بين الصين واليابان... «حرب باردة جديدة» في أقاصي الأرض
من المحتمل أن تزداد العلاقات الاقتصادية بين بكين وطوكيو سوءاً بصورة مستمرة، ومن الصعب بالتأكيد رؤية الجولة التالية من المحادثات الثلاثية حول اتفاقية التجارة الحرة بين الصين واليابان وكوريا الجنوبية كما هو مخطط لها في شهر فبراير المقبل.
في الأونة الأخيرة بدا حرص المسؤولين اليابانيين الشديد على التعبير عن الغضب من الصينيين، والعكس بالعكس؛ لذلك لم يكن من المفاجئ أن قوبلت حتى التصريحات التصالحية من جانب شينزو آبي إلى رفض قوي اللهجة. ففي يوم الخميس الماضي بعث آبي برسالة تهنئة بالسنة القمرية الجديدة نشرتها الصحف المحلية التي تصدر باللغة الصينية، وبحسب ترجمة وكالة "رويترز" للنسخة التي صدرت باللغة اليابانية أصر آبي على أن اليابان قد "سلكت مسار السلام" منذ الحرب العالمية الثانية، وأن "لا شيء قد تغير في سياسة مواصلة التمسك بهذا الموقف".وفي يوم الجمعة رفع آبي غصن الزيتون، وبحسب "تشانيا نيوز آشيا" أبلغ آبي جلسة برلمانية بأن "اليابان والصين لا يمكن الفصل بينهما"، كما عبر عن رغبته في استعادة البلدين للاجتماعات الدبلوماسية. وقال "بدلاً من رفض إجراء حوار لحين إتمام حل القضايا، علينا أن نجري محادثات لأن لدينا قضايا".وقد رفضت الصين تماماً هذه العروض، وفي رده على طلبات سابقة حول حوار ثنائي قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية كين غانغ بسخرية مريرة "إن مثل هذا النوع من الحوار لن ينطوي على أي أثر. فالمسؤولون الصينيون مشغولون جداً، وعلينا تركهم يقضون المزيد من الوقت حول أشياء مفيدة وفعالة". وكانت الصين أعربت مراراً عن موقفها القائل إنه لا يمكن عقد اجتماعات دبلوماسية بين الصين واليابان حتى يثبت شنزو آبي صدقيته. وطرح المسؤول الصيني كين غانغ في مؤتمر صحافي يوم الجمعة الماضي مساراً محدداً من أجل إعادة بدء الحوار: يتعين على آبي أن يعلن أنه "سوف يبتعد عن حافة الهاوية، وأن يعترف على الفور ويصحح الأخطاء، وأن يمتنع عن القيام بمزيد من الزيارات إلى مزار ياسوكوني".وكما كتبت في وقت سابق، يبدو عند هذه النقطة أن من المستحيل أن يقوم آبي بأي شيء من شأنه إرضاء القادة الصينيين (الأشياء التي قد يتمكن من القيام بها مثل الاعتذار عن زيارته الى ياسوكوني، أو ماضي اليابان الإمبريالي غير مرجحة إلى حد كبير جداً). وبالنسبة إلى المسؤولين الصينيين فإن آبي "يتناقض مع ذاته"، كما وصفته افتتاحية نشرتها "تشينا ديلي". وما لم يعتذر آبي ويحجم عن تكرار الأعمال التي تزعج الصين (من زيارة ياسوكوني إلى تعضيد الجيش الياباني)، فإن بكين سوف تعتبر كلامه المنمق عن الحوار والسلام غير صادق. وفي غضون ذلك- ومن منظور ياباني- فإن آبي إذا أراد تكريس بقية فترة رئاسته من أجل إثبات صداقته للصين فإن ذلك سوف يفضي إلى تداعيات سلبية جلية على المصالح اليابانية.وهكذا لدينا دولتان تعمل كل واحدة على بناء قدراتها العسكرية في حين تصران على أن ذلك العمل يستهدف مواجهة تهديد القوة المنافسة الإقليمية الأخرى، ويضاف إلى ذلك عدم الثقة العميق لأنظمتهما السياسية المختلفة مع وجود تاريخ من العداوة تجعل كل واحدة ترتاب بشدة إزاء الأخرى، وتصر كل دولة منهما على محبة السلام وتستخدم تكتيكات الخوف من أجل محاولة تصوير الخصم على أنه يميل إلى الصراع. هل يبدو ذلك مألوفاً لأي جهة أخرى؟ منذ نهاية الحرب الحرب الباردة حذر خبراء الاستراتيجية القادة بضرورة التخلي عن "عقلية الحرب الباردة"، ولكن من الواضح أن ذلك لم ينجح لأن هذا هو على وجه التحديد ما نراه الآن بين الصين واليابان، ويمكن تحديد الدولتين بقوة على شكل متنافسين بحيث أصبح من المستحيل بالنسبة إلى أي منهما أن تقول أو تفعل أي شيء من دون إثارة رد من الأخرى، كما أن التوترات تنطلق في الأماكن الأقل توقعاً إلى حد كبير، خلال جولة آبي الإفريقية والقمة الاقتصادية العالمية في سويسرا.حتى العلاقات الاقتصادية القوية بين الصين واليابان لم تساعد على لجم التوترات، وفي حقيقة الأمر فإن العكس هو الصحيح، حيث تبدد التوترات العلاقة الاقتصادية، وقد ذكرت صحيفة "التليغراف" أخيراً أن أحد الاستطلاعات يشير إلى أن 60 في المئة من قادة رجال الأعمال الصينيين لا يرغبون في العمل مع الشركات اليابانية. وفي سنة 2012 انطلقت التوترات بين الصين واليابان الى دعوات صريحة لمقاطعة المنتجات اليابانية، مع استهداف عناصر مشاغبة للشركات والمطاعم اليابانية، وبينما تبدو نظرة اليابان التجارية إزاء الصين أقل تأثراً (بحسب التليغراف فإن 80 في المئة من اليابانيين يرغبون في مواصلة التجارة مع الصين وكوريا الجنوبية) غير أن المصالح الاقتصادية تتحول إلى مناطق أخرى، خصوصاً في جنوب شرق آسيا.ومن المحتمل أن تزداد العلاقات الاقتصادية سوءاً بصورة مستمرة، ومن الصعب بالتأكيد رؤية الجولة التالية من المحادثات الثلاثية حول اتفاقية التجارة الحرة بين الصين واليابان وكوريا الجنوبية كما هو مخطط لها في شهر فبراير المقبل.وكما هي الحال مع الحرب الباردة فإن جزءاً من المشكلة يكمن في قراءة كل من الصين واليابان لخطوات الطرف الآخر على شكل تحديات أو تهديدات، ورغم مستويات انعدام الثقة بين الصين والولايات المتحدة لم تصل المشكلة إلى هذا المستوى (حتى الآن). ولدى الولايات المتحدة الكثير من الأعداء المحتملين (روسيا وايران وكوريا الشمالية) والعديد من المصالح العالمية للصين كي تترجم بشكل واقعي كل مناورة دبلوماسية أو استراتيجية على أنها بشكل ما ضد الصين (على الرغم من محاولة مؤكدة من بعض صقور الصين للقيام بذلك). أما مع اليابان مع حضورها العالمي المحدود بقدر أكبر وكذلك مصالحها الاستراتيجية فالرواية مختلفة. وفي غضون ذلك، ومع تحديد الصين لعملية بناء قوتها العسكرية وأهدافها الاستراتيجية بحيث تقتصر على البحار القريبة فإن من السهل بالنسبة إلى طوكيو أن تترجم كل خطوة (على سبيل المثال منطقة الدفاع الجوي الجديدة) على أنها موجهة مباشرة نحو اليابان.كتب زميلي زاخاري يوم الجمعة الماضي يقول إن واحدة من النتائج الثانوية لتراجع الولايات المتحدة قد تتمثل بظهور هيمنة إقليمية. وقد نشهد بداية تلك العملية الآن مع دخول الصين واليابان في معركة على غرار الحرب الباردة، ليس من أجل قوة عالمية بل من أجل هيمنة اقليمية. ويبرز النزاع الإقليمي ذلك من خلال زيادة إمكانية حدوث نزاع عسكري، لكن إذا غرقت جزر "دياويو"- "سينكاكو" في البحر غداً (وهو أحد الفوائد المحتملة للاحتباس الحراري)، فإن التوترات سوف تستمر. إنها حرب باردة تُشن في الوقت الراهن عبر الكلمات، لكن مع سباق تسلح يلوح في الأفق. وعلى غرار الحرب الباردة، فإن من غير المرجح أن تنتهي التوترات حتى تدعي دولة ما تحقيق الانتصار.