إحنا وبلاد برة

نشر في 03-12-2013
آخر تحديث 03-12-2013 | 13:01
 باسم يوسف "طب بذمتك إيه رأيك في قانون التظاهر؟".

قالها صديقي وهو يقرأ الجريدة المستقلة بنكهة حكومية: لم أعد أقرأ مواضيع الصحف بتمعن، كما كنت أفعل في الماضي، فالمانشيتات الساخنة والعناوين الجانبية تغنيك في معظم الأحيان عن قراءة الموضوع.

ألقيت نظرة سريعة على الصفحة المفتوحة في يد صديقي، ولم يتطلب الأمر أكثر من ثوانٍ معدودة، لأدرك أنه كان يقرأ موضوعاً عن قانون التظاهر الجديد، ويقارنه بمثيله في بلاد برة المتقدمة، المهم أن الموضوع مكتوب بطريقة تجعلك تبوس إيدك وِشّ وقفا على أنك ولدت على هذه الأرض المقدسة المسماة مصر، والتي أنبتت هذه العقول الأمنية البراقة، فخرجت بهذا القانون الرائع، وهو قانون إن قارنته بالقوانين المجحفة في أوروبا فستدرك كم كانت الحكومة رحيمة بنا.

الحقيقة أنا لا أهتم بالتظاهر ولست من هواة المظاهرات ولا أحب الدعوة إلى الحشد، لكن موقفي من التظاهر وقانونه مثله مثل موقفي من أي موضوع آخر، فحتى وإن كنت غير مهتم به شخصياً، فأنا مهتم بأن أرصد رد فعل الناس والأهم تناقضاتهم في مناقشة هذا الموضوع.

"أهو، بلاد برة بتاعة الحرية والديمقراطية عندها قانون تظاهر أهو، اشمعنى احنا؟"

قالها صديقي، وسرحت أنا في استرجاع مناقشات برامج "التوك شو" على مدى الأسابيع الماضية، وهي تناقش بحماس قانون التظاهر وتروج لمدى حلاوته وأد إيه هو قانون حلو وقطقوط. 

لا بأس، كل واحد حر، أنا شخصياً أتمنى فعلاً أن "البلد تهدى"، وأن أستطيع القيادة في شوارع القاهرة بدون "هلكة" المرور اللي مش ناقص مظاهرات أصلاً، لكنني لم أستطع أن أخفي اندهاشي من أن نفس المذيعين الذين انتفضوا لإشاعة تطبيق قانون التظاهر في عهد مرسي، انتفضوا مرة أخرى للدفاع عن نفس القانون، اللي اسمه قانون التظاهر برضة، ولكن مش هي دي المشكلة.

المشكلة أنهم يستشهدون بنفس فيديوهات فضّ المظاهرات في أوروبا وأميركا التي كان يستشهد بها خالد عبدالله في قناة "الناس" وعاطف عبدالرشيد في قناة "الحافظ".

حين تزيل الذقن والزبيبة تجد الخبير الأمني والصحافي القومجي وهو يستشهد بمقولة رئيس وزراء بريطانيا (التي أخرجوها من سياقها) وهو يقول: "حين يتعلق الأمر بالأمن القومي لبريطانيا، فلا تحدثني عن حقوق الإنسان".

وكان نفس المذيع "الليبرالي" يتهكم على خالد عبدالله حين يدافع عن قانون التظاهر، فيقول له: "عيّشنا في بلد زي فرنسا وبعدين طلع لنا قانون زيهم"، ولكن على ما يبدو فنحن أصبحنا نعيش في فرنسا وإحنا مش واخدين بالنا، لكن مقالة اليوم ليست عن قانون التظاهر ولا عن تغيير مواقفك مع أو ضد قضية معينة على حسب مزاجك، وليس على حسب مبادئك، مقالة اليوم عن هذا العذر الذي يستخدمه البعض وقت اللزوم ثم يلقون به في أقرب صفيحة قمامة حين لا يناسب مزاجهم.

فالإسلامي من دول أو القومجي أو محب الجيش أو الليبرالي على ماتفرج أو اللي على باب الله، أي واحد من دول يستخدم وبعنف حجة بلاد برة لتبرير ما تقوم به السلطة اللي على مزاجه.

ويمكن أن تفاجأ بأن هؤلاء، على اختلاف طريقة تفكيرهم واتجاهاتهم، قد اتحدوا على استخدام الحجة في أمور مثل: "هيبة الدولة" و"احترام السلطة" وكل مقومات "الاستقرار"، لا فرق بين إسلامي أو عسكري، لكن حين تستخدم أنت نفس الحجة بتاعة بلاد برة يقول لك: "إحنا حاجة وبلاد برة حاجة تانية"، "كل مجتمع وله ظروفه، إحنا مش زي أميركا"، هؤلاء يؤمنون بحجة بلاد برة في أول الجدال ثم يكفرون بها في نهايته، يسوق لك الإسلامي حجته بأن الديمقراطية هي شوية أصوات قائمة على الأغلبية فقط لا غير، "زي بلاد برة"، ولكن حين تواجهه بكذب هذه المقولة، وأن الأغلبية في الخارج مهما غلبت فإنها لا تستطيع أن تستخدم الدين والنصوص المقدسة في إقامة فهمهم هم لشريعة دينية، يقول لك: "إحنا مالنا ببلاد برة".

حين يساند أحدهم الإجراءات القمعية للدولة بحجة أن "في بلاد برة" لا يسمح بهذه الأفعال الصبيانية في الشوارع، ويسوق لك الأمثلة بأنه لو حدث ذلك في الخارج لتمت تصفية من يتعدى على منشآت وهيبة الدولة، ثم تأتي أنت وتخبره بأنهم في بلاد برة يسخرون عياناً بياناً من رئيس الدولة ومن رأس الدولة ومن اللي بيتشدد للدولة، يتراجع ويقول لك: "بس إحنا مش زي بلاد برة".

وهنا أذكرك عزيزي المواطن بالمظاهرة الوحيدة من ساعة الثورة التي حصلت على تصريح زي بلاد برة، ووافقت لها السلطات على خط سيرها زي بلاد برة، كانت مظاهرة الأقباط بماسبيرو، وطبعاً حصل لها بالضبط زي ما بيحصل في بلاد برة!

حجة بلاد برة هي حجة بليدة وفارغة وتستخدم لانتقاء ما يناسبك لا ما يصح، ولإثبات ذلك تعال واطرح ما يطبق فعلاً في بلاد برة، حرية الاعتقاد وحرية الديانة أو اللاديانة، ستجد الطرفين الإسلامي واللي يكره الإسلامي موت والمسيحي واللي مش طايق الكنيسة على قلب رجل واحد، فهنا تتوقف الحريات ولتذهب بلاد برة إلى الجحيم.

تتوارى حجة بلاد برة، لتحل محلها حجة أن لنا تقاليد وأعرافاً، و"كله إلا الدين" والشعب المصري متدين ومحافظ بطبعه، وأن إطلاق حرية الاعتقاد ما هو إلا حجة لإشاعة الكفر والإلحاد وإطلاق مهرجان الجنس للجميع زي بلاد برة الشريرة الكافرة المنحلة.

حين تطلب معاملة المتهمين بآدمية في أقسام الشرطة مثل بلاد برة، وحين تطالب باحترام المواطن ومعاملته كإنسان مثل بلاد برة، يقول لك: "إحنا شعب ما نجيش إلا كده، هو إحنا زي بلاد برة؟"، لا أنت أطلقت الحريات زي بلاد برة، ولا أنت عاملت البشر كما يستحقون زي بلاد برة، ولا أنت دربت جنودك وقوات الشرطة على التعامل مع الآدميين زي بلاد برة، وفي النهاية أنت أول كافر به حين يواجهك أحدهم بالمعنى الحقيقي لبلاد برة.

الموضوع شيلة واحدة، لا تستطيع أن "تنقي" على مزاجك، فكونك تطالب بأن نبطش مثل بلاد برة لكن تبقي على كل شيء زي ما كان جوة يبقى إحنا كلنا بنهرج.

الإعلام الآن حين يتحدث عن بلاد برة لا يتذكر إلا فيديوهات فض المظاهرات في الخارج، فيبدو أن هذه هي الفيديوهات الوحيدة التي استطاعوا أن يحصلوا عليها من بلاد برة، حيث لا يحدث شيء آخر يستحق الذكر برة غير فض المظاهرات.

لذلك، وبما أننا حابين بلاد برة قوي كده، يبقى نعمل زيها، ولنبدأ بالإعلام.

في الأسبوع الماضي قام أقدم وأشهر برنامج في أميركا وهو برنامج "٦٠ دقيقة" بعمل تقرير عن الهجوم على سفارة أميركا في بنغازي، وأدارت المذيعة لارا لوجان حوارا مع فرد أمن بالسفارة ادعى أنه كان موجوداً وقت الهجوم وخرج بقصة مثيرة جداً عما حدث، وبعد إذاعة البرنامج، تم اكتشاف أن كل هذا من وحي خيال فرد الأمن، وأن لارا لوجان لم تقم بالمجهود الكافي للتأكد من قصته، فأصبحت فضيحة مدوية تم على إثرها إيقاف المذيعة وفريق العمل وتقديم اعتذار للمشاهدين.

ده اللي بيحصل في إعلام برة، أما إعلام جوة فمليء بالسب والقذف والخوض في أعراض الناس واتهامهم بلا دليل واستضافة خبراء استراتيجيين يتضاءل بجانب خيالهم القصة الكاذبة لفرد أمن السفارة الأميركية، ومع ذلك لم يقم أحد منهم بما يطالب به من تطبيق أخلاقيات بتوع برة في مهنتهم.

لذلك، فلنكن صرحاء مع أنفسنا: إحنا ولا عايزين بلاد برة ولا طريقتهم، إلا كما يحلو لنا، والمرة الوحيدة التي نكون صادقين فيها حين نذكر بلاد برة هي عندما قال بعضنا في ٢٠١١: "اللي مش عاجبه يروح كندا" ثم رد عليهم البعض الآخر في ٢٠١٣: "اللي مش عاجبه يطلع على قطر".

لذلك فحين تبدأ الجدال بجملة "في بلاد برة..." كن مستعداً لتكملة الجملة للآخر، لأنه في الواقع بلاد برة التي نضرب بها المثل بتتفرج علينا وتتندر علينا وفطسانة على روحها من الضحك.

 

ينشر باتفاق خاص مع «الشروق» المصرية

back to top