أيتها المظاهر ما أكذبك!

نشر في 01-04-2014
آخر تحديث 01-04-2014 | 00:01
 د. ساجد العبدلي الناس عوالم تمشي على أقدام، وظواهر أغلبهم لا تدل ولا تشي مطلقا بما يعانونه في الباطن، كم من مبتسم ينزف قلبه من جرح بليغ، وكم من ضاحك للناس يبكي في خلواته، وكم من شخص يبدو سليماً يعتصره الألم ويتردد أنينه بينه وبين نفسه، وكم من صامت لا يشكو لأحد حاصرته الهموم وما بث حزنه إلا لخالقه، وكم، وكم.

ذات صباح أحد وبينما أنا جالس في قطار الأنفاق في نيويورك متجها إلى عملي، كان الناس يجلسون من حولي بهدوء، بعضهم يطالع جريدته، والبعض يقرأ كتابا، والبعض غارق في أفكاره، وآخرون أغمضوا عيونهم مستغرقين في غفوات سريعة قبل وصول القطار إلى محطاتهم المقصودة.

وما هي إلا لحظات قليلة من الهدوء والسكينة حتى دخل العربة رجل يجر من خلفه مجموعة أطفال، كان الأطفال شديدي الصخب، يتصايح بعضهم على بعض بزعيق عال، ويتقاذفون الأشياء التي معهم، فتتطاير في كل مكان بلا اكتراث لبقية الركاب. لكن المفارقة تمثلت بأن الرجل الذي كان معهم جلس بجانبي مغمضا عينيه وغاب بعيدا في الصمت، وكأنه لا يرى ولا يشعر بما سببه أطفاله من ضجة وأذى.

كان من الصعب أن أتجاهل الأمر فلا أشعر بالانزعاج من الأطفال أولا، ومن برود أبيهم ثانيا، وكيف يمكن أن يكون على هذا القدر من انعدام الإحساس بالمسؤولية تجاه ما يفعله أطفاله، لذلك لم أتمالك نفسي فالتفت نحوه وخاطبته قائلا: سيدي، أطفالك يسببون إزعاجا كبيرا، ليتك تسيطر عليهم بعض الشيء.

نظر الرجل إلي كمن استيقظ من غيبوبة، ثم قال بنبرة هادئة: فعلا، فعلا. أعتذر منك. لا بد أن أفعل شيئاً. المعذرة، فللتو قدمنا من المستشفى حيث توفيت زوجتي، أمهم، قبل ساعة، وما زلت تائها لا أدري ماذا أفعل، ولا كيف أخبرهم بما حصل!

يقول الدكتور ستيفن كوفي، فهو الذي روى هذه القصة في واحدة من مقالاته: لا أستطيع وصف الشعور الذي انتابني في تلك اللحظة، كل مشاعري السلبية نحو الرجل تغيرت، وتلاشى انزعاجي من صخب الأطفال، واختفت نظرة استغرابي وانتقادي لانعدام إحساس الرجل بالمسؤولية تجاه تصرفات أطفاله، وامتلأ قلبي بالتعاطف مع هذا الرجل المكلوم في زوجته، فهرعت لمواساته ومحاولة التخفيف عنه وعرض المساعدة عليه. (انتهى كلامه).

كم هي خادعة مظاهر الناس والأحداث والأشياء من حولنا، هذا ما قلته في نفسي حين قرأت القصة، ولا أراني توصلت إلى كشف خارق هنا، فأغلب الناس يدركون ذلك. المظاهر خادعة على الدوام، لكن الغريب أننا وعلى الرغم من إدراكنا التام لهذا الأمر فسرعان ما نتجاهله ونتناساه وكأننا ننساه.

صاحب المنزل الفخم والسيارة الفارهة والمال الكثير ليس سعيداً بالضرورة، وكثير النشاط والعمل ليس مستقر النفس حتماً، وكثير السفر والتنقل والترحال لا يشعر بالفرح دوما، وغيرهم، وغيرهم. الناس عوالم تمشي على أقدام، وظواهر أغلبهم لا تدل ولا تشي مطلقا بما يعانونه في الباطن، كم من مبتسم ينزف قلبه من جرح بليغ، وكم من ضاحك للناس يبكي في خلواته، وكم من شخص يبدو سليماً يعتصره الألم ويتردد أنينه بينه وبين نفسه، وكم من صامت لا يشكو لأحد حاصرته الهموم وما بث حزنه إلا لخالقه، وكم، وكم.

والله لو كففنا عن التسرع في الحكم على الناس، وإلقاء الاتهامات جزافاً على خلق الله، وانصرفنا لتداول شؤون أنفسنا، ومعالجة همومنا ومشاكلنا قبل أن نلتفت إلى غيرنا لكان خيراً لنا.

back to top