غفران

سبعة وعشرون سنة في السجن، يخرج بعدها متسامحاً مع سجانيه، هذا، يبدو لي، هدفاً إنسانياً يستحق السعي والاجتهاد، فإن لم نتعلم شيئاً من سيرة مانديلا، إن لم نستوعب الإصرار والكفاح وتقديس الحرية والمساواة وتكريس الحياة للمبدأ وللنضال الحر، إن لم نفهم الحنين الجارف للعيش الكريم والتساوي المجتمعي والكرامة المواطنية، فلربما استطعنا أن نتلمس على الأقل هذا التسامح الذي لا يمكن تعديه أو تجاهله، لربما تعلمنا شيئاً عن النفس البشرية، أنها يمكن أن تكون أعظم، أنها يمكن أن تأتي بالمعجزات، أنها يمكن أن تصل إلى مصاف الملائكة، فتغفر لمن حبسها وتحترم من احتقرها وتعامل بالمساواة من تعنصر ضدها وأذلها، وقتها فقط تصبح هذه النفس البشرية حقيقية، لها وجود وأثر ستتوارثه الأجيال ليس في قصصها فقط، ولكن في جيناتها كذلك، فلابد لمثل هذا التسامي أن يؤثر فينا جينياً بشكل أو بآخر، أتمنى أن يؤثر فينا إن كان لنا أن نستمر لفترة أطول على هذه الأرض. لست شخصياً من الكارهين أصحاب الضغائن، فيجب أن يأتي أحدهم كبيرة الكبائر ليثير غضبتي ويفقدني كل تسامحي، ولكنني بكل تأكيد ما كنت لأسامح من قذف بي في السجن سبعة وعشرين عاماً، أم تراه هو السجن الذي يرقق النفس ويجعلها ترى الوجود من زاوية مختلفة؟ هذا هو الدرس الذي أود تعلمه من مانديلا، كيف أتسامى على الوجع مهما بلغ حجمه فأغفر؟ قد أبدأ بمقارنة وجعي بوجع مانديلا، وعندما يشهق هرم وجعه بجانب ذرة تراب وجعي، عندما يستوعب عقلي هذه المقارنة، سأبدأ لا محالة رحلة التسامح هذه وأغفر لمن لا يُغفَر لهم، وهم أقل قليل، إلا أنهم على قلتهم، هم التحدي الأكبر.مانديلا ذهب، وبعده الملايين من بشر سيكونون عظماء مختلفين، وبعدهم الأرض برمتها وهي تصطدم بهذه المجرة المتربصة بنا على بعد بلايين السنوات، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة أحياناً وكأنها القدر المتربص يذكرنا بفنائنا وعبثية قدرنا. كلنا وكل ما حولنا يتجه للفناء، ولن يصنع معنى لهذا الظلام سوى نور نفوس قادرة أن تسامح، تسامح حتى القدر.مانديلا، ارقد بسلام لطالما صارعت من أجله، لا أحد يستحقه مثلك.