟ ليتني أستطيع فعل ذلك، أن أختفي عن وجه هذه الأرض، ولا أرى هذه الكارثة تحلّ ببيتي. هل ستكون لي حياة بعد الآن؟ حياتي انتهت اليوم، وليتها انتهت فعلاً، ولكن كُتب لي أن أموت، من الآن وصاعداً كل يوم لأرى موتي يتكرر مع كل طلعة شمس، كلما وقع نظري على العاهرة، التي أتى بها ابني إلى بيتي عنوة، ودون مشورتي.قد أكون أستحق هذا المصير الأسود الذي ينتظرني. قد يكون مقدّراً لي أن تكون الحياة المتبقّية لي لأعيشها الأسوأ على الاطلاق، أن أشاهد عذاب موتي كل لحظة.هناك في التاريخ أمثلة حية عن هذا النوع من العذاب. إنه العذاب الذي ما بعده عذاب، العذاب الأكبر الذي لا يضاهيه في ضراوته أي عذاب آخر. هذا العذاب هو صناعة إلهية بحتة. الآلهة وحدها قادرة على ابتداع الشكل الأعنف للعذاب على الاطلاقإنه اختصاص الآلهة، عندما كانت تريد أن تقتصّ من أحد، كانت تبتدع له عقاباً أسطورياً، ملحمياً، إلهياً. كل عذاب كان ينتهي بالموت الاّ عذاب الآلهة، فكان لا يعرف الموت.عبقرية الآلهة كانت تمنع الموت الرحيم عن ضحيتها. لا تبقي لها أي شيء لتعيشه سوى العذاب، العذاب الذي لا نهاية له.أنا أتعرّض الآن لهذا النوع من العذاب. أنا أشبه الآن سيزيف المسكين، الذي عاقبته الآلهة بأن يتسلق جبلاً شاهقاً وعراً وهو يدحرج صخرة ضخمة، والذي ما أن يكاد يبلغ قمته وهو على آخر رمق حتى يرى نفسه وقد تدحرج بصخرته إلى الأسفل فيعاود الصعود من جديد، وهكذا إلى ما لا نهاية له، أو بروموتيه الذي عاقبته نفس الآلهة بأن قيّدته إلى صخرة، وسلّطت عليه طائراً جارحاً يأتي كل يوم فيشقّ صدره، ينتزع قلبه منه ثم يأكله، لكن بروموتيه لا يموت، ممنوع عليه الموت لأن قلبه يعود من جديد في صدره ليعود الطائر الجارح فينتزعه منه من جديد ويأكله، وهكذا أيضاً إلى ما لا نهاية له.سيزيف هو أنا الآن، وبروموتيه هو أنا أيضاً. نحن الثلاثة محكومون بأن نعيش عذاباً يومياً لا يحتمل، دون أن يكون بمقدورنا فعل أي شيء لوضع حدّ له، أو للتخفيف منه.هذه القصص عن سيزيف وبروموتيه كنت أحبها. كنت أظن أنها مجرد قصصٍ وجدت لتسلّينا ولتأخذنا إلى عالم آخر، عالم السحر والشعر والخيال، ولتعطينا ربما أمثلة واعظة وتحذيرية عن قدرات الآلهة اللامحدودة في الفتك بضحاياها عندما تنوي ذلك. لكنّي لم أتصوّر لحظة أن بإمكان هذه القصص الأسطورية أن تحدث لإنسان على أرض الواقع. ولكنها حدثت؛ إنها تحدث لي الآن، أنا الآن أعيشها بكل وحشيتها ولؤمها.أنا الآن أتعرّض لمهانة كبرى ما بعدها مهانة، ولا قدرة لي الآن، وأنا في هذا العمر المتأخّر على تحمّلها.أنا الآن غير قادر على تحمّل لفحة هواء باردة، إذا ضربتني على غفلة مني تطرحني أرضاً، فكيف بهذا الإعصار الذي يضرب بيتي! وهل بمقدور عجوز ينوء تحت ثقل سنينه مقاومته؟ {الله يهنيهم ويوفّقهم... مبارك ما عملته...} لا أسمع سوى هذه الكلمات، يرشقونني بها، تنزل على رأسي كالحجارة.يظنون أنهم يفرحوني بها، وهم لا يعرفون أو يعرفون، أن هذه الكلمات هي بمثابة نعي لي، وكأنهم ينعون لن موتي بها. ثرثراتهم لا تتوقف، تقتلني، ترفع ضغط دمي إلى درجة الانفجار، أشعر فعلاً بأني سأنفجر.الأقارب، الجيران، المعارف، يملأون البيت في كل ركن. يروحون ويجيئون. يشاركون الفرحة... هكذا يدّعون! بعضهم أرى وجوههم للمرة الأولى. ولكن لا عجب في الأمر. العرس هو جواز مرور للجميع. يدخلون بيتي باسمه، وباسم الفرح يستبيحونه، يصبحون جزءاً من البيت، يفعلون فيه ما يريدون.{الله يهنيهم... الله يهنيهم} على من يظنون أنهم يضحكون هؤلاء الأوغاد؟ كأنهم لا يعرفون وقع هذه العبارات التافهة على قلبي. كأنهم لا يعرفون أن هذه العبارات تطعن قلبي كالسكاكين. أظن أنهم جميعا مشاركون في هذه الجريمة. كلهم متألّبون ضدي. كلهم ضد هذا البيت الكبير. بودي لو أصرخ في وجوههم لو أقول لهم إن هذا العرس هو مسخرة، وإنهم يضحكون عليّ وعلى ابني، وإن رياءهم لا ينطلي عليّ؛ فما من واحد بينهم يجهل من تكون هذه العروس، هي عروس وسخة، ووجودها في بيتنا سيمرّغ رؤوسنا في الوحل، وسنكون مضحكة الجميع إلى الأبد.ها هم يعقدون حلقة دبكة في وسط الدار والحماس على أوجه. موسيقى الهوارة تدعو الجميع إلى حلبة الرقص، حتى زوجة رئيس البلدية تشارك في الدبكة. يا للعار! أليست نصف ساقطة هي الآخرى، أليست صديقة أم العروس؟ من سيمائهم تعرفونهم.أخبرني مرة أبو رياض بأنها كانت تخون زوجها مع ابن المختار، وأخبار أبو رياض تتّسم عادة بالمصداقية. لا يخبر أبو رياض قصة إن لم يكن متأكداً منها مئة في المئة. هاهي تتمايل بخصرها وتضرب رجلها بالأرض وتهيّص، تحاول أن تلفت أنظار المعجبين.لا أرى ابن المختار بين {الدبيكة}. ربما هو في صحبة العريس. ربما يكون من عشاق عروس ابني. من سيصدّق أن هذه العروس لا تزال عذراء؟وهذه لوريس، زوجة ميلاد الفران، بفستانها الذهبي المزركش، هي أيضاً تتغاوى وتحاول اصطياد أحدهم على الأرجح، هذه عادة لوريس منذ أن كانت في العشرين.اشتهرت لوريس بقدرتها على الإغواء. الرجال ينهارون أمامها بسرعة البرق، تجعل كل واحد منهم يظن أنه يمكنه الحصول عليها بكل سهولة، يكفيه بعض الذكاء وبعض «الملعنات» حتى تقع بين يديه.أبو رياض أخبرني يوماً بأنه رأى رجلاً غريباً يدخل بيتها في غياب زوجها، ربما تكون قد فعلتها؛ كل شيء وارد مع لوريس، ولكن أين زوجها ميلاد؟ لا أراه. هل تركته وحده في البيت وجاءت لتشارك وحدها العروسين، أو ربّما لتصطاد أحداً؟أما تلك التي تهز بوركها المتناسق مع إيقاعات الدف والدربكة، من تكون؟ إنها تتحرش بفؤاد إبن الرائد فواز، لم أرها يوماً في حيّنا. فمن تكون؟طريقتها في الرقص تدلّ بشكل قاطع على أنها مقرّبة جداً من أهل العروس، بيت العاهرات. لا بد انها آتية من هناك.كيف أوقعوا بابني؟ كيف أقنعوه بأن يتزوج ابنة شفيقة، صاحبة أوسخ صيت في كل المنطقة. شفيقة! من لا يعرف شفيقة؟ من لا يعرف بيتها المفتوح «للرايح وللجاي» والمعروف من القاصي والداني؟ هي واختها شهيرة، ومن لفّ لفّهما. الطيور على اشكالها تقع. الساقطات يتنادين ويأتين من كل حدب وصوب إلى البيت الذي يشرّع لهن أبوابه. أبو رياض يعرف بيتك تماماً يا شفيقة. فقد كان يتردد إليه مراراً كما أخبرني. «من يزور بيت شفيقة لا ينسى طيلة حياته هذه الزيارة، إنها زيارة العمر» حسب قوله.أعرفك يا شفيقة وأعرف أختك شهيرة. أبو رياض يقول إن أختك قتلت زوجها لتتفرغ للعمل «الشريف». قتلته وارتاحت منه لتصبح حرة. «إنه نصف رجّال» كما كانت تصفه. أصيب المسكين بشلل جزئي في فكه الأيمن الذي أصبح في جهة وبقية وجهه في جهة أخرى. رجل شبه مسخ، وعندما تأتي على ذكره لا تتورّع عن السخرية منه.» لو أن الشلل الذي ضربه اكتفى فقط بحنكه لكان الأمر مقبولاً، ولكنه أصاب في الوقت ذاته......، فلم يعد ينفع لشيء. «الرجّال اللي كان عندي كان رجّالاً بالإسم» فقتلته وارتاحت منه. يقولون إنها سمّمت له الأكل، ويقولون إنها أغوت الطبيب الشرعي ليذكر في تقريره أن سبب وفاته هو السكتة القلبية، وكان لها ما أرادت.لم يتكبّد أحد من عائلته مشقة التأكد من سبب موته، ولكن الجميع على ما يبدو كان يتمنى له الموت، فحياته أصبحت عبئاً عليه وعلى غيره، ووجهه «الألْوق» صار محط اشمئزاز الجميع.كان الجميع يشيحون بنظرهم عنه، لأن وجهه المقزّز لم يعد وجه إنسان، بل وجه مخلوق من الأفضل له ألا يعيش، وانتهى أمره بالنسيان. موته أراح الجميع. فمن سيسأل عنه؟ شفيقة! أنت لم تقتلي زوجك كما فعلت أختك شهيرة بزوجها.