أوكرانيا تكشف مدى عجز الغرب وافتقاره إلى الكفاءة
عندما قارن ماكين تهور بوتين بهتلر، أعلن بحذر أنه يعارض العمل العسكري. إذن، قد يهيج الغرب ويموج، إلا أنه لن يتجرأ على الضرب. يمر الغرب اليوم بحالة من الذهول يدرك فيها أن «من الضروري اتخاذ خطوة ما»، إلا أنه يعجز عن تحديد ماهيتها.
أشعر بالحيرة... كيف يتجرأ أحد على تبرير استخدام دولة عظمى قوة عنيفة ضد دولة صغيرة، متحججاً ببعض التفاهات عن المتطرفين و"مسؤولية الحماية"؟ يجب ألا نقبل بهذا النوع الشائن من اللجوء إلى القوة في النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين. ولأي سبب؟ أن يتمكن قائد يعاني عقدة العظمة من تأدية دور في عالمه المحلي، فتلك مسألة برمتها مرفوضة تماماً، ويجب أن يترتب عليها كلفة كبيرة وعواقب.ولكن كفى كلاماً عن العراق. ماذا عن أوكرانيا؟ لا يسعنا إلا الوقوف مذهولين أمام رياء وزيرَي الخارجية البريطاني والأميركي عندما راحا يعظان روسيا من زاوية أحد شوارع كييف عن شر اجتياح دول صغيرة. ألم يَلُح طيف العراق، أو أفغانستان، أو كوسوفو، أو ليبيا أمام أعينهما؟ لا شك في أن في عين فلاديمير بوتين قشة، لكنها تبدو تافهة مقارنة بالخشبة في عينَي واشنطن ولندن. فيبدو احتلال القرم مناسبة سعيدة إذا قورنت بـ"الصدمة والترويع" في بغداد وبلغراد وحقول القتل في الفلوجة وهلمند. وبينما تعمل هاتان القوتان الغربيتان على إعادة فيالقهما الملطخة بالدم إلى أرض الوطن، لابد من أنهما تشعران بالذل.لكن العكس الصحيح، على ما يبدو. فيتغنى الغرب اليوم ببره الذاتي. ووافق ديفيد كاميرون باراك أوباما رأيه عن أن ما يحدث في القرم "غير مقبول ألبتة". حتى ان جون كيري دعا هذا الاحتلال "عملاً عدائياً لا يوصف... يستند إلى عذر كاذب". أما السيناتور الجمهوري جون ماكين، فيعتبر أن "السماح" لروسيا بالسيطرة على القرم "يذكره بثلاثينيات القرن الماضي حين احتل هتلر السوديت".تحولت عبارة "الكلفة والعواقب" إلى مصطلح يتردد كثيراً خلال هذه الأزمة. فقد حذر منها أوباما وكذلك كاميرون. فضلاً عن ذلك، يرغب جون ويتينغدايل، رئيس اللجنة الأوكرانية في مجلس العموم البريطاني، في أن توجه هذه الكلفة والعواقب "رسالة قوية" إلى بوتين "كي يعود إلى طاولة الحوار". وراح نيك كليغ يتحدث عنها من كرسيه. فهو "لا يستبعد بالتأكيد الخيارات التي سندرسها لنؤكد لبوتين أنه سيعاني عواقب حقيقية". يا للهول!لكن الكلفة والعواقب الوحيدة، التي قد تجمِع عليها القوى المختلفة، تشمل إلغاء قمة ما للدول الصناعية الثماني في فندق فخم، ومنع أثرياء روسيا من التسوق في متاجر "هارودز"، وإرسال أبنائهم إلى كلية إيتون. كذلك قد نمنع أعضاء العائلة المالكة البريطانية من المشاركة في ألعابهم الأولمبية لمتحدي الإعاقة. هذه أصبحت اليوم حدود عظمة الإمبراطورية البريطانية. فرغم كل جيوشها، وأساطيلها، ورؤوسها النووية، لا يمكنها أن تعاقب الدب الروسي بما يتخطى "هارودز" و"إيتون" والعائلة المالكة. لاشك في أن بوتين يضحك بأعلى صوته. يُظهر الواقع اليوم أن الدبلوماسية الغربية لا تملك ما يعبر كفاية عن عدم كفاءتها. فقد اعتادت سابقاً تحديد أهدافها "برسم الخطوط الحمراء" والتهديد باللجوء إلى القوة. لكن سياسيي ما بعد الحرب الباردة أساؤوا استخدام هذا التهديد إلى حد كبير، ما كبدنا كلفة باهظة. فما عاد الأعداء يأخذونه على محمل الجد. وتُعتبر إيران وسورية من أحدث الأمثلة لذلك. فعندما حاول كاميرون تهديد دمشق باللجوء إلى القنابل، كان البرلمان البريطاني قد ضاق ذرعاً بتهديدات مماثلة. وإذا لم تأخذ سورية تحذير كاميرون على محمل الجد، فمن الأحرى ألا تأخذه روسيا.لكن المشجع في الأزمة الأوكرانية حتى اليوم يبقى بروز شعور لدى الطرفَين لم نألفه من قبل، شعور بضرورة "تبرير سلوكهما". فهذه المرة الأولى التي نشهد فيها ثورة تحظى بتغطية متوازنة. على سبيل المثال، تحقق برنامج Newsnight على شبكة BBC من نظرية "الانقلاب الفاشي" في كييف، وتبين له أنها ليست عارية تماماً من الصحة. كذلك شهدنا مقارنات بين شرعية فيكتور يانوكوفيتش كرئيس منتخب وإخفاقاته الكثيرة، وبين هوية حشد الميدان المتنوعة وهفواته المتعددة. كذلك نعرف جيداً انقسام ولاء أهل القرم وشرق أوكرانيا. قرأتُ خلال الأيام الماضية مقالات فاقت توقعي عن تاريخ القرم الشائك، ودور أوكرانيا في الهوية الروسية، وعلاقة بوتين المعقدة بالفخر وجنون الارتياب الروسيين. نتيجة لذلك، رأيت إعادة احتلال موسكو القرم خطوة مبررة وغير شرعية في آن واحد. فطبيعتها القانونية (من دون انتظار حتى استفتاء محلي) تضاهي ببدائيتها الطبيعة السياسية لمحاولة حلف شمال الأطلسي احتواء هذه المسألة. لا شك في أن هذا مسرح يخشى محبو الحرب المتململون في لندن وواشنطن الصعود على خشبته. حتى عندما قارن ماكين بتهور بوتين بهتلر، أعلن بحذر أنه يعارض العمل العسكري. إذن، قد يهيج الغرب ويموج، إلا أنه لن يتجرأ على الضرب. يمر الغرب اليوم بحالة من الذهول يدرك فيها أن "من الضروري اتخاذ خطوة ما"، إلا أنه يعجز عن تحديد ماهيتها.يعتبر القادة الديمقراطيون عادة الشؤون الخارجية سهلة. فيمكنهم اعتماد المواقف العامة المثيرة للإعجاب واستعراض القوة والعبارات المستهلكة من دون مواجهة سلبيات تُذكر. فضلاً عن ذلك، تقدم الرحلات المنتظمة إلى الخارج (يدمنها كاميرون) فترة مناسبة للاسترخاء، والتمايل على السجاد الأحمر، والتملص من الصحف المزعجة. لكن أوكرانيا بدلت هذا الوضع، فهي بالغة الصعوبة لمؤيدي التدخل، خصوصاً أن كل الخطوات المطروحة تبدو غير ملائمة والتهديدات فارغة. لكن الخطوات العملية بدأت تحقق بعض التقدم على الأقل. وهذا ما أشارت إليه وزارة الخارجية البريطانية أخيراً في بيانها الصحافي الجديد والغريب: وثيقة عُرضت على المصورين على رصيف شارع داونينغ.يُظهر كل هذا التبدل الذي طرأ على الحكومة منذ تعاطيها بقوة مع إيران. ففيما كان وليام هيغ يقدم أداء يلقى الاستحسان في كييف، راح مسؤولوه يحللون بدأب محتوى "الكلفة والعواقب"، فاستخلصوا أن من الضروري تفادي أي خطوات عسكرية أو عقوبات اقتصادية ضد روسيا، أو على الأقل أي خطوات قد تؤذي لندن. يلزم بالتأكيد تقديم مساعدات مالية إلى النظام الجديد في كييف. أما عند التعاطي مع روسيا، فيجب الاكتفاء بالخطوات المعتادة بشأن المهمات والمحادثات التي تجمع كل الأطراف. وكما هي الحال مع سيطرة الصين على التبت، تعلم لندن أنها تتعامل مع وحش كبير ثري، لا دولة صغيرة فقيرة. لذلك عليها المضي قدماً بحذر.أعتبر هذا مشجعاً. فلاتزال بريطانيا تبحث عن تشبيه جديد "للضرب تحت الحزام". قد يستعين قادتها بعبارة كيبلينغ الساخرة "اقتل كروغر بفمك". ولكن وراء كل هذا الخداع الشفهي، يدركون على ما يبدو مدى سخف "سلوك وزارة الخارجية البريطانية الفارغ". لذلك من الممكن أن يسيروا على خطى ألمانيا المنطقية ويقدموا على غرارها ردود فعل مدروسة. فلا تلوح أنجيلا ميركل بالكلفة والعقوبات. فلمَ تضيع وقتها؟عندما زرتُ روسيا عام 2006، سألت دبلوماسياً عن رد فعل موسكو تجاه غزو بريطانيا الراهن لهلمند في أفغانستان. فابتسم وأجابني: "لا تقلق. لن نقاطع الألعاب الأولمبية في لندن". فهم هذا الدبلوماسي السياسة الخارجية البريطانية آنذاك، وعرف السبيل الأفضل إلى التعاطي معها. تدرك روسيا اليوم ما تريد بالتحديد، بينما تتلهى بريطانيا بمناورات عقيمة. وإذا تحول الرياء اليوم إلى غطاء للواقعية السياسية، فهذا جيد. لكن السيئ أن علينا تعلمه من فلاديمير بوتين.