الهرب من كوريا الشمالية... درب الحرية الطويل

نشر في 27-10-2013 | 00:02
آخر تحديث 27-10-2013 | 00:02
منذ أكثر من عشر سنوات، هرب ضابط عسكري سابق من كوريا الشمالية نحو الجنوب بعد اتهامه بالإهمال وتهديده بالموت. ينسِّق الآن عمليات هرب أبناء وطنه الكوريين الشماليين. لكن غالباً ما يشمل ثمن الحرية حياة الأحباء الذين مكثوا في بلدهم.
كان كيم يونغ هوا يجلس في مكتبه منذ السادسة صباحاً ويدخن ويشتم وينتظر. إنه مكتب صغير في سيول، عاصمة كوريا الجنوبية، وكان بابه فولاذياً ورمادياً وله قفل أمان مزدوج. رن الهاتف أخيراً. قال صوت خافت على الطرف الآخر من المكالمة: {ارتفع مستوى الماء في النهر. ستكلف العملية مبلغاً إضافياً}.

تتعلق تلك المحادثة بثلاثة رجال وامرأتين وطفلين من كوريا الشمالية. ينتظرون على نهر تومين الذي يشكّل الحدود الفاصلة بين بلدهم والصين. يريدون الهرب لكنهم لا يجيدون السباحة. يريد المتّصل، وهو مهرّب يعمل لحساب كيم، أموالاً إضافية (ما يساوي 30 يورو أو 41 دولاراً للفرد) لسحبهم نحو الجانب الصيني بِحبل. صرخ كيم على الهاتف: {المال في طريقه إليك. إجلبهم إلى هنا. المال موجود}.

تعامل كيم (60 عاماً) مع مواقف مماثلة كثيرة في العقد الماضي. خلال تلك الفترة، ساعد حوالى 7 آلاف شخص للهرب من كوريا الشمالية. كان يرتدي قميصاً بأكمام قصيرة وسترة سفاري وسروالاً ضيقاً. تظهر تجاعيد عميقة على بشرة جبهته التي أحرقتها الشمس. يقع مكتبه على بُعد أكثر من 50 كلم من الخط الفاصل الذي يقسم شبه الجزيرة الكورية، لكنه يعيش عملياً بين العالمين.

كان كيم موجوداً على الجانب الآخر في السابق، عندما كان ضابطاً موالياً جداً للنظام في جيش كوريا الشمالية. علّمته خبرته طريقة عمل النظام وكيفية التفوق عليه. يهرّب الهواتف الخلوية إلى البلد، ويبني قنوات معلومات سرية، ويرشو المسؤولين كي يُصدروا تصاريح سفر مزيفة وحرس الحدود كي يُغفل عن مرور الهاربين في اللحظة المناسبة.

بعد سماع القصص التي يسردها المنشقون عن كوريا الشمالية أثناء وجودهم في سيول، يسهل أن نفهم السبب الذي جعلهم يجازفون بكل شيء للهرب من النظام. على الصعيد الرسمي، توفر {جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية} جميع أساسيات الحياة لمواطنيها. لكن في الحقيقة، بالكاد يستطيع البعض الصمود من دون السوق السوداء أو حديقة خاصة في الجبال كي يحصلوا على الأقل على ما يأكلونه.

يسرق الجنود الجائعون إمدادات المزارعين ليلاً بحسب قول عمّال المزارع والمنشقين العسكريين معاً. وفق امرأة عمرها 41 سنة كانت قد هربت من محافظة هامكيونغ الجنوبية، طلب الأبناء الراشدون لثنائي آخر في بلدتها من أهلهم الانتحار كي يتراجع عدد الأفواه التي يجب إعالتها في العائلة. وقد فعل الأبوان ذلك بحسب قولها.

{تآكل من الداخل}

كيم كوانغ جين خبير مالي كان قد هرب من كوريا الشمالية وهو يتحدث لغة إنكليزية مثالية. كان يتولى منصباً بارزاً داخل الحزب الشيوعي في كوريا الشمالية. بصفته ممثل بنك شمال شرق آسيا الكوري الشمالي في سنغافورة، كان يتنقل ذهاباً وإياباً بين ذلك البلد وبيونغ يانغ، حتى اليوم الذي قرر فيه عدم العودة إلى دياره.

كيم كوانغ جين أحد المنشقين الرفيعي المستوى عن أوساط النظام الداخلية. مثل مساعد اللاجئين كيم يونغ هاو ومنشقين كثيرين آخرين، يعيش في سيول. يعمل الرجلان على تحقيق هدف مشترك: إسقاط النظام الذي يحتجز الجميع كرهينة لديه. تشمل هذه الممارسات جميع الأشخاص الذين ما زالوا هناك فضلاً عن أولئك الذين غادروا وباتوا يخافون على حياة أقاربهم. يعاقب النظام الأقارب بسبب ما فعله كل من تجرأ على المغادرة.

لا يزال المصرفي السابق يتقابل في الخارج مع زملائه المصرفيين الذين يُفترض أن يكونوا موالين للنظام، فيطلقون العنان لأنفسهم حين يتواجدون معاً. يقول إن النخبة وحدها (بما في ذلك أعضاء الشرطة السرية والضباط العسكريين والقضاة وكبار المسؤولين الحكوميين) لا تزال تتلقى كميات غذائية يومية أو ما يُسمى {المؤن}. يعيش كثيرون في وسط مدينة بيونغ يانغ، في المقاطعة الحكومية التي تحيط بشارع تشانغ وانغ. تبدو المنطقة أشبه بزقاق كارل ماركس في برلين، وهو شارع عريض في الجزء الشيوعي السابق من العاصمة الألمانية وتصطف على جانبه مباني تتألف من شقق كبيرة فيها سبع أو ثماني غرف مع حمّامَين أو ثلاثة.

يحصد النظام الدعم من مجموعة أتباع تتألف من مليونَي ونصف شخص في العاصمة وفي بعض المدن الكبرى الأخرى التي تستفيد من امتيازات دائمة بحسب قول كيم كوانغ جين. لكن يواجه النظام في المقابل مشكلة {التآكل من الداخل}. إذا انهار النظام يوماً، يعتبر كيم أن الناس سينتقمون من الدكتاتور كيم جونغ أون {على طريقة تشاوشيسكو أو صدام حسين».

تريد الصين، جارة كوريا الشمالية النافذة، منع أي انهيار مماثل لأنه قد يؤدي إلى انتشار الفوضى واندلاع الثورة. تدعم بكين بيونغ يانغ اقتصادياً، ما يشرح انتشار السلع الفاخرة على نحو صادم في عاصمة كوريا الشمالية: سيارات {بي إم دبليو}، شاشات تلفزيون مسطحة، عطور {غوتشي}، أقراص مدمجة من الولايات المتحدة. ولا يمكن شراء هذه السلع طبعاً إلا بالعملة الصعبة.

يسافر أحد القطارات ذهاباً وإياباً بين بيونغ يانغ ومدينة داندونغ الصينية الحدودية. في رحلة العودة، تمتلئ حجرات القطار بالسلع الفاخرة وتبدو أجواء مقصورة الطعام أشبه بالفوضى التي طبعت تنقّل الضباط خلال الحقبة الإمبريالية في أوروبا. تعج الطاولات بالمأكولات الدسمة ويحتضن الضباط الكوريون الشماليون الفتيات أثناء تدخين السجائر مع وجبة الطعام الأساسية التي بالكاد يلمسها أحد.

موثوق بما يكفي لإعدام الآخرين

على الجانب الآخر من الخط الفاصل، في مكتب كيم يونغ هاو حيث الباب فولاذي ورمادي والقفل مزدوج، يجمع هاو المعلومات عن بلده السابق. هو معروف جداً ولا يُغفل عن شيء. يستعمل أحياناً ثلاثة هواتف دفعةً واحدة ويحب أن يبقى دائم الانشغال، وتراه يتجنَّب الصمت لأنه يخشاه. وصل منشقون جدد للتو، وهما أخوان، ويجب أن يمر كيم بمتجر الملابس الذي يملكه ليجلب لهما أغراضاً جديدة.

هرب كيم من كابوس الدكتاتورية في كوريا الشمالية منذ فترة طويلة. لقد عبر بدوره النهر في إحدى المرات لكنه لم يترك ماضيه وراءه بعد. يدرك الأشخاص القلائل الذين شاركهم كيم قصته الكاملة أن أصعب جزء يتعلق أحياناً بمسامحة الذات.

كانت عائلته تنتمي إلى النخبة الحاكمة. حارب جده اليابانيين مع العصابات التي قادها كيم إيل سونغ، مؤسس البلد، وقد أُصيب والده في الحرب الكورية. كان يصطحب ابنه إلى المدرسة في سيارة {مرسيدس}. سار الابن على خطى والده وأصبح ضابطاً عسكرياً. كان مسؤولاً عن أمن سكة حديد مهمة على طول الساحل الشرقي.

تتعلق أبرز الأحداث التي طبعت مسيرته العسكرية باتصال تلقاه من وزارة الأمن العام حين كان نقيباً، فأبلغته شخصية بارزة بأنه اختير لإعدام مسؤول حزبي. يقول كيم: {انتابني فرح عارم. كان الأمر يعني أنهم يثقون بي وأنني أنتمي إليهم وأن حياتي بأمان}.

في يوم الإعدام العلني، احتشدت مجموعة من المتفرجين لمشاهدة خمسة جنود وهم يطلقون النار على خمسة معتدين. كان السجناء المُدانون معصوبي العينين ومربوطين بأوتاد خشبية. رسم كيم على جزء من صحيفة رسماً عن طريقة سير هذه العمليات في كوريا الشمالية.

كان ضحية كيم يبدو في منتصف الأربعينات. قيل إن ذلك الرجل ارتكب غلطة فادحة حين زعم أن فلسفة كيم إيل سونغ غير مقنعة من دون تعاليم ماركس ولينين.

أطلق كيم النار على ذلك الرجل بالسلاح الذي يستعمله أثناء الخدمة العسكرية، فاستهدف أولاً الصدر ثم الرأس وأخيراً المعدة، كي ينحني رأسه نحو الأمام. هكذا كانت القواعد بحسب قوله. بعد عملية الإعدام، طُلب من الأقارب أن يرموا الحجارة على الجثث كي يثبتوا أنهم يحبون زعيمهم أكثر من أفراد عائلتهم.

ثمن مروّع

يقيم حوالى 25 ألف شخص من مواطني كوريا الشمالية (عددهم 24 مليون نسمة) في كوريا الجنوبية. وصل أكثر من 1500 شخص في عام 2012 وحده. يموت كثيرون على الطريق بسبب الجوع أو يتجمدون حتى الموت أثناء عبور جبال تشانغباي في المنطقة الحدودية الواقعة بين كوريا الشمالية والصين. لا يزال بعض الجثث موجودة هناك وهي محفوظة في الجليد.

بالنسبة إلى الناجين، تطرح السلطات الصينية تهديداً إضافياً لأن بكين تعتبرهم {لاجئين اقتصاديين} وتعيدهم إلى كوريا الشمالية. كقاعدة عامة، كل من يعود إلى كوريا الشمالية يتم إرساله إلى معسكر عمل أو يتم إعدامه بحسب طبقته ودوافعه.

مع ذلك، يختبئ 250 ألف كوري شمالي على الأقل بطريقة غير شرعية في الصين. يقيمون في زوايا مظلمة من المجتمع الصيني ويمارسون الدعارة الإجبارية، أو يجمعون النفايات، أو يعملون بأجور متدنية، وهم يعيشون في خوف دائم من اكتشاف أمرهم.

حقائق خفية

قابل كيم منشقاً آخر هو جانغ جين سونغ بعد مجيئه إلى كوريا الجنوبية. يبلغ جانغ 41 عاماً ويسمح له عمره بأن يكون ابن كيم. وجهه دائري وسلوكه لطيف وودي. كان يعمل لصالح جهاز الاستخبارات الكورية الشمالية وفي الحملات الترويجية، وكان متخصصاً بالحرب النفسية. كان يكتب عبارات الثناء لزعيم البلد في تلك الفترة لكنه انشق عن النظام في عام 2004.

جانغ يعرف جيداً الأوساط الداخلية التي تحيط بالدكتاتور كيم جونغ أون. نشأ في الطبقة الأكثر تميزاً ولا يزال يتواصل مع معارف له في كوريا الشمالية ويتلقى منهم تفاصيل عن الحزب والنظام.

من خلال موقعه الإلكتروني الناطق باللغة الإنكليزية (New Focus International)، ينشر جانغ الآن معلومات عن النخبة الحاكمة بشكل يومي. على سبيل المثال، طبع لائحة من شخصيات النظام التي انشقت وكتب أيضاً أن {الزعيم المحترم} كيم جونغ أون وزع نسخاً من كتاب {كفاحي} لهتلر إلى مجموعة صغيرة من المقربين منه. نشر جانغ حديثاً صورة تم التقاطها عبر الأقمار الاصطناعية للمنزل الفخم الذي تقيم فيه عمة الملك جونغ أون النافذة، وأعلن نيته جمع ألبوم على الإنترنت لمنازل العائلة النافذة في كوريا الشمالية.

أعلنت {وكالة الأنباء المركزية الكورية} الرسمية في بيونغ يانغ أن جانغ هو رجل {سافل} وهي تهدد دوماً بـ}إبادته}. من باب الاحتياط، خصصت له حكومة كوريا الجنوبية فريقاً أمنياً لحمايته على مدار الساعة.

من ضابط إلى سجين

إنها الساعة الرابعة من بعد الظهر. استعمل كيم يونغ هوا هاتفه الخلوي لنقل المال إلى المهربين في الصين. يجب اصطحاب المنشقين السبعة إلى أحد المنازل الآمنة التي خصصتها منظمة كيم في الصين، وهي {جمعية حقوق اللاجئين من كوريا الشمالية}. انطلاقاً من هناك، يهرّبهم المعاونون إلى فيتنام أو لاوس. بعد ذلك، يصطحبونهم إلى تايلاند حيث يصبحون بأمان أخيراً لأن تايلاند لا تسلّم الهاربين إلى كوريا الشمالية.

أغلق كيم قفلَي مكتبه وراح يجول في الشارع وجلس في مطعم صغير حيث تناول وجبة من اللحم المطبوخ على الفحم مع الخضار المخلل، ثم تابع سرد قصته الخاصة.

في 13 يوليو 1988، انحرف قطار كان ينقل قطع دبابات روسية عن مساره في محافظة هامكيونغ الجنوبية. اتُهم كيم الذي كان حينها مسؤولاً عن أمن القطار بالإهمال لأنه لم يمنع الحادث.

فواجه تهديداً بأن يُعدم علناً أو أن تتبرأ منه عائلته. كان كيم في الخامسة والثلاثين من عمره وكان متزوجاً ولديه ثلاثة أولاد. يقول إنه كان أمام خيارين: الانتحار أو الانشقاق.

في الساعة العاشرة من إحدى الأمسيات، عبر كيم النهر نحو الجانب الصيني وكان يحمل مسدساً وبطاقة عضويته في الحزب في حقيبة ظهره.

قطع الطريق كلها سيراً على الأقدام نحو فيتنام حيث أُلقي في السجن. لكنه نجح في الهرب وعاد إلى الصين، ثم أخذ قارباً من هناك نحو كوريا الجنوبية حيث اشتُبه بأنه جاسوس واعتُقل وادعى أنه تعرض للتعذيب. كشف عن ندوب في رأسه وقدميه يقول إنها ناجمة عن تلك الحقبة.

بعد ثلاث سنوات، هرب كيم ووجد ملجأً له في كنيسة. حتى هذا اليوم، الكنيسة هي المنظمة الوحيدة التي يثق بها. تُعتبر الكنيسة المشيخية الكبيرة في سيول أبرز جهة مانحة لمنظمته.

غادر كيم كوريا الجنوبية وقصد اليابان حيث اشتُبه مجدداً بأنه عميل وأُلقي في السجن. أثناء وجوده في السجن، ألّف كتاباً عن قصته. ناضلت جماعات حقوق الإنسان لمساعدة كيم وتبنى أحد الوزراء قضيته وساعده على استعادة سمعته كلاجئ في كوريا الجنوبية.

حصل كيم على الجنسية الكورية الجنوبية في سيول في عام 2002 ودعته رئيسة كوريا الجنوبية بارك غون هاي في 15 أغسطس من هذه السنة ليكون ضيف شرف خلال استقبال رسمي احتفالاً بذكرى تحرير كوريا من اليابانيين.

حلو ومر

جلس كيم وهو يشبك ساقيه ويتناول وجبته. سبق وأفرغ القنينة الثالثة من مشروب السوجو المصنوع من الرز أو البطاطا. ثم أطلق دعابة شائعة بين اللاجئين الكوريين الشماليين: متى نعرف أننا وصلنا فعلاً إلى سيول؟ الجواب: حين يراودنا كابوس تدور أحداثه في كوريا الجنوبية. ضحك كيم. لا ينجو عدد كبير من الكوريين الشماليين من الجروح العاطفية عند الهرب من عالم كيم جونغ أون المظلم. ولا تفارقهم مشاعر الشك والخوف. تزوج كيم مجدداً ولديه الآن ابنة في الحادية عشرة من عمرها في سيول. لكنه وزوجته ينامان في غرفتين منفصلتين. يقول إنه يصرخ ويشتم أثناء نومه. قُدّمت له فاكهة ليتشي الطازجة والبودينغ والشاي، إلى جانب قنينة أخرى من مشروب السوجو. كان كيم قد شرب كمية كبيرة كما يفعل كل يوم. يشرب لينسى وليتمكن من النوم.

لكن قبل ذلك، سحب كيم صورة من كمّه الشفاف حيث يظهر كضابط شاب. وتُظهر صورة أخرى الأولاد الثلاثة الذين تركهم وراءه في كوريا الشمالية. لا يحب المنشقون أن يتحدثوا عن عائلاتهم لأنها تعاني معاناة مريرة دوماً.

يقول كيم إن زوجته وأولاده، بعد انشقاقه، أُعيدوا إلى معسكر الاعتقال الشهير {يودوك}. وفق كيم، فقدت زوجته صوابها وماتت بعد فترة قصيرة من إطلاق سراحها ثم مات الأولاد بعد إطلاق النار عليهم.

راح كيم يبكي. لم يستطع فعل شيء لإنقاذهم. يحرص الآن على خطف أكبر عدد ممكن من الأرواح من الدكتاتور بحسب قوله، ويهدف إلى جلب 10 آلاف شخص. هذا هو انتقام كيم كما يقول!

back to top