كوبا... رحلة بالزمن إلى الماضي
تبدو كوبا المثيرة للجدل، المليئة بالألوان، والمتداعية عالقة بين الماضي والحاضر، بين الشيوعية والرأسمالية، وبين تحديات عملتين. بفضل تخفيف الرئيس الأميركي باراك أوباما قيود السفر المفروضة على الأميركيين-الكوبيين، بدأ الكوبيون يذوقون طعم فوائد التجارة الحرة. فظهرت في البلد أخيرًا أنواع البضائع كافة، بما فيها التلفزيونات الضخمة بشاشاتها المسطحة، الدراجات، الثياب، وأجهزة الميكروويف.
كان الليل حالكًا والجو ممطراً حين حطت طائرتنا الصغيرة أخيراً بعد تأخير دام ثماني ساعات في ميامي. وعندما عبرنا الجمارك، انزلقت أمامنا الأبواب الزجاجية، كاشفةً عن حشد كبير من الناس. كان هؤلاء ينتظرون لاستقبال أقاربهم الذي وصلوا وهم يجرّون عربات محملة بالسلع.سارعت دليلة السياحة الكوبية فيفيان كوينتيرو تريانا إلى القول، مازحةً: {هذا الاستقبال الحافل من أجلكم}. تعمل تريانا مساعدة لجو سكارباتشي في مركز دراسة الثقافة والاقتصاد الكوبيين، الذي يقود المجموعة من متاحف كارنيغي في بيتسبرغ.
إذا كنت تفكر بالسيجار والسيارات الكلاسيكية عندما تتخيل كوبا، فلن يخيب ظنك. حتى في عتمة الليل، كان بإمكاننا رؤية السيارات من خمسينيات وستينيات القرن الماضي مركونة خلف جمهور المرحبين.بما أن عدد هذه السيارات القديمة التي تجوب طرقات كوبا ما زال كبيراً، تخال أنك في معرض دائم للسيارات القديمة. وتسير إلى جانبها، على طرقات المدينة، سيارات تعود إلى الحقبة السوفياتية ودراجات هوائية تنقل الركاب بالأجرة. أما في هافانا القديمة، فتكثر الأحصنة وعربات الخيل. وتضفي الجداريات واللوحات التي تحتفل بذكرى الثورة الخامسة والخمسين وأبطالها جوًّا خياليًّا على هذا البلد، وخصوصًا مع مرور السيارات القديمة. نتيجة لذلك، تخال أنك في موقع تصوير فيلم وأنت أحد الممثلين الثانويين.إصلاحاتلا شك في أن الحصار التجاري الذي فرضته الولايات المتحدة على كوبا عام 1960 وخسارة الدعم السوفياتي في أواخر الثمانينيات كان لهما وقع كبير على هذا البلد. فالأبنية التي تُعتبر عادةً غير صالحة للسكن في الولايات المتحدة تكتظ بالقاطنين رغم تصدعاتها الكثيرة. يوضح سكارباتشي: {تشمل المشاكل الكبرى التي يواجهها الكوبيون الطعام والسكن}.تبنّى الرئيس راوول كاسترو، شقيق فيدل، بعض الإصلاحات. وبدأ الناس أخيراً التحرر تدريجياً من قيود الاقتصاد الذي تديره الدولة بالكامل. فبات باستطاعة المواطنين، بعد الاستحصال على رخصة من الدولة، إدارة الأعمال من منازلهم وشراء منازلهم وبيعها. نتيجة لذلك، ترى غالباً أناساً واقفين وحاملين لافتات يدوية الصنع تروّج لبعض السلع المعروضة للبيع أو المطلوبة للشراء.شملت الإصلاحات الأخرى ترخيص شراء سيارة. إلا أن ثمن السيارة الجديدة الصينية الصنع قد يصل إلى 240 ألف دولار، كلفة غريبة في أي بلد آخر. وفي كوبا، يحتاج المواطن العادي إلى أكثر من ألف سنة ليسدد ثمنًا مماثلاً، وفق حسابات سكارباتشي. ولكن مَن يملكون سيارات قديمة مرممة بإتقان يعرضون على الزائر جولات في مختلف أرجاء هافانا وعلى طول مالكون، الطريق الشهير والرصيف البحري اللذين بنتهما الولايات المتحدة قبل الثورة.يتلقى الكوبيون رواتبهم من الدولة بالبيزو. لكن الزوار يستخدمون ما يُدعى {البيزو الكوبي القابل للتحويل}، عملة مختلفة يوازي البيزو الواحد منها دولاراً أميركيًّا. يستأجر معظم الناس السيارات مدة ساعة. ولكن من الممكن استئجارها مدة 30 دقيقة مقابل 15 بيزواً كوبيًّا قابلاً للتحويل. أما الدراجات الهوائية التي تُستخدم لنقل الركاب بالأجرة فتُذكّر بالدرجات ذات العجلات الثلاث، ويمكنك استئجارها مقابل بضعة بيزوات قابلة للتحويل. تلاحظ أن الكوبيين إجمالاً ودودون جدًّا ويتفاعلون مع الزوار بفرح. يجيد كثيرون منهم الإنكليزية، لذلك لا تقلق إن كنت لا تتكلم الإسبانية.ولكن عليك أن تأخذ في الاعتبار أن البطاقات الائتمانية الأميركية والدولار غير مقبولين. لذلك يحمل معظم الناس معهم المال نقداً ويبدّلونه في الفندق. وهكذا تحصل على 87 بيزواً قابلاً للتحويل مقابل كل 100 دولار أميركي.أما إذا رغبت في شراء تحف فنية، فيمكنك دفع ثمن القطع المكلفة بإرسال حوالة مالية عندما تعود إلى الوطن. وتستطيع أن تحمل القطع معك، فهذا النظام يعتمد على الشرف والأمانة. بإمكان الأميركيين أن يحملوا معهم في رحلة العودة الحلي والقطع الفنية والموسيقية. ولكن من غير المسموح أن يخرجوا من البلد أياً من السلع التي تصنّعها الدولة، مثل السيجار. إذا كنت تهوى جمع التذكارات والقطع الفنية، فاحضر معك ما لا يقل عن 500 دولار وبدّله وفق حاجتك لأن البيزو القابل للتحويل لا قيمة له خارج كوبا. لا يستطيع الأميركيون السفر إلى كوبا بطريقة مشروعة إلا بالتعاقد مع مجموعة مرخص لها. يصدر هذا الترخيص عن مكتب ضبط الأصول الخارجية في وزارة الخزانة الأميركية. وقد حصلت متاحف كارنغي على رخصة {تفاعل بين الشعوب} بفضل شراكتها مع مركز دراسة الثقافة والاقتصاد الكوبيين (مركزه في فيرجينيا). وتتوافر أيضًا رخص تسمح للأميركيين بدخول كوبا لأسباب فنية أو دينية. على سبيل المثال، أثارت بيونسيه وجاي زي ضجة حين احتفلا بذكرى زواجهما الخامسة بالسفر إلى كوبا. فقد استخدم الثنائي المشهور رخصة {تفاعل بين الشعوب} ونزل في فندق ساراتوغا، تماماً مثل مجموعة كارنغي. بُني الفندق في ثلاثينيات القرن الماضي.في الجهة المقابلة من شارع Paseo del Prado قبالة فندق ساراتوغا يقع مبنى يُعتبر نسخة مطابقة للكابيتول الأميركي. شكّل المبنى مقر الحكومة قبل الثورة. ولكن بعدها، تحوّل إلى رمز للفساد وهُجر. خلفه يقع أحد معامل التبغ الأربعين التي كانت تعمل بلا هوادة خلال أيام العز في هافانا.مدينة الأعمدةتُدعى هافانا أحياناً مدينة الأعمدة بسبب كثرة الأعمدة والقناطر فيها التي تعود إلى حقبة الاستعمار. وبما أن جزءًا من المدينة مدرج على لائحة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، فمن الضروري الحفاظ على هذه الواجهات.إرنست همينغواي أحد المشاهير الأميركيين القلائل المحبوبين في كوبا. فترى في مطعم {فلوريديتا} تمثالاً برونزياً لهمينغواي وهو متكئ على المشرب. ولا يستطيع معظم الزوار مقاومة فكرة الوقوف إلى جانبه لالتقاط الصور. ولكن بسبب الموسيقى الصاخبة، الدخان، والحشد الكبير، يكتفي كثيرون بدخول المطعم، التقاط الصور، والخروج في الحال.يقع مطعم {فلوريديتا} في بداية {أوبيسبو}، شارع ضيق يؤدي إلى الميناء ويكتظ بالكوبيين والسياح على حد سواء. وخلال التجول بين متاجر التذكارات والقمصان، حيث تُعلَّق صور الثوري تشي غيفارا إلى جانب لوحات السيارات الكوبية، القبعات الشبيهة بما يعتمر كاسترو، الطبول، والخرز، تنسى بسرعة أنك لست في مجتمع يعتمد على سوق حرة. ويسعى الموسيقيون ومالكو المتاجر وبائعو الفستق إلى استقطاب اهتمامك، تمامًا مثل أي منطقة سياحية أخرى.خلال تجولك في الشارع، تمر أمام فندق فلوريدا الذي بني عام 1885، مبنى لشركة جونسون وجونسون يعود إلى القرن التاسع عشر حُوّل اليوم إلى متحف، وفندق {أمبوس موندوس} حيث ألف همينغواي The Old Man and the Sea. ومن المناطق الأخرى التي تُعتبر زيارتها ضرورية ساحة {أرماس} وساحة الكاتدرائية المجاورة. أما عشاق هندسة خمسينيات القرن الماضي، فعليهم التوجه إلى فندق {ريفيرا} الذي اشتهر بأنه مقصد لرجال المافيا.لا تزال غالبية المنازل الكبيرة، التي تعود إلى حقبة مزارع السكّر المميزة، قائمة. يشغل بعضها موظفو المالكين الذين هربوا بعد الثورة، في حين يقيم في البعض الآخر مسؤولون حكوميون. وثمة منازل لا تزال تحافظ على طابعها ورونقها بفضل أموال من عائلات كانت تقيم فيها سابقاً.على الأميركيين اتباع البرنامج الذي تحدده الرخصة التي سافروا بموجبها. لذلك عليهم زيارة منازل كوبيين يُعتبر بعضهم ميسورين في حين يعاني البعض الآخر العوز. كذلك من الضروري تناول الطعام في مطاعم خاصة تُدار في بعض المنازل. وخلال تناولنا العشاء في L’Atelier، مطعم مميز من هذا النوع يقع في أحد المنازل القديمة في وسط مدينة هافانا ويعرض الكثير من أعمال الفنانين المعاصرين الكوبيين، انقطع التيار الكهربائي. لكن فريق العمل لم يرتبك البتة، بل سارع إلى إنارة المكان بالشمعدانات.انقطاع التيار الكهربائي أمر شائع في كوبا، كذلك الفنانون الاستثنائيون أمثال خوسي فوستر، فنان يعد لوحات الفسيفساء. ولم يكتفِ بتزيين منزله بل نشر تصاميمه الغريبة الملونة في حيه بأكمله. التقينا بعد ذلك النحات يوان كابوتي، الذي أخبر مجموعة كارنغي عن المعنى وراء أعماله، علماً أنها تتناول التواصل وعلاقة بلده بالولايات المتحدة.أما اللمحات الأفريقية في كوبا، فتشمل الموسيقى، الفن، الرقص، والدين، وخصوصاً {سانتيريا}، خليط من الكاثوليكية والممارسات الروحانية الأفريقية. وهكذا تكون هافانا خليطاً ساحرًا من الثقافات، المعالم الهندسية، الناس، والأماكن. ومع أن الشمس ستغرب ذات يوم على كوبا كاسترو، ما زال علينا أن ننتظر لنرى ما سيحل محلها.