لمَ سيصمد الاتحاد الأوروبي؟

نشر في 29-04-2014 | 00:01
آخر تحديث 29-04-2014 | 00:01
No Image Caption
 Robert Kaplan  قد لا يكون التجمع الأوروبي موحداً حقاً إلا أنه سيمثّل عاملاً أساسياً في أوروبا إلى أجل غير مسمى، وسيتجلى ذلك بوضوح في السنوات القادمة، حين تفقد روسيا هيمنتها على أسواق الطاقة، وتعاني تراجعاً في عدد سكانها، وتتحجر في ظل حكم مستبد.

يترنح الاتحاد الأوروبي منذ نحو نصف عقد، متعثراً بسبب معدلات النمو المنخفضة أو السلبية ونسب البطالة العالية جداً، فأدى ذلك إلى تقسيم أوروبا جزئياً إلى دول (خصوصاً في الشمال) تمكنت من تفادي الأزمة وأخرى (خصوصاً في الجنوب) واجهت في بعض الحالات كارثة قاربت بمعدلاتها الإحصائية الكساد الكبير، ففي الجنوب الشرقي، عانت اليونان وقْعَ الأزمة الأشد، في حين تبدو بلغاريا من حين إلى آخر على شفير الفوضى السياسية، وتعكس هذه الانقسامات بدورها انقسامات الإمبراطوريات السابقة جغرافياً: الكارولنغية، والبروسية، وهابسبورغ، والبيزنطية، والعثمانية.

علاوة على ذلك، شهدت الحركة القومية، التي تجلت من خلال الأحزاب اليمينية المتطرفة الناهضة مجدداً، ما يُعتبر مؤشراً مقلقاً إلى اضطرابات الماضي التي ظنت النخب الأوروبية أنها تمكنت من تخطيها خلال الحرب الباردة، خصوصاً في السنوات التي تلت سقوط جدار برلين. من الواضح أن هذا التطور يعود في جزء كبير منه إلى الأزمة الاقتصادية، لكنه لا يقتصر على ذلك، بل يرتبط أيضاً بنفسية الإنسان. يتحدث نورمان مانيا، كاتب روماني منفي وبروفيسور في جامعة بارد، عن كيفية "مواجهة العالم العصري لعزلته ومسؤولياته من دون الاستعانة بتبعية حامية أو تماسك مثالي في مجتمعات طوباوية وهمية" كي يتمكن، حسبما يشير مانيا، كل أصحاب العقليات القبلية الإقصائية من الاستمرار في القرن الحادي والعشرين، بما يتيح للناس إيجاد ضالتهم المنشودة بالانضواء تحت لواء مجموعات متضامنة حامية لهم. نميل عادةً إلى ربط هذه الفكرة بالثورات التي ترتكز على رابط الدم أو الدين في أماكن مثل الشرق الأوسط أو إفريقيا، إلا أن أوروبا التي ترزح تحت أعبائها الاقتصادية لا تُعتبر محصنة ضد هذا التطور القاتم.

لا شك أن الحركة القومية لا تُعتبر بحد ذاتها مشكلةً، كما أوضح عام 2012 فلاديمير تيسمانيانو، أكاديمي من جامعة ماريلاند، في كتابهThe Devil in History: Communism, Fascism, and Some Lessons of the Twentieth Century (الشيطان في التاريخ: الشيوعية، الفاشية، وبعض دروس القرن العشرين). ذكر: "توصف هذه الحركة عادةً بالفوضوية، والمناهضة للحداثة، والتقليدية، أو باختصار بالرجعية. لكن تفسيرات أخرى تراها كقوة محرِّكة لليبرالية العصرية، وإحدى عقائد التحرر والعتق الجماعي، ومصدر كرامة الإنسان وفخره". وقد شهدنا بعض أوجه الحركة القومية الإيجابية في ثورة الأوكرانيين ضد هيمنة روسيا القيصرية الجديدة خلال عهد فلاديمير بوتين، أما وجهها الرجعي، فتجلى من خلال الحركات المناهضة للمهاجرين في مختلف أرجاء أوروبا. وبما أن الشعب الأوروبي يتقدم في السن، فستزداد الحاجة إلى عدد أكبر من المهاجرين بمرور الوقت بغية مدّ الاقتصادات الأوروبية باليد العاملة؛ لذلك نتوقع أن يتواصل هذا الحماس اليميني وينمو.

إذاً، ثمة أسباب عدة تدفعنا إلى النظر بتشاؤم إلى المشروع الأوروبي، فمن المستبعد أن تنجح الآلية البيروقراطية البطيئة في بروكسل، التي تتخبط وسط المصالح الوطنية المتنافسة، في تحقيق الطاقات الإصلاحية الضرورية لإعادة القارة إلى النمو السليم والمستدام. على سبيل المثال، تبدو الاختلافات التنموية بين شمال أوروبا وأيبيريا والبلقان أعمق من أن تسمح بإنشاء قارة أوروبية تسير بسرعة واحدة في المستقبل القريب. كذلك من غير المحتمل أن تقدّم الولايات المتحدة المنهمكة بآسيا والشرق الأوسط لأوروبا في القرن الحادي والعشرين النوع المتين ذاته من المظلة الأمنية الذي مدتها به في عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، بغض النظر عمّا يعلنه الرئيس باراك أوباما راهناً، وأخيراً، يتطلب الفتور الشائع في مرحلة ما بعد الحياة العصرية، هذا الفتور الذي أشار إليه مانيا، استمرار هويات جماعية ستكون في أوقات كثيرة رجعيةً.

لا شك أن الضرورة تُعتبر في المسائل الجيو-سياسية أكثر أهمية من الرغبة، ومن المؤكد أن قارة أوروبية متعثرة اقتصادياً، ومثقلة بأعباء القومية، ولا تتمتع بحماية كافية من الولايات المتحدة، تعكس ضرورات بيروقراطية ونفسية واستراتيجية. صحيح أن الرغبة قد لا تتفوق على الضرورة، إلا أنها تبقى مهمة رغم ذلك، وهنا يكمن مستقبل الاتحاد الأوروبي.

نجح بروفيسور جامعة يال تيموثي سنايدر في كتابه The Reconstruction of Nations: Poland, Ukraine, Lithuania, Belarus, 1569-1999 (إعادة بناء الأمم: بولندا، أوكرانيا، ليتوانيا، روسيا البيضاء، 1569-1999) عام 2003 في توضيح قوة جذب الاتحاد الأوروبي باقتضاب، ففي الجزء الأخير من عمله هذا، يتناول نظرة الحركة القومية البولندية المنوَّرة في أواخر الحرب الباردة وبعدها إلى احتمالات المصالحة التاريخية مع الدول المجاورة، مثل ليتوانيا وأوكرانيا، ضمن إطار اتحاد أوروبي يشدد على فوائد الدول لا سلبيات الأمم. وتعني الدول في هذا السياق الكيانات القانونية المبيَّنة التي تحكمها بيروقراطيات متجردة تعامِل كل المواطنين بالتساوي، مقدّمةً بالتالي الحقوق الفردية على حقوق الجماعة، أما الأمم، فتشير في هذا السياق إلى ظاهرة إثنية أو دينية تنظر إلى الناس كجزء من مجموعات، ما يجعلها تعامِل بعضهم كما لو أنهم أسمى من الآخرين.

لا شك أن المظلة الأمنية الأميركية، التي تمتع بها غرب أوروبا خلال الحرب الباردة، هي ما سمح بولادة الاتحاد الأوروبي وتطوره. بكلمات أخرى، لولا حلف شمال الأطلسي لما نشأ الاتحاد الأوروبي، لكن هذا الاتحاد هو مَن قدّم الرؤية وإطار العمل البيروقراطي لدول مثل بولندا وأتاح لها، إذا جاز التعبير، الهرب من ماضٍ عصيب إلى حاضر أكثر إنسانية وشمولية. لا تُعتبر الأوضاع الجيو-سياسية المؤاتية كافية وحدها، فثمة حاجة إلى آلية محلية ضخمة وبرنامج محدد لاستغلال هذه الأوضاع. وهذا ما مثله الاتحاد الأوروبي بادئ الأمر بالنسبة إلى بولندا وإلى الكثير من المتظاهرين أخيراً في الميدان في كييف. وهنا تكمن قوة الاتحاد الأوروبي: في مستقبل يحمل واقعاً مختلفاً عن الماضي، ويجب ألا نستخف مطلقاً بقوة الرمزية، خصوصاً في عصر الإعلام هذا.

إذاً، علينا أن نتوخى الحذر وألا نفرط في الاعتماد على الواقعية في محاولتنا توقع مستقبل الاتحاد الأوروبي، فقد تكون الواقعية بحد ذاتها محدودة، فكما أن الحياة لا تقتصر على المصلحة الذاتية، كذلك لا تقتصر الحياة الوطنية على المصلحة الوطنية. غالباً ما يطمح الأفراد والشعوب إلى حقيقة أسمى لا تكون عملية بالضرورة، وقد لا تكون الدوافع العالمية حذرة بالضرورة، إلا أنها تحرّك، رغم ذلك، سياسات بأكملها. ولهذا السبب ستخفق على الأرجح أي مسائل جيو-سياسية تستند إلى التفاعلات الآلية والتقنية فحسب. بالاستناد إلى ذلك، كان يُفترض أن يكون الفشل مصير المتظاهرين في ميدان الاستقلال في كييف، فكان يُفترض أن تتراجع معنوياتهم بسبب عدم المبالاة المتفشي في مناطق أخرى من أوكرانيا، وكان يُفترض أن تفقد تظاهراتهم أهميتها مع انضمام المتظاهرين اليمينيين المتطرفين إليهم في مرحلة لاحقة، لا شك أن ما قام به المتظاهرون الأساسيون في الميدان لم يكن حذراً بالضرورة، متوقعين الإطاحة (بدعم غير أكيد من الغرب) بالنظام المجرم الذي ترأسه حليف بوتين، فيكتور يانوكوفيتش، لكنهم نجحوا في النهاية. ويعود هذا النجاح في جزء منه إلى أنهم آمنوا برؤية أوروبية مماثلة للاتحاد الأوروبي. لربما لم يشأ الاتحاد الأوروبي التوسع شرقاً بزخم، إلا أن هذا ما أراده الكثير من المتظاهرين.

لهذا السبب، لا أعتقد أن الاتحاد الأوروبي مجرد مرحلة في التاريخ. على العكس، يشكّل هذا الاتحاد بداية نوع من التجمّع الإقليمي توحده قيم شاملة، فقد لا يكون هذا التجمّع موحداً حقاً من أيبيريا إلى بحر البلطيق، إلا أنه سيمثّل عاملاً أساسياً في أوروبا إلى أجل غير مسمى، وسيتجلى ذلك بوضوح في السنوات القادمة، حين تفقد روسيا هيمنتها على أسواق الطاقة، وتعاني تراجعاً في عدد سكانها، وتتحجر في ظل حكم مستبد. صحيح أن رؤية النخب الأوروبية كانت قبل عقد من الزمن طموحة جداً، لكن هذا لا يعني البتة أن عصر الاتحاد الأوروبي قد ولى، فمستقبل الاتحاد الأوروبي يبدو أكثر إشراقاً من مستقبل روسيا.

back to top