فرانكشتاين في بغداد

نشر في 08-02-2014 | 00:01
آخر تحديث 08-02-2014 | 00:01
No Image Caption
حدث الانفجار بعد دقيقتين من مغادرة باص الكيا الذي ركبت فيه العجوز إيليشوا أم دانيال. التفت الجميع بسرعة داخل الباص، وشاهدوا من خلف الزحام، وبعيون فزعة، كتلة الدخان المهيبة وهي ترتفع سوداء داكنة إلى الأعلى في موقف السيارات قرب ساحة الطيران وسط بغداد. شاهدوا ركضَ الشباب باتجاه موقع الانفجار وارتطام بعض السيارات برصيف الجزرة الوسطية أو بعضها ببعض وقد استولى الارتباك والرعب على سائقيها، وسمعوا حشد أصوات بشرية متداخلة؛ صراخٌ غير واضح ولغطٌ ومنبهات سيارات عديدة.

ستقول جارات العجوز إيليشوا في زقاق 7؛ إنها غادرت حي البتاويين، ذاهبة إلى الصلاة في كنيسة مارعوديشو قرب الجامعة التكنولوجية، كما تفعل صباح كل أحد، ولهذا حصل الانفجار. فهذه العجوز، كما يعتقد الكثير من الأهالي، تمنع ببركتها ووجودها بينهم، حدوث الأشياء السيئة. لهذا بدا من المنطقي، أن يحصل ما حصل صباح هذا اليوم.

كانت إيليشوا جالسة في سيارة الكيا مستغرقة مع نفسها وكأنها مصابة بالصمم أو غير موجودة، ولم تسمع بالانفجار المهول الذي حصل خلفها على مسافة مئتي متر تقريبًا. تتكوّم بجسدها الضئيل في الكرسي بجوار النافذة، تنظر من دون أن ترى شيئًا، وتفكّر بطعم فمها المرّ، وكتلة الظلام التي تكبس على صدرها منذ أيام.

سيذهب هذا الطعم المر ربما خلال التناول بعد القدّاس في كنيسة مارعوديشو. ستسمع أصوات بناتها وأولادهن عبر الهاتف فتنسحب العتمة من صدرها قليلاً وترى نورًا في عينيها الغائمتين. في العادة ينتظر الأب يوشيّا رنين هاتفه المحمول ليخبرها بأن ماتيلدا تتصل، أو ربما تنتظر ساعة أخرى بعد فوات موعد المكالمة لتطلب من الأب أن يتصل برقم ماتيلدا نفسه. هذا ما يتكرر دائمًا كل أحد، على الأقل منذ سنتين، فقبلها كان اتصال بناتها غير منتظم، ويجري على الهاتف الأرضي للكنيسة، ولكن، منذ ضرب الأميركان لبدالة العلوية بالصواريخ، ثم دخولهم إلى بغداد، وانقطاع الاتصالات الهاتفية لشهور طويلة، وتحول المدينة إلى مكان موبوء بالموت، صار التأكد من سلامة العجوز أسبوعيًا أمرًا ملحًا.

في البداية، بعد بضعة أشهر صعبة، كان الاتصال يجري من هاتف الثريا الذي منحته منظمة إنسانية يابانية لكنيسة ماعوديشو وراعيها الأب الآثوري الشاب يوشيّا، ثم بعد دخول شبكات الهاتف المحمول، اقتنى الأب يوشيّا هاتفًا وصارت المكالمات تجري من خلاله.

يقف ابناء الرعية، بعد انتهاء القداس، بالدور لسماع أصوات ابنائهم وبناتهم المتوزعين على أرجاء الأرض. وكثيرًا ما كان يدخل الكنيسة أناس من أزقة حي كراج الأمانة، الذي تتوسطه الكنيسة، مسيحيون من طوائف أخرى ومسلمون، بقصد الاتصال الهاتفي المجاني مع أقاربهم في الخارج. ثم خفّ الضغط لاحقًا على الأب يوشيّا مع انتشار الهواتف المحمولة، واقتناء الكثيرين لها، ما سوى العجوز إيليشوا المكتفية بطقس مكالمة الأحد.

تأخذ إيليشوا أم دانيال هاتف نوكيا الصغير بيدها المعروقة اليابسة، تضعه على اذنها وتسمع الأصوات الأليفة لبناتها فيذهب الظلام فجأة، وتهدأ روحها، وبعد منتصف النهار تعود إلى ساحة الطيران لترى أن كل شيء هادئٌ تمامًا كما تركته صباحًا. الأرصفة نظيفة والسيارات التي احترقت تم سحبها. الميتون إلى الطب العدلي والجرحى إلى مستشفى الكندي. بعض الزجاج المهشم هنا أن هناك. عمود متسخ بالدخان، خفرة صغيرة أو كبيرة في إسفلت الشارع، وأشياء أخرى لا تتمكن، بسبب بصرها الغائم، من رؤيتها أو الانتباه لها.

ولكن القدّاس انتهى. تأخرت ساعةً إضافية. جلست في صالة المناسبات الملحقة بالكنيسة، وبعد أن صفّت النساء صحون الطعام الذي يجلبنه في العادة معهن على الطاولات، تقدمت وأكلت مع الجميع لكي تشغل نفسها.

 أجرى الأب يوشيّا محاولة أخيرة يائسة للاتصال بماتيلدا ولكن هاتفها كان خارج التغطية، على الأغلب فقدت ماتيلدا هاتفها، سرق منها في الشارع أو في أحد الأسواق في ملبورن باستراليا حيث تقيم. ارتكبت خطأً ما بعدم كتابة رقم الأب يوشيّا في دفتر أو أي عذر آخر. لا يفهم الأب الأمر بشكل جيد، ولكنه، مع ذلك، ظل يتحدث مع أم دانيال محاولاً مواساتها، وبعد أن بدأ الجميع يخرجون من الكنيسة تبرع الشماس العجوز نادر شموني أن يوصلها بسيارته الفولكا القديمة إلى بيتها، ولكنها لم تعلق بشيء.

ها هو الاسبوع الثاني ينقضي دون مكالمة. لم تكن تشعر بحنين جارف إلى سماع الأصوات الأليفة. إنه الاعتياد ربما، وشيء آخر أكثر أهمية؛ من خلال بنتيها تستطيع أن تتحدث عن دانيال. لا أحد يستمع لها بشكل مخلص حين تتحدث عن ولدها الذي فقدته قبل عشرين عامًا سوى بنتيها والقديس ماركوركيس الشهيد الذي تصلّي لروحه كثيرًا وتعتبره قدّيسها الشخصي، ويمكن إضافة قطها الهرم «نابو» ذي الفرو المتساقط والذي يكثر من النوم. حتى النساء في الكنيسة، أصبحن أكثر برودة حين تتحدث أمامهن عن ولدها الذي فقدته في الحرب. لا جديد لدى العجوز، إنها تكرر الكلام ذاته، كذلك الأمر مع جاراتها العجائز.

بعضهن لا يتذكر شكل دانيال هذا رغم أنهن يعرفنه، فهو، على أية حال، شخص ميت واحد مرّ على ذاكراتهن التي مُلئت واتخمت بالميتين خلال سنوات طويلة. وكلما تقادمت السنوات تخسر العجوز إيليشوا مؤيدين سابقين بيقينها الغريب أن ولدها الذي له قبرٌ بتابوت فارغ في مقبرة كنيسة المشرق ما زال حيًا.

لم تعد تتحدث مع أحد عن خرافتها هذه، تنتظر، فحسب، صوت ماتيلدا أو هيلدا عبر الهاتف فهما تتحملان كلام العجوز مهما بدا غريبًا. تفهم البنتان أن الأم تستعمل ذكرى ولدها الراحل كي تستمر في العيش لا أكثر. ليس من الضروري شرح ذلك للعجوز، ولا بأس بمسايرتها.

يقودها الشماس العجوز نادر شموني بسيارته الفولكا إلى مدخل زقاق 7 في البتاويين، بضع خطوات وتصل إلى باب بيتها. كان المكان هادئًا، فحفلة الموت قد انتهت منذ ساعات طويلة. لكن آثارها ظلّت واضحة للعيان. ربما هو أقوى انفجار يحصل في المنطقة حتى الآن. كانت روح الشماس العجوز منقبضة. لم يتكلم مع أم دانيال بشيء وهو يرصف سيارته بجوار عمود كهربائي. شاهد بقع دم وبقايا شعر من فروة رأس على العمود، كانت البقايا البشرية تبعد بضعة أشبار عن أنفه وشاربه الأبيض الكث فداهمه شيء من الخوف.

نزلت أم دانيال وودعته بيدها وهي صامتة. دخلت الزقاق الذي بدا هادئًا. وظلت تسمع صوت خطواتها المتمهلة على الحصى والنفايات في الزقاق. كانت تعدّ جوابًا في نفسها حين تفتح باب البيت ويرفع «نابو» رأسه إليها وكأنه يسألها: ها؟.. ما الخبر؟

وما هو أهم؛ كانت تعد عتابًا لقديسها وشفيعها ماركوركيس، فقد وعدها ليلة أمس بواحد من ثلاثة أمور؛ تسمع خبرًا مفرحًا، أو تهدأ روحها؛ أو ينتهي عذابها.

***

على خلاف كثيرين فإن أم سليم البيضه جارة إيليشوا العجوز تؤمن بشدة أن هذه العجوز مبروكة ويد الرحمن على كتفها أينما تحل أو تمضي، وبإمكانها إيراد العديد من الحوادث التي تؤكد إيمانها. ورغم أنها تنتقد العجوز أحيانًا بسبب حادثة ما وتسيء الظن بها، إلا أنها سرعان ما تعود إلى تبجيلها وتكريمها. تفرش لها بساطًا مضفورًا من شرائط الأقمشة، وتضع لها وسادتين من قطن عن يمينها وشمالها وتسكب لها الشاي بيدها في جلستها معها وبعض نسوة الزقاق تحت الظل في حوشها القديم.

ربما تبالغ وتقول أمام العجوز بشكل صريح إن هذا الحي من حظه أن ينهار ويخسف الله به الأرض منذ زمن بعيد لولا بعض سكّانه المباركين ومنهم أم دانيال.

غير أن هذا الإيمان العميق يشبه الدخان الذي تطلقه أم سليم البيضه من أرجيلتها في عصريات الثرثرة؛ يتكاثف ويلتفّ ويصنع بسحابته البيضاء أشكالاً متموجة قبل أن يرتفع سريعًا ويتلاشى في هواء الحوش. يولد ويموت ها هنا في هذا الفناء الصغير داخل بيت أم سليم العتيق، ولا يغادر عتبة الباب إلى الزقاق.

في الخارج يرى الكثيرون، أن هذه العجوز ليس سوى امرأة مصابة بالخرف والنسيان، والدليل أنها لا تحتفظ في ذاكرتها لوقتٍ طويل بأسماء الرجال، بعضهم ممن تعرفهم من نصف قرن تنظر إليهم أحيانًا بذهول وكأنهم أشخاص انبثقوا في الحي فجأة.

ستشعر أم سليم البيضه وبعض النسوة رقيقات القلب، ممن يواظبن على مسامرتها، باليأس والاحباط، حين تقدم أم دانيال فيما بعد أدلة أكثر على خرفها المؤكد، فتبدأ بسرد الوقائع الغريبة والعجيبة التي حصلت معها والتي لا يصدقها عقل.

يسخر الآخرون، وتشعر أم سليم وصويحباتها بالحزن الشديد؛ فها هو عضو في فريقهن القديم يدخل بقدمه إلى الضفة الأخرى المعتمة، وهذا يعني أن الفريق كله أصبح قريبًا من هذه الضفة المخيفة والموحشة خطوة أخرى.

***

هناك شخصان هما الأكثر يقينًا بأن العجوز إيليشوا لا مبروكة ولا هم يحزنون، وإنما هي مجرد امرأة مجنونة بشكل ميؤوس منه. الأول هو فرج الدلال صاحب مكتب عقارات «الرسول» المطل على الشارع التجاري وسط البتاويين، والثاني هو هادي العتاك جارها الذي يسكن في البيت الخرب الملاصق لبيتها.

حاول فرج الدلال أكثر من مرة، خلال السنوات الماضية، إقناع العجوز إيليشوا ببيع بيتها القديم من دون أن ينجح في ذلك. كانت تكتفي بالرفض ولا توضّح الأسباب. ما الذي يجعل عجوزًا مثلها تسكن لوحدها مع قط في بيت كبير يحوي سبع غرف؟ لماذا لا تستبدل هذا البيت بآخر صغير بتهوية وضوء أكثر مع مبلغ مالي يكفيها للعيش برفاهية لما تبقى لها من أيام في هذه الحياة؟

يتساءل فرج الدلال ولا يعثر على إجابة مقنعة؟ وبالنسبة لهادي العتاك، جار العجوز، فهو رجل خمسيني قذر الهيئة غير ودود تفوح منه دائمًا رائحة الخمرة، طلب منها أيضًا أن تبيعه الأنتيكات التي تحتشد في بيتها؛ ساعتان جداريتان كبيرتان، طاولات خشبية من الساج باحجام مختلفة. سجاجيد وأفرشة وتماثيل صغيرة بحجم الكفّ جبسية وعاجيّة للسيدة العذراء والطفل، تربو على العشرين متوزعة في أرجاء البيت، وأشياء أخرى كثيرة لم يملك هادي العتاك الوقت الكافي لمعاينتها وإحصائها كلها.

ما حاجتك بهذه الأنتيكات التي يعود بعضها إلى الأربعينيات من القرن الماضي؟ لماذا لا تبيعينها حتى تخففي على نفسك مهام التنظيف ونفض الأتربة؟ ذكر العتاك كلامًا مثل هذا وهو ينظر بعينين جاحظتين إلى غرف بيت العجوز، فقادته العجوز إلى باب البيت ولم تضف شيئًا على كلماتها الرافضة، جعلته يخرج إلى الزقاق وأغلقت الباب خلفه. كانت هذه هي المرة الوحيدة التي أطل بها على بيت العجوز من الداخل، وظلت صورة البيت منطبعة في ذهنه على شكل متحف غريب أو مخزن للأنتيكات المثيرة.

back to top