غيّوم دو لوريس في «رواية الوردة»... مرايا متعدّدة تحترف قراءة الإنسان

نشر في 24-06-2014 | 00:01
آخر تحديث 24-06-2014 | 00:01
No Image Caption
لا شكّ في أنّ الشعر حين ينتقل من لغة إلى أخرى يخسر كينونته الأولى، ويفقد كلّ ما تعطيه لغته الأصليّة من حضور، يتميّز بالامتلاء وتعجز اللّغة الثانية، المنقول إليها، عن أن تمنح النص الشّعري الحضور المماثل للحضور الأول لأسباب كثيرة. وإذا جاز الكلام إنّ ترجمة الشّعر شرّ لا بدّ منه لأهداف تخدم الثقافة والإنسان الذي هو واحد على تعدّده. آخر الترجمات إلى العربية ديوان {رواية الوردة} للشاعر الفرنسي غيّوم دو لوريس.
من الفرنسيّة إلى العربيّة ترجم الدكتور نزار شقرون والأستاذ نعيم عاشور {رواية الوردة}  للشاعر الفرنسي غيّوم دو لوريس. ويعود زمن تأليف الرّواية إلى النصف الأوّل من القرن الثالث عشر الميلادي. ومن أهداف ترجمتها الإطّلاع على الثقافات الأخرى وتقديم المساعدة للمهتمّين بالأدب المقارن، وتحديداً مقارنة الأدب العربي بالأدب الفرنسي، بعيداً عن التمييز عرقاً ولوناً ولغةً، لأنّ الإبداع الإنسانيّ يجمع الجميع في ظلاله.

في مقدّمة الرّواية الشّعريّة المترجمة عرض كل من الدكتور مرزوق بشير بن مرزوق والدكتور عبد الودود العمراني مضمونها وعملا على تفكيك رموزها واستعاراتها. {رواية الوردة} هي من نتاج الفرنسيّة العتيقة، و: {قرّاء الفرنسيّة أنفسهم يضطرّون اليوم إلى اللجوء إلى ترجمتها إلى الفرنسيّة الحديثة}. وهي ذات شخصيّات مقنّعة بالاستعارة، وكانت في زمنها نوعاً أدبيّاً جديداً.

أجواء ريفية

يزور الشّاعر حلمٌ ليليّ لذيذٌ في أحد أيّام الرّبيع. وما جرى في الحلم شكّل مادّة الرّواية الأولى.

ينهض العاشق من النّوم صباحاً، ويغسل عينيه من بقايا النّعاس ويمضي قاصداً اللّهو في أجواء ريفيّة. وبينما هو يمتّع النظر بجمال الطّبيعة أخذه نهر بصفو مياهه فتتبّع مجراه ليصل إلى سور شاهق مرسوم عليه عشر شخصيّات قبيحة بأسمائها: {ضغيفة، وخيانة، ودناءة}... واستطاعت هذه الرّسوم إغراء العاشق بالدّخول إلى البستان وهو: {مقرّ إقامة سيّد المتعة}، فيجد باباً صغيراً في السّور تقف وراءه حسناء توصله إلى السيّد المستمتع بالغناء والرّقص، برفقة السيّد جمع يتألّف من {بهجة، وربّ الحبّ، وخادمه ساحر النّظر، وجميلة، وكياسة، وثروة} ... وفي البستان يكتشف بطل الرّواية نبع نرسيس، وتنال إعجابه وردة لا تضاهى رقةً وجمالاً، وما إن حاول قطافها حتى رماه ربّ الحبّ بالسهام فيرتمي أرضاً عاشقاً مثخناً بالجراح ويصبح أسير الربّ الذي أدماه. ويسعى من جديد إلى وردته فيجدها مسوّرة بالشّوك والخطر والحياء والخوف... وبعدما طرد {خطر} الشاعر من البستان حاولت {حكمة} مساعدته فأبى، ولجأ إلى صديق. ليعود ويستغلّ إغفاءة {خطر} ويقطف من وردته القبلة التاريخيّة، قبل أن تستيقظ {غيرة} وتبني القصر المنيع وتحوّل برجه الشّاهق سجناً لصاحب الحفاوة والورود. وتنتهي الرّواية بدموع صاحبها، الذي يعلن أن الحياة والحبّ لا يُدركان إلا بالألم الكبير، فلا شيء بلا ثمن وكلّما ارتفع ثمن اللّذة كلّما كان طعمها أفضل:

 {إنّ أحداً لا يمكن أن يحيا هانئاً،

 ما لم يدفع الثمن

 فاللّذة يكون مذاقها أفضل،

 عندما نشتريها بأغلى الأثمان

 والخيرات تغدو أكثر إنثيالاً ورهواً،

 بعد طول شقاء}.

جانب تربوي

ولا يستطيع القارئ أو الدّارس إغفال الجانب التربويّ للرواية، إذ إنّها بردائها الرمزي، تسعى: {إلى تربية النّفس البشريّة على مكارم الأخلاق متوسّلة بمشاعر الحبّ}.

فالرّيف الّذي قصده الشّاعر هو ساحة الدّنيا، وما النهر سوى واحد من تجلّيات الحياة، وليست {مترفة} إلا امرأة مكلّلة بالمتعة والعطاءات الفريدة...

والرّجل العاشق يجعله الحبّ يمرّ بنساء كثيرات ليرهن في النّهاية العمر لدى واحدة منهنّ. ومن اللّهو والمتعة والصخب يتّجه إلى العمق، إلى الألم الّذي هو سبب كلّ فرح حقيقيّ، فيصير الشّوك مباركاً لأنّه الطريق إلى العطر النبيل. وعلى امتداد الرّحلة يتفرّغ المحبّ لعدّ السّهام التّي زرعها الحبّ في صدره ويكتشف في كلّ جرحٍ أملاً بالوصول بعد حين. والوردة/ المرأة لاتنال وإن أدركها عاشقها فهي عصيّة على القطاف، وتحترف الحفاظ على جمالها ونقائها ولو كلّفها الأمر أن ترمي حبيبها في أحضان الموت؛ غير أنّ هذا الموت خشبة خلاص يصل إليها طالبُها بكلّ ما فيه من الحبّ الّذي أمسى وشماً على الرّوح ينجو من لعنة التراب ومن أن يرعاه عنكبوت النسيان.

حالات شعورية

اهتّم {غيّوم دو لوريس} على امتداد روايته الشّعريّة بتقصّي الحالات الشعوريّة العميقة عند الرّجل الذّاهب إلى الحبّ بكلّ ما يملك من نزق وشغف، وأظهر نماذج عدّة للمرأة من خلال تسمية كلّ امرأة بصفةٍ لافتةٍ من صفاتها. فــ {ثروة} امرأة من سلالة الأشراف، متباهية بنفسها، فلا رجل فقيراً يستطيع أن يصل إلى قلبها: {وهي غالباً ما تضعه في آخر القائمة}. ولا أحد يتمكّن من إيذائها لأنّ المال ذو نفوذ لا يهزم. أمّا {سخية} فهي المرأة الّتي تفتح كفّها بلا تردّد. وتشتري السيادة بالمال، كما أنّها تشتري حكمة الحكماء، وتحوّل الكره إلى حبًّ:

 {وكما يفعل حجر المغناطيس الموله

 الّذي يجذب الحديد إليه بمهارة ورقّة

 كذلك تفعل النقود التّي ندفعها

 في جذب قلوب الناس إلينا}...

 وتبدو {صراحة} ذات ثبات وبشرة بيضاء، تعامل النّاس بأسلوب واحد، وتشعر مع المعذّبين في حبّها فلا تتركهم أسرى آلامهم إنّما تحاول أن تهدي إليهم الشفاء:

 {فلم تكن لتجرؤ ذات يوم أبداً

 على أن تتحدّث إلى شخص ما

 أو أن تعامله بأسلوب غير الّذي جبلت عليه

 ولو تناهى إلى علمها أنّ شخصاً ما لم يعذّب من أجل حبّه لها

 لسارعت وأبدت العطف عليه}...

 وتتّصف { كياسة { باللّطف والأدب والبركة. وتجذب الجميع إليها، لأنّ قلبها متواضع ولسانها يختار من الكلام عسله: {فقلب {كياسة} لا يعرف العجرفة، ولا الخيلاء،/ فهي من لطفها، دعتني للرقص ما أن وصلت إلى هناك،/ وأتاحت لي الفرصة للحديث إلى الحاضرين}... وتوقّف دو لوريس عند {ميعة الصبا}، فهي المرأة الظريفة على بساطة، البعيدة عن الشرّ والحيلة، الغارقة في بساطتها:

 {انصرفت} إلى الضحك، وإلى التلّهي

 واللّعب، فتلكم سلواها الوحيدة،

 وهذا هو مرمى الطفولة كما تعرفون}.

ليست {رواية الوردة { دفتراً من دفاتر الحبّ الذهبيّة فقط، إنّما هي رواية متعدّدة المرايا الإنسانيّة الّتي تقول الإنسان ببعديه النّفسي والأخلاقي. ولم يكتفِ دو لوريس بتظهير مخبّآت المرأة وقراءة أعماقها، بل تخطّى المرأة والحبّ والرجل العاشق إلى الإنسان ككلّ فالنماذج البشريّة الرمزيّة الّتي بناها بإتقان في روايته تعلن الإنسان بشكلٍ عام، وقد يكون ذلك سبباً من الأسباب التي كتبت العمر الطويل لرواية الوردة.

يُذكر أنّ ترجمة رواية دو لوريس عمل شاق، وعلى قدر كبير من الأهميّة، لما فيه من خير للثقافة والأدب العربيّين، باعتبار أنّ الإبداع إرث إنسانيّ يتساوى البشر كلّهم في حصّتهم منه.            

back to top