خالتي اللتاتة

نشر في 07-01-2014
آخر تحديث 07-01-2014 | 13:01
 باسم يوسف لست في حاجة لأن أكتب مقالة طويلة عريضة لأثبت بالقانون والمنطق والأدب والأخلاق أن ما حدث في موضوع التسريبات جريمة لابد أن يعاقب عليها المذيع الأمنجي برتبة طبال، أو الضابط الذي قام بالتسريب، أو الجهاز كله الذي يقوم بالتسجيل، فأسئلة مثل: "أين إذن النيابة؟"، و"كيف لا يُحاسب هؤلاء الأوغاد؟"، وغيرها من الجمل التي تصلح كترجمة لأفلام أنيس عبيد، فقدت أية قيمة الآن وبصراحة مالهاش أية لازمة.

لم أتعجب من موضوع التسريبات، لكن ما أصابني بالدهشة بصراحة هو جودتها، الكواليتي يعني!

بمعنى أن التسريبات للسياسيين والنشطاء ليس بها أي شيء عليه القيمة، "واحد بيهزر مع صاحبه"، والتانية بتقول "طب شوفولي ملفي"، وشوية ناس بيقولوا ألفاظ قبيحة حبتين في التليفون، من الآخر كلام "فسسسسسس": مافيش كواليتي.

ومع هذا، كان ذلك كافياً لأن ينشغل الناس بهذا الكلام الفارغ، لم يهتم المشاهدون والمستمعون بأن ما في المكالمات لا يثبت أنهم خونة أو عملاء، بل ركز الناس على "الفضيحة"، مع أنه ليست هناك فضيحة، ركز الناس على أحاديث الأسرار وغرف النوم مع أنه ليس هناك أسرار ولا غرف نوم، لقد نجحت هذه التسريبات الخايبة في أن تجعل المواطن "ملهي" في حالة القيل والقال وفلان عمل وعلان سوى و"اسكتي مش قفشوه وهو بيتكلم في التليفون؟".

لا يوجد شيء على الإطلاق يستحق التعليق، ولكن حالة النميمة والإشاعات "وتعال لما أقولك" هي المطلوبة، بالضبط مثلما يخرج صحافيون كبار ومحللون عتاولة ليكشفوا للشعب المصري كمية الإستاكوزا والبط والوز التي كان يلتهمها مرسي يومياً في القصر الرئاسي، تفاصيل تافهة وقصص عبيطة لا يمكن أن تستخدم في قضية التخابر أو التجسس أو قتل المتظاهرين المتهم فيها مرسي ورفاقه، لكنها كافية لخلق جو "اللكلكة" والنميمة ولا مؤاخذة قعدات النسوان.

كأن هذه التسريبات ومن هيأ المناخ لها الهدف منها أن تنشغل بكلام فاضي وتافه، ويضيع مجهودك بلا فائدة في كلام لا يودي ولا يجيب وفي النهاية تلعن البلد والسياسة واللي عايز يشتغل فيها.

وهو ده المطلوب.

لذلك لا يهم أن تدين المذيع الأمنجي، ولا أن تشجب وتندد بالجهات السيادية، الشتيمة مابتلزقش، وأيضا لا يهمنا فضيحتنا اللي بقت بجلاجل في وسائل الإعلام الغربية لأن أجهزة الدولة مشغولة بحوار القبض على عروسة وفك شفرات إعلان شركة محمول، لا يهم لأن منظرنا عزيزي القارئ مش ولابد أصلاً في الخارج فلا مانع من إضافة نكهة فكاهة على الموضوع.

المفجع في الأمر أن الناس تركت القضية الأساسية أنه لا يصح ولا يجوز التسجيل لأحد وانشغلوا بمين شتم ومين قبح.

لذلك فبدلاً من أن نناقش الدستور وحرية الرأي والممارسات القمعية والفشل الأمني، "خدلك البونبوناية دي اتسلى فيها شوية"، مرة تسريبات ومرة عروسة ومرة مؤامرات انت مش فاهمها لكن مصدقها، ولما تفوق، ماتقلقش عندنا من ده تاني كتير.

لقد فشل الإخوان في تحويل الصراع السياسي إلى صراع ديني، فحين خرج مرسي يتنطط على الناس بمن يصلي الفجر ومن لا يصلي، استنكر المواطن البسيط "المتدين بطبعه طبعاً" هذا الأسلوب من التنطيط فلفظهم، أما الآن فتجد أن "خالتي اللتاتة" ذهبت إلى المكان المفضل للمصريين في أنهم يلتوا ويعجنوا في سيرة الخلق، لذلك فما أسهل تحويل الأنظار عن الصراع السياسي إلى جلسات نميمة، فتنشغل أنت وتتسلى ويتفرغ الكبار للعب التقيل.

وهو ده المطلوب.

الله أعلم إن كان هناك أسلوب وخطة ممنهجة للتجسس على المصريين، وأن ما كشفه المذيع الأمنجي هو مجرد قشور، ولكن هذا شيء غير مهم الآن، فأنت عزيزي المواطن قد تم استنفاد مجهودك في مناقشة التسريبات وتنتظر المزيد كأنك تنتظر الحلقة المقبلة من المسلسل التركي، وفي نفس الوقت تداعب من يتصلون بك في التليفون وتقول لهم "خللي بالك أحسن التليفونات متراقبة"، تقولها "بهزار" ولكن بداخلك توتر خفي، لأنه احتمال فعلاً أن تكون مكالماتك مسجلة، فتبدأ بدون أن تشعر بفرض الرقابة على نفسك وعلى ما تقوله.

وهو ده المطلوب.

بل تجد الآن من أصبح يعيش في جو أفلام جيمس بوند فينزع البطارية أو يضع التليفون خارج الغرفة ليتكلم معك على راحته، فالإشاعة السارية الآن أن هناك تكنولوجيا متطورة لمراقبتك حتى وتليفونك مغلق، فإن لم تكن هناك تسجيلات فهناك جو من الترقب والخوف والقلق من أن كل ما تقوله مذاع على الهواء.

وهو ده المطلوب.

بالمناسبة أتمنى من كل قلبي وجود هذه التكنولوجيا المتطورة، وأناشد الجهات المعنية بأن يوجهوا بعض هذه التكنولوجيا المتطورة للتجسس على الإرهابيين، ومن يقومون بالتفجيرات وقتل الجنود والمواطنين، ليس بالضرورة أن يتوقفوا عن التجسس علينا في غرف النوم، ممكن يتجسسوا على الإرهابيين ساعتين من وقتهم كل يوم لما يزهقوا مننا.

المواطن العادي في متابعته المحمومة للتسريبات خائف على نفسه وحياته الشخصية، والمواطن العادي في سخريته من موضوع "أبلة فاهيتا" يقول لنفسه "إذا كانت العروسة ما سلمتش منهم أمال حيعملوا فينا إيه؟".

شايف الخوف ده؟

هو ده المطلوب.

هل رأيت كمية عصافير مثل هذه تضرب بحجر واحد؟

أولاً أنت مستنزف في مناقشة تفاهات غير أخلاقية، وفي المستقبل سيصبح التجسس والتنصت على حياتنا اليومية واللت والعجن وكلام النساوين شيئاً عادياً ومقبولاً ومجرد مادة للنميمة.

ثانيا أنت لا تعرف إذا كان يتم التسجيل لك أم لا، ولكنك حذر في كلامك لأن الاحتياط واجب، وربما تشك الآن في أن مكالماتك مسجلة أو أن أصدقاءك "مزقوقين عليك".

ثالثا أنت مازلت تتحسس إن كانت هناك ديمقراطية حقيقية أم لا، ولكنك ترى ما تفعله أجهزة النيابة بسبب دمية "فتجيب ورا لأن الطيب أحسن"، فاليوم نضرب العروسة عشان بكرة يخاف السايب.

في تونس كان الكثيرون يخافون من الكلام حتى داخل منازلهم، لأنهم كانوا يظنون أن داخلية "بن علي" زرعت أجهزة متطورة في كل شارع وحارة لتلتقط كل كلمة يقولها الناس حتى داخل بيوتهم، بعد رحيل "بن علي" لم يتم تأكيد وجود هذه الأجهزة، لكن مجرد الخوف من شبح التجسس جعل الناس خائفين مرعوبين حتى في الكلام مع أنفسهم.

شايف الجو ده؟ هو ده المطلوب.

وإذا كنت تعتقد أن هذا المقال مغرق في نظرية المؤامرة، ويفترض أشياء غريبة وغير منطقية، وما له يعني هي جت عليا أنا؟

لذلك فقبل أن تنتفض وتصرخ وتعمل فيها الفاهم الواعي المنتقد للدولة العبيطة وتقول: "معقول الدولة تنشغل بعروسة وتسريبات تليفونية هبلة".

لا يا سيدي، الدولة مش عبيطة زي مانت فاكر، الرسالة وصلت وانت مش واخد بالك.

أتمنى لكم مشاهدة طيبة ونميمة ممتعة.

(ينشر باتفاق خاص مع «الشروق» المصرية)

back to top