انتصار «طالبان» في أفغانستان سيطرح مشكلة على باكستان
لا تريد باكستان أن تصبح «طالبان» الأفغانية قوة سياسية وحيدة لأن هذا الوضع سيشجع «طالبان» باكستان على إعادة إحياء حلم أفغاني قديم بنشوء «بشتونستان» بين البشتون في باكستان وأفغانستان معاً، على أن تكون بقيادة «طالبان» تحت راية الجهاد.بينما ينتظر العالم نتيجة الانتخابات الأفغانية وبداية انسحاب قوات حلف الأطلسي، يسود افتراض عام مفاده أن باكستان سترحّب بانتصار "طالبان" في أفغانستان بعد عام 2014. يرتكز هذا الافتراض على المفهوم القائل إن باكستان تدعم "طالبان"، لكن عند التعمق في التركيبة الديمغرافية المتداخلة في الدولتين المتجاورتين، قد تؤدي المعطيات الجغرافية الوعرة وتاريخ الصراع الطويل إلى استنتاج آخر.تشكّل قبائل البشتون حوالي نصف سكان أفغانستان ولطالما اعتبرت نفسها "أساس" وطنها الإثني، لكن هذا الواقع يعكس جزءاً من القصة فقط، يتألف وطن البشتون من 42 مليون نسمة تقريباً، ويعيش 14 مليونا منهم فقط في أفغانستان بينما تقيم البقية في باكستان حيث يشكّل أعضاء هذه الجماعة حوالي سدس السكان. يتمركز أعضاء البشتون على جانبَي خط دوراند، أي الحدود الدولية التي تفصل بين البلدين التي لم تعترف بها أفغانستان يوماً، وتُعتبر مناطق البشتون الباكستانية محور الثورة الراهنة ضد الدولة الباكستانية. خلال الحرب بالوكالة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في الثمانينيات، شجعت الولايات المتحدة الباكستانيين كي يسمحوا للمجاهدين بإيجاد ملجأ لهم في مناطق البشتون الباكستانية (أي المناطق نفسها التي تدمرت على يد الأميركيين وحلف الأطلسي وبفعل الحملات العسكرية الباكستانية ضد متمردي "طالبان"). لقد تحمّلت هذه المناطق أعباء الاعتداءات الأميركية بالطائرات بلا طيار.تواجه باكستان وضعاً شائكاً، قهي ليست عدائية تجاه سكانها المنتمين إلى قبائل البشتون بل إنها تتعاطف مع نضال جماعات البشتون الأفغانية لاستعادة النفوذ السياسي في أفغانستان. بما أن حركة "طالبان" الأفغانية هي أقوى جماعة بين قبائل البشتون، سعت باكستان إلى عقد تحالف سياسي لتهدئة قبائل البشتون الباكستانية ومنع عناصر إضافية منها من الانضمام إلى حركة تمرد "طالبان" في أفغانستان أو باكستان. تسعى باكستان أيضاً إلى عقد تحالف مماثل كي تكسب نفوذاً سياسياً واستراتيجياً ضمن التركيبة السياسية الأفغانية بعد عام 2014. في الوقت نفسه، لا تريد باكستان أن تصبح "طالبان" الأفغانية القوة السياسية الوحيدة في أفغانستان لأن هذا الوضع سيشجع "طالبان" الباكستانية على إعادة إحياء الحلم الأفغاني القديم بنشوء "بشتونستان" التي تجمع بين أعضاء البشتون في باكستان وأفغانستان معاً، على أن تكون هذه المرة بقيادة "طالبان" تحت راية الجهاد. تعترف باكستان بأن "طالبان" يجب أن تتقاسم السلطة مع الجماعات الإثنية الأخرى، بما في ذلك "الطاجيك" و"الهزارة" و"الأوزبك"، وذلك لتحقيق سلام فاعل ودائم في أفغانستان. لا تريد باكستان أن تتجدد الصراعات الإثنية في أفغانستان بعد عام 2014 لأنها قد تهدد سلامة الأراضي الأفغانية وقد تهدد أيضاً وحدة وسلامة الأراضي الباكستانية. كانت تلك الاعتبارات كفيلة بفرض وقائع متنافسة في سياسة باكستان الأفغانية وهي تسعى إلى التوفيق بينها. ينعكس هذا الواقع في تصريح مستشار الأمن القومي في باكستان، سرتاج عزيز، حين قال إن "باكستان لا تنحاز إلى أحد في أفغانستان".تم التعبير عن الموقف نفسه في تقرير استراتيجي رسمي صدر في عام 2013 حول مكافحة الإرهاب في إقليم خيبر بختونخوا: "...الخطاب الشائع الذي تتمسك به شريحة واسعة من النخبة المثقفة والقيادات السياسية والشركاء الآخرين هو أن القتال سيتوقف في باكستان وفي خيبر بختونخوا فور رحيل القوات الأجنبية من باكستان... إنه اعتقاد خاطئ. لن يحصل ذلك...". وفق التقرير، يبدو أن باكستان تستعد لحرب أهلية محتملة وانتشار الفوضى في ظل غياب أي تسوية سياسية في حقبة ما بعد الانسحاب الأميركي، لكن لا يدرك الكثيرون التداعيات المحتملة على باكستان إذا اكتسبت "طالبان" الأفغانية سلطة كاملة أو جزئية في بلدهم.تبدو العناصر الأساسية من السياسة الباكستانية بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان في نهاية عام 2014 واضحة. لا تريد باكستان أن تفوز "طالبان" بسلطة حصرية بل إنها تريد إقرار تسوية سلام في أفغانستان استناداً إلى مبدأ تقاسم السلطة بين "طالبان" وجماعات إثنية من غير قبائل البشتون في أفغانستان. تتضح هذه النزعة بما أن الوكالات الباكستانية الحكومية، بما في ذلك الجيش، حثت "طالبان" الأفغانية على الانضمام إلى مفاوضات السلام وأوضحت أمام قادة الحلف الشمالي السابقين أن باكستان لم تعد تدعم الاستراتيجية التي اعتمدتها خلال التسعينيات. نظمت الاستخبارات الفرنسية اجتماعاً في باريس في ديسمبر 2012، فشارك أعضاء "طالبان"، وقادة الجماعات الإثنية التي تشكل الأقلية شمالاً وغرباً، والجيش الباكستاني وجهازه الاستخباري النافذ، في أول حوار مثمر عن مستقبل أفغانستان. خلال ذلك الاجتماع، أعلن الجيش الباكستاني أن هدفه الأساسي هو إنهاء التطرف في باكستان وليس معارضة الهند أو محاولة فرض النفوذ في أفغانستان.ترتكز هذه السياسة على الحسابات التي تعتبر أن انتصار "طالبان" قد يطرح تهديداً على باكستان من خلال التنسيق مع "طالبان" الباكستانية لإنشاء "بشتونستان" التي تدمج أراضي البشتون الباكستانية. من أجل تجنب التجارب المريعة التي حصلت خلال الأربعين سنة الماضية، اعترفت باكستان أيضاً بضرورة أن يرسم الأفغان مسارهم كي يفرضوا سلاماً دائماً بنفسهم، وذلك عبر التوفيق بين المطالب والمخاوف المشروعة لدى مختلف الجماعات الإثنية الأفغانية الكبرى. إن التجربة الماضية التي شملت اتكال كل جماعة إثنية على دعم قوة خارجية لم تحقق شيئاً إلا تعزيز انعدام الثقة والدمار. عدا إنشاء حواجز تمنع التعاون بين الجماعات المختلفة، لم يكن هذا النوع من عمليات التدخل مفيداً بالنسبة إلى مصالح القوى الخارجية على المدى الطويل (أي الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة خلال الثمانينيات وباكستان خلال التسعينيات). إذا قررت الهند لعب دور الولايات المتحدة بعد الانسحاب، فستتوصل إلى الاستنتاج نفسه.تعترف باكستان أيضاً بأن صمود أفغانستان بعد عام 2014 سيتوقف على استمرار المساعدات الخارجية الغربية. يتوافر 90% تقريباً من ميزانية الجيش الوطني الأفغاني هذه السنة من الولايات المتحدة وجهات مانحة خارجية أخرى، وهي تفوق في مجموعها ميزانية الحكومة الأفغانية كلها. لا تكاد الدولة الأفغانية تجمع أي ضريبة على الدخل. تأتي معظم العائدات من الضرائب على الواردات نتيجة الإنفاق المُموَّل من الغرب، ولولا هذه المساعدة، لانهارت الدولة الأفغانية. تقوم باكستان بتشجيع أفغانستان على توقيع ميثاق عسكري طويل الأمد مع الولايات المتحدة، وفي ظل غياب اتفاق مماثل، تواجه أفغانستان احتمالاً بعدم نشوء أي دولة فيها، مما سيؤدي إلى فتح المجال أمام أعمال عنف إثنية وأمام انتشار الفوضى، وتدمير دولة أفغانية ضعيفة وفاسدة لكن شاملة رغم شوائبها، وهو البلد الذي خاضت من أجله الولايات المتحدة أطول حرب وأعلى كلفة في تاريخها.ثمة بُعد آخر في الحسابات التي ترتكز عليها السياسة الباكستانية في أفغانستان: باستثناء بعض الأقسام في منظمة الاستخبارات الباكستانية النافذة التي ساعدت "طالبان" منذ بداية الثمانينيات، يبقى الحذر سيد الموقف بين حكّام باكستان وحركة "طالبان" الأفغانية. يخشى باكستانيون كثيرون التعصب الإثني والديني لدى "طالبان" والأفغان بشكل عام. وبالنسبة إلى "طالبان"، تُعتبر الدولة الباكستانية والجيش والباكستانيون غير المنتمين إلى جماعات البشتون ظالمين ومنحرفين وفاسدين وخائنين ووحشيين وجشعين. كل فريق يعتبر الآخر غير موثوق، وهذه المعطيات تعني أن باكستان لا تستطيع فرض حل على "طالبان" بما يعارض مصالحها، وهذا الوضع يزيد الضغوط على باكستان كي تحقق أهداف سياستها في أفغانستان.