إلى أي حد دمر سنودن النفوذ الأميركي؟
يشكل الأفراد الذين يستعملون شبكة الإنترنت العالمية لأغراض سياسية قوة جديدة ونافذة في السياسة الدولية، وتسمح لهم الإنترنت بالوصول إلى جمهور عريض لنشر خطاب مضاد يعتبر أن المسار الأميركي يهدف إلى تحقيق مصالح شخصية.
حاول علماء السياسة والخبراء الاستراتيجيون العسكريون تحديد استراتيجية كبرى جديدة للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة. لكن رغم تلك الجهود المتكررة، لم تكن النتائج مقنعة لأنها تنطلق على الأرجح من مفهوم خاطئ عن استمرار الدور الأميركي العالمي. يترافق الوضع السياسي الفوضوي الذي نواجهه الآن مع تصادم بين القيم والمصالح، وهو لا يشبه الخطر العسكري الذي يهدد الحرية من جانب الأنظمة الشمولية (التوتاليتارية) العدائية التي نستطيع التحرك ضدها والدفاع عن أنفسنا منها. في ظل الوضع الراهن، يبدو وكأننا مجرد منافس آخر على السلطة وغالبا ما تُقابَل أفكارنا، مهما كانت استثنائية، بالشكوك التي ترسخت نتيجة تسريبات إدوارد سنودن.ستكون الأضرار الناجمة عن التسريبات قصيرة الأمد، لكن يمكن أن يدوم الضرر الذي لحق بالنفوذ الأميركي بكل سهولة، إذ أدت التسريبات إلى أضرار تفوق ما نتصوره، فسنودين هو أحدث نسخة من مجموعة أميركيين ساذجين يظنون أنهم يفعلون الصواب ويكرهون الولايات المتحدة لدرجة تُعميهم عن المخاطر العالمية الكبرى. مثل برادلي مانينغ القليل الحظ، تم استغلال سنودين من الجهات التي تريد إضعاف النفوذ الأميركي. لقد اعتدنا على التصفيق لكل من يستعمل الإنترنت ضد الأنظمة الاستبدادية، لكن انقلبت تلك الأداة الآن ضد الأنظمة الديمقراطية. يشكل الأفراد الذين يستعملون شبكة الإنترنت العالمية لأغراض سياسية قوة جديدة ونافذة في السياسة الدولية، وتسمح لهم الإنترنت بالوصول إلى جمهور عريض لنشر خطاب مضاد يعتبر أن المسار الأميركي يهدف إلى تحقيق مصالح شخصية.الحرفة الاستثنائيةالولايات المتحدة استثنائية في تحديد مصالحها الشخصية كونها تخدمها على أكمل وجه حين تروج لنظام دولي مستقر يرتكز على حكم القانون، وتدابير منفتحة ومنصفة للتجارة، والالتزام بالحكم الديمقراطي وحقوق الإنسان. لا شك أن سجلها ليس مثالياً لكنه أفضل من أي بلد آخر على مستوى السعي إلى تطبيق قيم مماثلة. لكن تظن معظم الدول الآن أن الشرعية في الشؤون الدولية تشتق من الأمم المتحدة، وليس الاستثنائية الموروثة، فتشير ردة الفعل تجاه التسريبات إلى أن معظم العالم يشكك بمفهوم الاستثنائية كتبرير لأفعالنا.الاستثنائية الأميركية هي حرفة تاريخية من عالم لم يعد موجودا، فمنذ 70 سنة، قادت الولايات المتحدة تحالفا من الديمقراطيات لهزم الفاشية، ومنذ 25 سنة، هزمت نظاما توتاليتاريا ضخما مع التحالف الغربي نفسه، لكن لم يكن معظم سكان العالم أحياء ليشهدوا على هذه الأحداث وقد وجدوها غير مقنعة لشرح أننا لسنا مجرد قوة عظمى كغيرها أو قوة مهيمنة تسعى إلى مصالحها الشخصية الضيقة. تبدو الدعوة إلى احترام حق الدفاع عن النفس غير مقنعة لأن معظم الدول تظن أن الدفاع عن النفس لا يكون مبرراً إلا حين تتعرض سيادة الأراضي أو استقلال البلد السياسي للخطر، ولا تواجه الولايات المتحدة تهديداً مماثلاً. تشكك النخب في بلدان مختلفة بقدر ألمانيا والبرازيل بالسلوك الأميركي باعتباره يتعارض مع معايير سلوك الدول، فلا مفر من إضعاف الشرعية والنفوذ نتيجة الاختلاف بين رسالة الولايات المتحدة التاريخية وأفعالها الراهنة، والطبيعة الغامضة للصراع القائم اليوم حيث يصعب التمييز بين الخير والشر.لا تتعلق هذه الفكرة باعتبار الأفعال الأميركية منذ عام 2003 ضرورية أو صحيحة. لوضع استراتيجية كبرى جديدة، يجب التنبه بشكل أساسي إلى رأي الآخرين بها وطريقة تأثير ذلك الرأي على النفوذ الأميركي، فحين تُبلغ الرئيسة البرازيلية الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن تسريبات سنودين "سببت سخطاً عارماً وقوبلت برفض تام من الرأي العام في أنحاء العالم"، وكانت بمنزلة "خرق للقانون الدولي وإهانة للمبادئ التي يجب أن توجه العلاقات بين [الدول]"، هي تعكس تنامي النزعة إلى عدم تقبل القيادة الأميركية. تجربة فيتنامتتخذ البرازيل مقاربة متحفظة في تعاملها مع العلاقات الدولية التي تعكس مصالح تُعتبر ضيقة، فإذا لم تتعرض البرازيل نفسها لتهديد مباشر، فهي لا تتحرك. الهدف الأساسي من العلاقات الدولية هو كسب منفعة تجارية أو ترسيخ الهيمنة الإقليمية في حالة القوى الأكبر حجماً. يمكن لهذه المفاهيم أن تصف طابع السياسة الخارجية الأميركية في القرن التاسع عشر وربما تتابع توجيه السياسة الخارجية في بلدان عدة، لكن في البرازيل وأماكن أخرى، ثمة عنصر تفاعلي أيضاً وهو ينجم عن انزعاج من التحركات الأحادية القطب والتجاوزات الواضحة في الحرب على الإرهاب. نتيجة التحول إلى قوة عالمية وحيدة، ظهرت كيانات مضادة للسلطة الأميركية وانتشرت المخاوف في بلدان كثيرة مع الاقتناع بضرورة ألا تهيمن دولة واحدة على الشؤون العالمية، مهما كانت نواياها صافية.هذه المخاوف تضر بمصداقية القيادة الأميركية وشرعيتها. يشبه الوضع حقبة ما بعد فيتنام، كما حصل في تلك الفترة، ثمة عنصر يعكس فقدان الاحترام (لم تنجح المغامرة التي دامت 10 سنوات في العراق وأفغانستان في تعزيز مصداقية النفوذ الأميركي أو الأفكار الأميركية). تنشأ ردة فعل قوية تجاه الانتهاكات الظاهرية والحقيقية (من الجهات التي تميل إلى التصرف بعدائية). لكن بعد تجربة فيتنام، بقيت البلدان الديمقراطية تواجه عنصراً شائعاً وكانت تحتاج إلى القيادة الأميركية للدفاع الجماعي. هذا ما ساعد الولايات المتحدة على استعادة دور القيادة والنفوذ، لكن الوضع مختلف اليوم، فبسبب الأزمة السياسية المحلية في الولايات المتحدة، يمكن أن تتحول الاستثنائية الأميركية إلى مفهوم يجب تجنبه بدل التمسك به (مشكلة إغلاق خدمات الحكومة وأزمة الميزانية لا توحيان بالثقة في الخارج). من الواضح أن وضع الشؤون الدولية لا يدعم العودة إلى النفوذ العالمي بالسهولة التي كان يفعلها منذ 30 سنة.لقد ولى زمن التحركات الأحادية القطب لكن لم ينتهِ التنافس على الديمقراطية مع أنه بدا في مراحله الأخيرة مع انهيار الاتحاد السوفياتي، فثمة تحديات مباشرة على المبادئ والمؤسسات التي نشأت بعد عام 1945، بدءاً من تخبط منظمة التجارة الدولية وصولا إلى التشكيك بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان. في ظل هذا الصراع الجديد بين الأفكار، نواجه مجموعة ناشطة ومختلفة من الخصوم. هم مقتنعون بأن الولايات المتحدة هي إمبراطورية وأن الدافع وراء وجودها العالمي هو الحفاظ على سيطرتها، أو أنهم يستعملون هذه الحجة بفاعلية كبرى على الأقل، حصد هذا الخطاب المضاد لمفهوم الاستثنائية قبولاً واسعاً. وجاءت التسريبات لتدعم ذلك الخطاب مع أن الأثر النهائي للتسريبات هو تقوية النزعة الاستبدادية وانتهاك حقوق الإنسان.نحن نخوض مجدداً صراعاً بين الأفكار والقيم، فالمنافسة ليست عسكرية، ولا يمكن أن تتكل أي استراتيجية جديدة شاملة على الهيمنة العسكرية، لأن القوة والإكراه يترافقان مع نتائج عكسية عند السعي إلى تحقيق الأهداف السياسية التي تتطلب كسب موافقة الدول التي يصعب أن نخوض الحرب ضدها يوماً، ولا يمكن أن يصبح هزم الإرهاب مبدأ تنظيمياً. صحيح أن الولايات المتحدة وحدها تملك الوسائل أو الأفكار اللازمة لإنشاء عالم يحكمه القانون بدل القوة، لكن لا يحصل البلد على دور قيادي حتى لو كان لا غنى عنه، لا سيما عندما نواجه جمهوراً عالمياً مشكِكاً يشمل دولا نافذة تتوق إلى تحدي الأفكار الأميركية في ما يخص طريقة عمل العلاقات الدولية، وتكون مستعدة لترسيخ السلطة الإقليمية في وجه النفوذ العالمي. يمكن الرد على التسريبات بالانتظار وعدم القيام بشيء على أمل أن يتلاشى أثر سنودين تلقائياً، لكن الجمود يضمن حدوث الأضرار، ومع ذلك، سيكون الاعتذار خياراً غريبا نظراً إلى سلوك دول أخرى، ومن غير المناسب ترداد بعض الشعارات؛ لذا يقضي أفضل رد على التسريبات وكل من يجاهر بها بعدم تبرير أفعالنا بمبدأ الاستثنائية (أو الهيمنة) الأميركية بل بمتابعة السعي إلى إقامة علاقة دولية سلمية ترتكز على القناعات التي رسمت السياسة الأميركية منذ أن أصبحت قوة عالمية. لن يكون العالم مكاناً سعيداً أو آمنا إذا تراجعت إمكانات الولايات المتحدة أو قررت هذه الأخيرة الانسحاب (يغفل اليساريون الأوروبيون والانعزاليون في الكونغرس عن هذه الفكرة). ولا شك أن التصفيق الذي رافق التسريبات من جمهور يفتقر إلى الذكاء يُغفل بدوره عن هذا الخطر، فأثر سنودين هو تحذير حول حجم الضرر الذي طاول نفوذنا وهو يوفر فرصة لإعادة بنائه.*مسؤول بارز ومدير "برنامج التكنولوجيا والسياسة العامة" في "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" في واشنطن.