الموت البطيء لمنظومة الدفاع الأميركي

نشر في 04-11-2013 | 00:01
آخر تحديث 04-11-2013 | 00:01
No Image Caption
الشعب لا يتقبل فكرة أن يحصل نظام متشدد كإيران على أسلحة نووية. لذلك قد يرضى بشن هجوم على منشآتها النووية في مرحلة ما، إن أخفقت المفاوضات، لكن إذا شمل الهجوم أكثر من مجرد إطلاق صواريخ من قبالة الشاطئ مدة لا تتجاوز أسبوعا، فقد ينقلب الشعب بسهولة ضد البيت الأبيض.
 Robert Kaplan لربما بدأت موازنة الدفاع الأميركية تتداعى، لا أقصد بذلك الأرقام على الورق، فلا آبه بالأرقام، أود أن أسلط الضوء على الدعم الشعبي لهذه الأرقام.

طوال عقود بعد اعتداء بيرل هاربر، أيد الشعب الأميركي بثبات وصمت الوجود الأميركي القوي حول العالم، دفاعاً عن الحرية. فقد شكل الهجوم الياباني على البحرية الأميركية في هاواي عام 1941 صدمة للشعب الأميركي، ودفعه إلى الإصرار على ضرورة دحر قوى "المحور" في الحال. ثم أرخت الحرب الباردة بظلالها طوال 44 سنة عقب الحرب العالمية الثانية، مبقية الحرب الكورية حية في ذاكرة الناس. وبما أن الشيوعية مثلت خطراً جيو-سياسياً وعقائدياً كبيراً إلى هذا الحد، تخلى مَن اعتادوا دعم العزلة عن تحفظاتهم، وأيدوا آنذاك تأليف جيش كبير، وبحرية قوية، وسلاح جو فاعل. صحيح أن كثيرين طالبوا بعد انتهاء الحرب الباردة بخفض موازنة الدفاع، وخصوصا خلال عهد كلينتون. غير أن اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر أظهرت أن هذه كانت مجرد مرحلة عابرة. نتيجة لذلك، عاودت موازنة الدفاع الارتفاع كثيرا خلال عهد جورج بوش الابن.

لكن العالم يشهد اليوم تبدلات عدة لا تدعم في الظاهر الحاجة إلى دفاع قوي. لاحظوا أنني كتبت "في الظاهر"، لأن حاجات الدفاع ملحة بالتأكيد. إلا أن هذا الإلحاح يتجلى اليوم بطريقة غامضة وغريبة. لذلك يصعب على المسؤولين إقناع الشعب به.

على سبيل المثال، يدرك خبراء الدفاع أهمية "الوجود"، أي إبقاء ما يكفي من السفن الحربية والطائرات المقاتلة في منطقة ما لتعزيز الدبلوماسية الأميركية، وطمأنة الحلفاء، وردع الخصوم المحتملين، مثل الصين. لكن الشعب قد يسأل: إذا كانت الولايات المتحدة لا تواجه خطراً واضحاً ومباشراً، ألا يمكننا أن نخفض عدد تلك السفن والطائرات قليلاً أو ربما كثيراً؟ كذلك قد يسأل الشعب: لمَ نحتاج إلى جيش كبير؟ فلن نخوض المزيد من تلك الحروب السخيفة في الشرق الأوسط، لكننا في الواقع نحتاج إلى جيش كبير لنحتل جزءاً من كوريا الشمالية، مثلاً، في حال خرج نظام هذا البلد عن السيطرة. إلا أن الشعب ينظر عادة بعين الريبة إلى هذا النوع من الأمثلة الافتراضية.

من المؤكد أن الشعب لا يتقبل فكرة أن يحصل نظام متشدد، مثل إيران، على أسلحة نووية. لذلك قد يرضى بشن هجوم على منشآت إيران النووية في مرحلة ما، إن أخفقت المفاوضات. ولكن إذا شمل هذا الهجوم أكثر من مجرد إطلاق صواريخ من قبالة الشاطئ خلال مدة لا تتجاوز الأسبوع، فقد ينقلب الشعب بسهولة ضد البيت الأبيض. كذلك قد تتطلب حرب ضد إيران حملة تدوم أسابيع. وقد يترتب عليها الكثير من العواقب غير المتوقعة.

لم يؤيد الشعب الأميركي يوماً الحملات العسكرية الكبيرة، إلا إذا كان الخطر الذي يهدد الولايات المتحدة بحد ذاتها ملموساً ومباشراً. يتحدث الخبراء في مجال السياسة أحياناً بحماسة عن استعداد الأميركيين للتضحية. ولكن لا يكره الشعب الديمقراطي التضحية المستمرة، إلا إذا هدد الصراع مصالحه الأساسية.

يواجه مؤيدو التدخل العسكري لأسباب إنسانية هذه المعضلة منذ عقود. تذكروا أن الشعب قبلَ بالتدخل الإنساني في البلقان، مع أنه لم يكن متحمساً له. لكنه رضي به لأن الولايات المتحدة لم تتكبد أي خسائر. فعندما بدأ عدد الضحايا يرتفع في العراق وتحولت أفغانستان إلى مستنقع، تراجع الدعم الشعبي لهاتين الحربين على نحو حاد. نتيجة لذلك، يتحول العالم تدريجيا إلى مكان لا يرى فيه الشعب أي سبب للإبقاء على موازنة دفاع ضخمة.

على سبيل المثال، إذا تمكنت الولايات المتحدة من التوصل إلى تسوية مع إيران، فسيحد ذلك من دعم أي تدخل عسكري في الشرق الأوسط. وإذا شهدت الصين فترة من الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية، فلن يعود الشعب يراها خطراً. وسيحد ذلك من استعداده لدعم الإنفاق العسكري الواسع. صحيح أننا نواجه اليوم مخاطر غير تقليدية، مثل خلايا تنظيم "القاعدة" في باكستان واليمن وغيرهما من الدول، ولكن ألا يشكل استخدام الطائرات بدون طيار لملاحقة هؤلاء الإرهابيين وسيلة أقل كلفة من الاستعانة بطائرات حربية يقودها طيارون؟ وكيف يبرر هذا الحاجة إلى هذا العدد الكبير من الطائرات الحربية وقاذفات القنابل من نوع B-2؟ بهذه الطريقة يفكر الشعب.

إذن، يريد الشعب الحماية بكلفة متدنية. وقد لا يكون مستعدا لتأدية دور الشرطي في العالم مع بحرية كبيرة وسلاح جو ضخم، كما في السابق على الأقل، إلا إذا رأى خطراً تقليدياً واضحاً وملموساً.

ترد النخبة بالقول إن الفوضى، أينما حلت، تهدد رؤية الولايات المتحدة الليبرالية للعالم. ولا نشهد اليوم فوضى هنا أو هناك، بل في كل أنحاء الشرق الأوسط. لكن الشعب غير مقتنع. فقد حمل الجزء الأكبر من الاتصالات والرسائل الإلكترونية، التي تلقاها الكونغرس خلال دراسته العمل العسكري في سورية، الرسالة التالية: الوضع في سورية مذرٍ، ويستخدم النظام هناك على الأرجح أسلحة كيماوية، ولكن كيف يؤثر ذلك مباشرة في الولايات المتحدة؟ بكلمات أخرى، سئم الشعب على الأرجح معالجة النخبة المسائل الإنسانية وسعيها لنشر النفوذ. شكل هجوم بيرل هاربر والحرب الباردة واعتداءات الحادي عشر من سبتمبر كلها تطورات استثنائية أدركها الشعب بعمق، لذلك قبلَ بسنوات من الإنفاق الدفاعي الاستثنائي، ولكن ماذا إذا لم تواجه الولايات المتحدة تطورات بهذه الضخامة في المستقبل القريب؟ ماذا لو واجهت تزايداً بطيئاً لكنه متواصل في الفوضى والفظائع والسفن الحربية الصينية في المحيطين الهادئ والهندي؟ في هذه الحالة، ستزداد حماسة النخبة المؤيدة لتأدية الولايات المتحدة دور الشرطي في العالم، إلا أن هذه التطورات قد لا تؤثر في الشعب.

ليس الشعب غبياً. على العكس، يتمتع بحس منطقي دقيق تفتقر إليه تلك النخبة، مع أنه قد يعجز عن التعبير عنه بطريقة واضحة. لا شك في أن بعض العناصر الأساسية في الشعب تميل إلى العزلة على نحو غريب، خصوصاً داخل الحزب الجمهوري (وبمقدار أقل في اليسار المناهض للحرب). لكن هذه العزلة بحد ذاتها تنبع من واقع الولايات المتحدة الجغرافي: إدراك أن الموقع الجغرافي للولايات المتحدة يحميها طبيعياً من معظم الاضطرابات التي تواجهها أوراسيا. نتيجة لذلك، يرفع الشعب معيار القبول بالتدخل العسكري، ما يُعتبر بالتأكيد تصرفاً منطقياً. إذن، إن كان الشعب قد بدأ يحد من دعمه موازنة الدفاع الضخمة، فربما على تلك النخبة أن تصغي بتأن إلى ما يقوله. على سبيل المثال، أراد كثيرون من النخبة اتخاذ خطوة ما في المسألة السورية. لكن الشعب الأميركي رفض وأجاب: هل أنتم جادون؟

تُعتبر المخاطر الراهنة والمستقبلية أشد خطورة وأقل وضوحاً مما كانت عليه في أي مرحلة سابقة. فترابط العالم والقدرة التكنولوجية على الاستهداف عن بعد يجعلان حاجز المحيطات أقل فاعلية في حماية الولايات المتحدة، مقارنة بما كان عليه سابقاً. ولكن على النخبة أن تبذل جهداً أكبر لتوضح هذا الواقع للشعب. وعلى القوات المسلحة خصوصاً أن تسعى بدأب لتفسر للشعب المشكك لمَ هو بحاجة إليه تماماً كما في الماضي. ولا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن المنصات الجوية والبحرية تتطلب التمويل الضروري، حتى لو لم نرَ أي تهديد واضح يلوح في الأفق، لأن تصميمها وبناءها يستغرق سنوات.

يُعتبر الشعب الديمقراطي، رغم كل حسه المنطقي، مهووساً بالعواطف المالية، خصوصاً في عصر استطلاعات الرأي المتواصلة. لذلك يبدو أقل حكمة في التخطيط للحالات الطارئة المستقبلية.

إذن، على القوات المسلحة والنخبة أن توضحا له لمَ نحتاج إلى الجيش في التصدي للحالات الطارئة، التي تقع باستمرار، ولمَ نحتاج إلى البحرية وسلاح الجو لحماية الممرات المائية والحفاظ بالتالي على النظام العالمي، الذي يعتمد على الولايات المتحدة.

ما عاد الدفاع يشكل هدفاً سهل المنال تضمن له التطورات الكبيرة في الحال موازنات ضخمة. فسيطالب الشعب من اليوم فصاعداً بتوضيحات عميقة ومفصلة.

back to top