حالات الانتحار في الربيع تُحيّر العلماء

نشر في 04-04-2014 | 00:01
آخر تحديث 04-04-2014 | 00:01
كل يوم، ينتحر 105 أشخاص في الولايات المتحدة. والمفارقة أن الكثير من هؤلاء يقدمون على خطوة مماثلة حين يكون الطقس دافئاً والشمس مشرقة.
تذكر بعض المقولات الشعبية أن فصل الشتاء يشهد كمّ عمليات الانتحار الأكبر، بما أن الطقس البارد القاتم يُفاقم عوارض الكآبة، في حين تشير خرافة أخرى إلى أن عمليات الانتحار تكثر خلال العطل، حين يشعر البؤساء أنهم محرومون من فرح العيد.

لكن الدراسات التي تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر تكشف أن عمليات الانتحار تبلغ ذروتها في الربيع وحدّها الأدنى في الشتاء. تناولت دراسة، أجريت سنة 1995 ونُشرت في مجلة Social Science and Medicine، معدلات الانتحار الشهرية في 28 بلداً. فلاحظت أن عمليات الانتحار في 25 منها في النصف الشمالي من الكرة الأرضية تكثر في مايو وتتراجع في فبراير. كذلك توصلت دراسات أخرى إلى اكتشافات مماثلة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية. ففي جنوب أفريقيا مثلاً، تصل عمليات الانتحار إلى ذروتها خلال الربيع الجنوبي بين سبتمبر وأكتوبر، وفق دراسة أجريت سنة 1997 ونُشرت في مجلة Psychiatry Research.

ما زال سبب هذا التفاوت بين الفصول مجهولاً، ولكن ثمة إشارات عدة. يعزو  بعض الباحثين ذلك إلى مناخ المخالطة الاجتماعية أو توسعها وانحسارها، في حين يلقي آخرون اللوم على العمليات الالتهابية التي تكثر في الربيع.

الاختلاط الاجتماعي

ما زال بعض الباحثين يعتقدون أن الطقس قد يكون السبب وراء زيادة حالات الانتحار في الربيع. فمن الممكن أن مَن يعانون الكآبة يعجزون عن استجماع الطاقة الضرورية للمضي قدماً في خطة انتحارهم خلال فصل الشتاء، وفق الدكتور آدم كابلين، بروفسور متخصص في علم النفس والأعصاب في جامعة جونز هوبكنز في بالتيمور.

أخبر كابلين موقع Live Science: {يحل الربيع على الأرجح من دون أن ترتفع معنوياتهم. إلا أنهم ينشطون بما فيه الكفاية ليقتلوا أنفسهم}.

أما التفسير الاجتماعي، فيشير إلى أن مَن يعانون ميولاً انتحارية يواجهون تحديات أكبر، عندما يكون الطقس دافئاً، خصوصاً مع تزايد التفاعل الاجتماعي. نتيجة لذلك، قد يشعر مَن يعانون مشاكل مماثلة أنهم معزولون عن هذه الوفرة من النشاطات الاجتماعية. وقد يرون أن الجميع تخلصوا من عزلة الشتاء، باستثنائهم.

تدعم دراسة سنة 1995 لحالات الانتحار حول العالم هذه النظريات الاجتماعية. فقد اكتشفت أن تبدّل نسب عمليات الانتحار وفق الفصول تبدو أكثر بروزاً في الاقتصادات الزراعية، مقارنة بالصناعية منها. تبدو هذه الحالة أكثر وضوحاً في الدول الزراعية، في حين أن العمل في الداخل يخفف من تأثيرات المناخ ونور الشمس في الحياة الاجتماعية. لكن الباحثين لاحظوا في الدول الصناعية ذرى بسيطة أخرى، وخصوصاً في الخريف. وقد تعود هذه الذرى إلى بداية السنة الدراسية.

على نحو مماثل، حلل باحثون أكثر من 50 سنة من البيانات حول عمليات الانتحار في النظام الجنائي النمساوي. فاكتشفوا أن ما من دليل على تفاوت عمليات الانتحار في السجون مع تبدّل الفصول، حسبما أشارت دراستهم التي نُشرت عام 2014 في مجلة Psychiatry Research.

كتب الباحثون: {من خصائص المؤسسات الجنائية الأساسية الحد من احتمال التواصل والتفاعل الاجتماعي. ولا دخل لتبدل الفصول في هذه العزلة الاجتماعية}. نتيجة لذلك، استخلصوا أن تأثير الفرص الاجتماعية في معدلات الانتحار محدود في السجن.

نظرية {الالتهاب}

لا تُعتبر الضغوط الاجتماعية التفسير الوحيد المحتمل لارتفاع عمليات الانتحار في فصل الربيع. فيظن بعض الباحثين أن للتفاعلات الجسدية تأثيراً كبيراً.

لطالما ربطت الكآبة والأفكار والسلوك الانتحاريان بالالتهاب، ردّة فعل مزمنة في الجسم تظهر خلال فترات الإجهاد. يترافق الالتهاب مع فرط نشاط الجهاز المناعي وتمدد الأوعية الدموية. كذلك رُبط بحالات مزمنة تتراوح بين الربو ومرض القلب.

يذكر كابلين أن الرابط بين الالتهاب والكآبة تجلى بوضوح في دراسات عدة تناولت أنواعاً مختلفة، من الفئران إلى الإنسان. فقد توقفت الفئران التي حُقنت بمركبات تحفز الالتهاب عن التزاوج، الاختلاط بالفئران الأخرى، والعمل مقابل السكاكر. أما الأناس، الذين يعطون مادة إنترفرون-ألفا المعزِّزة لجهاز المناعة والمرتبطة بالالتهاب بغية معالجة التهاب الكبد ج، فيواجهون تأثيرات جانبية عدة، منها الكآبة. يوضح كابلين أن 25% من المرضى الذي يأخذون هذا العلاج يصابون بكآبة سريرية في غضون أسابيع. فضلاً عن ذلك، يُعتبر مرضى التصلب المتعدد الأكثر عرضة للكآبة، مقارنة بأي حالة طبية أو عصبية أو جراحية أخرى، وفق كابلين. والتصلب المتعدد، أحد اضطرابات المناعة الذاتية، من خصائصه ظهور الالتهاب في الدماغ والنخاع الشوكي.

في 2012، اكتشف باحثون في جامعة ولاية ميشيغان أن ارتفاع معدلات حمض الكينولين (مركب يحفّز الالتهاب إنتاجه) في السائل الشوكي يرتبط بالأفكار الانتحارية التي تراود الشخص. لكن هذا البحث تناول ذوي الميول الانتحارية فحسب، ولم يشمل مرضى الكآبة الذين لا يعانون أفكاراً مماثلة. رغم ذلك، تشير هذه الاكتشافات إلى أن الالتهاب في الجسم قد يؤثر في حالة الذهن.

إضافة إلى ذلك، يرى بعض الباحثين رابطاً بين هذا الالتهاب وفصل الربيع. ففي 2013، اكتشف باحثون دانمركيون علاقة بين الانتحار ومقدار رحيق الأشجار في الهواء. حلل هؤلاء الباحثون 13700 عملية انتحار ضمن مجموعة من 2.86 مليون دانمركي. فلاحظوا أن حالات الانتحار ارتفعت بنحو 6.5% عندما بلغت نسبة الرحيق 10 إلى 30 جزيئاً في كل متر مكعب من الهواء، مقارنة بالفترة التي خلا فيها الهواء من الرحيق تماماً. كذلك ارتبط بلوغ حبات الرحيق 30 إلى 100 بزيادة في الانتحار وصلت إلى 13.2%، حسبما أفاد الباحثون في مجلة BMJ Open.

ما يعزز أيضاً هذا الرابط مع الالتهاب واقع أن محاولات الانتحار رُبطت أيضاً بمعدلات تلوث الهواء، وفق دراسة أجريت عام 2010 على محاولات الانتحار التي نُقلت إلى غرف الطوارئ في مستشفيات فانكوفر بكندا. ونُشرت هذه الدراسة في مجلة Environmental Health Insights عام 2010.

يعتبر كابلين أن هذه النتائج، التي تربط الانتحار بأي تفاصيل تسبب الإزعاج والاستياء في البيئة، «مثيرة للاهتمام»، مع أن هذا الرابط يحتاج إلى براهين إضافية. ولكن يبدو جلياً أن معدلات الانتحار لا تقتصر على مسببات الحساسية، نظراً إلى الاختلافات السكانية والثقافية الواضحة التي تعكسها هذه المعدلات. ففي الولايات المتحدة مثلاً، يُعتبر الرجال البيض أكثر ميلاً إلى قتل أنفسهم، مقارنة بالنساء الأميركيات المتحدرات من أصول أفريقية اللواتي يُعتبرن الأقل ميلاً. رغم ذلك، تُستخدم العوامل المضادة للالتهاب اليوم مع الأدوية المضادة للكآبة لتعزز فاعليتها، ما يسلط الضوء على جذور السلوك الانتحاري البيولوجية.

يشير كابلين: «يُظهر هذا أن [الانتحار] قد لا يكون نتيجة ضعف ما، بل عيب في الشخصية على الأرجح. كذلك قد يكون نتيجة عامل بيولوجي بالغ الأهمية يؤدي إلى تدهور حالة الشخص ويوصله إلى حالة الكآبة السريرية المرضية التي تتطلب العلاج».

الانتحار في الولايات المتحدة

 وفق آخر البيانات الصادرة عن مراكز ضبط الأمراض والوقاية منها، وقعت 38364 حالة انتحار في الولايات المتحدة في 2010. نتيجة لذلك، يحتل الانتحار المرتبة العاشرة بين أسباب الوفاة في مختلف الأعمار، والثالثة بين أسباب الوفاة في سن الخامسة عشرة إلى الرابعة والعشرين. وقد تصدّر موضوع الانتحار عناوين الأخبار أخيراً مع موت لورين سكوت، مصممة أزياء اعتبرت الشرطة وفاتها حالة انتحار.

تُعتبر النساء أكثر صراحة في التعبير عن ميولهن الانتحارية، مقارنة بالرجال. لكن 79% من عمليات الانتحار الناجحة في الولايات المتحدة ينفذها رجال. وربما يعود ذلك إلى أن الرجال يختارون، عادةً، أساليب انتحار أكثر فتكاً: يستخدم 56% من الرجال المنتحرين أسلحة نارية، وفق مراكز ضبط الأمراض والوقاية منها. في المقابل، تعتمد النساء في محاولات انتحارها الناجحة على السم (37% من الحالات).

يُشكّل توقع مَن قد يحاول الانتحار أو ينجح في محاولته هذه عائقاً كبيراً أمام تفادي هذه المشكلة. قد يساهم فهم الأسباب وراء ارتفاع عمليات الانتحار في فصل الربيع في توضيح الدوافع. لكن هذه المسألة بحد ذاتها بالغة الصعوبة.

عندما اكتشف ارتفاع عمليات الانتحار خلال فصل الربيع، للمرة الأولى، في أواخر القرن التاسع عشر، بحث علم النفس، الذي كان آنذاك حديث العهد، عن مبررات. فاقترحت إحدى النظريات أن حرارة الربيع والصيف تزيد من الطاقة، التي تتحوّل بدورها إلى أعمال عنف. وأشارت نظرية أخرى إلى أن السبب يعود إلى حدة الحياة الاجتماعية في الربيع والصيف.

back to top