حوار الطرشان حول الأزمة الأوكرانية

نشر في 12-04-2014
آخر تحديث 12-04-2014 | 00:01
إذا كانت واشنطن غير مستعدة لعقد صفقة كبيرة مع روسيا حول شبه جزيرة القرم، ومع احتمالات اندلاع النزاع في شبه الجزيرة الكورية، والانهيار الواضح لمبادرة كيري الطموحة في سلام الشرق الأوسط، فقد تكتفي إدارة أوباما بمنع الأزمة الأوكرانية من التحول إلى صراع مفتوح.
 ناشيونال إنترست لم يكن الأمر مفاجئاً أن تنتهي محادثات الاجتماع الطارئ الأخير بين وزير الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف في باريس من دون تحقيق تقدم حاسم. فمن أجل حل الأزمة في أوكرانيا تبدو الولايات المتحدة غير مستعدة لابرام اتفاق مع موسكو التي تتبع نمطاً يعود إلى القرن التاسع عشر، كما أنها لم تبد استجابة تتماشى مع نمط القرن الحادي والعشرين من شأنها تغيير الحسابات الروسية.  ويشعر الكرملين بحيرة إزاء عدم استجابة واشنطن بقدر أكبر لطرحه المتعلق بتحقيق تسوية في أوكرانيا تفضي إلى جعلها دولة لا مركزية وفدرالية وحيادية، ففي نهاية المطاف، سبق اعتماد ترتيبات مماثلة في منتصف القرن العشرين في ما يتعلق بالوضع في فنلندا والنمسا ولاوس، وبموجب ذلك التصور، سيتوافر لدى الولايات المتحدة بعض أوراق المساومة التي تخدم مصالحها في أوكرانيا عبر ذلك الاتفاق، ومن خلال قدر التنازل عن السلطة الذي قد يسمح للأقاليم المؤيدة لروسيا في أوكرانيا بإقامة علاقات أوثق مع موسكو، فإن ذلك الوضع سيتيح أيضاً ربط الأجزاء الموالية للغرب في البلاد ضمن علاقة أوثق مع أوروبا.

وإذا كان الالتزام الرسمي بالحياد يعني عدم قدرة أوكرانيا على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي- وهي إمكانية استبعدها الرئيس باراك أوباما في المستقبل المنظور- وأن تكتفي بمشاركة فضفاضة بقدر أكبر مع الاتحاد الأوروبي، فإن ذلك سوف يمنع كييف أيضاً من التعرض للسرقة من جانب مخطط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول "اتحاد أوراسيا" أو المنظمة الحالية للأمن الجماعي بقيادة روسيا. ولاشك أن وضع شبه جزيرة القرم يعتبر مشكلة منفصلة، لكن حتى في ظل تلك الحالة، فقد ألمح البعض إلى إمكان إبرام صفقة مبادلة تقبل أوكرانيا بمقتضاها بأن تخسر شبه الجزيرة مقابل تنازل موسكو عن ديون مستحقة لها على كييف فضلاً عن تأمين إمدادات طاقة بأسعار مخفضة.

الموقف الأميركي

لكن السياسة الخارجية الأميركية اليوم ليست ملائمة لتحقيق مثل تلك الاتفاقات الكريهة والمشبوهة التي تستند إلى ما يقال عنه سياسة الأمر الواقع، وتتلاعب بمصاير الدول وكأنها أحجار يتم تحريكها على رقعة شطرنج. ثم إن ثمة اعتراضين من جانب الرئيس أوباما على عقد أي نوع من الاتفاقات مع موسكو حول أوكرانيا.

الاعتراض الأول يتمثل بأن البعض يرى أن روسيا تتصرف من منطلق ضعف، وهي نظرية أخرى ترددت على لسان أوباما في خطاباته الأخيرة، وأن نظام بوتين بات هشاً. فإذا كان بوتين يقف في طابور القادة المرشحين للإطاحة بهم في موجة الاضطرابات الشعبية، فلم يتعين على واشنطن عقد أي اتفاق يضفي شرعية على أطروحة منطقة نفوذ روسية في المجال الأوراسي؟ كما أن أنواع الاتفاقات التي اضطر رؤساء مثل دوايت آيزنهاور أو جون كينيدي إلى إبرامها مع القوة السوفياتية العظمى لا تنسحب على روسيا التي تعتبر مجرد "قوة إقليمية" وليست نداً منافساً للولايات المتحدة.

ويتسم الاعتراض الثاني بقدر أكبر من العقائدية: يتعين على الولايات المتحدة ألا تساوم على اعتقادها في أن كل دولة يجب أن تكون حرة في تقرير سياستها الداخلية وتوجهها الجيوسياسي من دون أي نوع من الضغط من جانب جيران أكثر قوة. (وقد تشكل دول أميركا اللاتينية جزئية مثير للشكوك حيال التزام أميركا بهذا المبدأ). وإذا أرادت أكثرية سكان أوكرانيا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي- على الرغم من أن استطلاعات الرأي تظهر العكس- يتعين عندئذ تمكينهم من متابعة المحادثات مع الحلف من دون النظر إلى اعتراضات روسيا. والجدال المنفصل والمتعلق بهذا الشأن هو ما اذا كان حلف شمال الأطلسي ملزماً بالتطبيق، وقد ترغب أوكرانيا الى حد كبير في دخول التحالف، ولكن الدول الحليفة الأخرى يمكن أن تتساءل بشكل معقول عمّا إذا كانت أوكرانيا تمثل بالنسبة إليهم منفعة صافية أم عبئاً ثقيلاً- ومن ثم الحكم على ملاءمة التطبيق وفقاً لذلك.

ولكن الولايات المتحدة لم توضح موقفها حيال تلك النقطة، كما لم تحدد سواء بالنسبة إلى الأوروبيين أو الروس، مدى أهمية الدفاع عن هذا المبدأ في السياسة الخارجية الأميركية. وإذا كان مؤشر صنع السياسة الأميركية يتجسد في تحديد أي دولة يمكن الموت من أجلها، أو الإمسك بالسلاح والقتل من أجلها، أو بذل المال من أجلها، فإن ما يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة ليست راغبة في القيام بعمل عدائي من أجل الدفاع عن أوكرانيا.  فالأميركيون بالتأكيد ليسوا راغبين في الموت من أجل مبدأ حرية الاختيار في أوكرانيا، ولا حتى من أجل ردع قوة إقليمية متقلصة مثل روسيا من الحصول على مستوى من الحصانة ضد "التعرض للقتل" في ضوء قوتها العسكرية التقليدية وردعها النووي، كما أن الولايات المتحدة ليست قادرة على قصف القوات الروسية بالطريقة ذاتها التي اتبعتها في ضرب قوات سلوبودان ميلوسيفتش في الصرب أو معمر القذافي في ليبيا.

وقد بدا من خلال ما تبنته الولايات المتحدة من سياسات عسكرية في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين أنها لم تكن سياسات مجدية وافتقرت إلى الحصافة.

سلاح العقوبات

ويتركنا هذا أمام خيار الدفع، وفي حقيقة الأمر وبينما يظل الردع العسكري على الطاولة إذا اشتبكت روسيا مع حلفاء حلف شمال الأطلسي الحاليين، فإن هناك إجماعاً طاغياً بأن الأداة الوحيدة المتاحة لمواجهة مزيد من التوغل الروسي في أوكرانيا تتمثل بالعقوبات. وسبق للولايات المتحدة أن فرضت سلسلة من العقوبات الرمزية إلى حد كبير، وذلك على الرغم من أن توقف العلاقات بين حلف شمال الأطلسي وروسيا والتعاون "غير الأساسي" في الفضاء يمكن أن يؤثر بقدر أكبر في مجالات كانت مفيدة لروسيا. ثم إن اتخاذ مزيد من الإجراءات الأكثر أهمية التي تستهدف قطاعات المال والطاقة والدفاع الروسية من الولايات المتحدة، وربما من حلفائها الأوروبيين، سوف تنعكس بقوة على الاقتصاد الروسي- لكنها سوف تؤثر أيضاً في الاقتصادات الغربية بشدة. ويبدو أن روسيا مقتنعة بأن هذه الإجراءات القاسية لن تستخدم من أجل إرغام موسكو على الانسحاب من شبه جزيرة القرم إنما في حال قيامها بمزيد من التوغل في أوكرانيا. وبكلمات أخرى فإن الولايات المتحدة، في هذه المرحلة، ليست مستعدة لدفع الكثير من أجل فرض العودة إلى الوضع الذي كان قائما قبل شهر مارس الماضي.

ويبدو أن الغرب ليس لديه الرغبة أيضاً في تحمل أعباء على الأجل القصير من أجل إنجاز هدف طويل الأمد. كانت هناك أحاديث كثيرة حول كيفية تقليص أوروبا لاعتمادها على إمدادات الطاقة الروسية، وهي أحاديث لا تختلف كثيراً عن مثيلتها التي تواترت في العقد الماضي حول انهاء اعتماد واشنطن على المملكة العربية السعودية كمزود رئيسي للطاقة للولايات المتحدة وحلفائها، ولكن في الحالتين فإن رخص الإمدادات الراهنة وموثوقيتها يجعلان من الصعب توفير الإرادة السياسية لتحمل تكلفة التنويع. وبعد هدوء غبار الحدث بشأن شبه جزيرة القرم هل تستخلص الدول الأوروبية أن في وسعها، كما فعلت بعد أحداث سنة 2008 بين جورجيا وروسيا، التعايش مع فكرة قيام موسكو بإعادة رسم جزئي لخارطة ما بعد العهد السوفياتي في مقابل عودة إمدادات الطاقة الروسية؟ وهل تقوم الولايات المتحدة التي كانت مترددة في تمويل مشاريع طاقة جديدة رئيسية تتجاوز روسيا في أوراسيا الكبرى، بتمويل مبادرات جديدة تساهم في تخفيف اعتماد الأوروبيين على الغاز الروسي؟ لا توجد أجوبة واضحة في هذه المرحلة.

ماذا بعد؟

إذا كانت الولايات المتحدة ليست مستعدة لعقد صفقة كبيرة مع روسيا حول شبه جزيرة القرم وأوكرانيا، ولن تتخذ أيضاً خطوات حاسمة من أجل عكس مسار المكاسب الروسية فماذا بعد؟ مع احتمالات اندلاع النزاع في شبه الجزيرة الكورية، والانهيار الواضح لمبادرة جون كيري الطموحة في سلام الشرق الأوسط، فقد تكتفي إدارة أوباما بمنع الأزمة الأوكرانية من التحول إلى صراع مفتوح، ولكن خلال أقل من شهرين، وبمجرد إجراء الانتخابات في أوكرانيا ووصول حكومة دائمة إلى السلطة في العاصمة كييف سوف يتعين الرد على هذه الأسئلة.

* نيكولاس غفوسديف | Nikolas Gvosdev

back to top